أمريكا التي لا نعرفها

أمريكا التي لا نعرفها

06052014_amerique

في حديث أخير للرئيس الأميركي باراك أوباما، قال إنه في كل اتصالاته وزياراته الخارجية، يسأله العالم: «ما الذي يجري في الولايات المتحدة؟»، بشكل ما فإن العالم مندهش من مسار الانتخابات التمهيدية، ليس فقط بالسبق الذي أحرزه دونالد ترامب في الحزب الجمهوري، وإنما بالمسار الذي سار فيه الصراع السياسي، والذي وصل إلى التنابز بالألقاب، وتوجيه الإهانات إلى زوجات المرشحين، وانسحاب كل من تبقى في المنافسة الجمهورية من الالتزام بتأييد مرشح الحزب في الانتخابات.

وعند الديمقراطيين، وعلى الالرغم من أن بعضا من التهذيب ساد، فإن المنافسة على ترشيح الحزب انحدرت تدريجيا إلى مستويات لم تعرف من قبل، وحصل برني سوندورز، المنافس لهيلاري كلينتون، على ما لم يكن متوقعا من فوز في ولايات. فما الذي يا ترى يحدث بالضبط في الولايات المتحدة، التي هي من الأهمية الاستراتيجية والعالمية، بحيث يصعب تجاهل ما يجري فيها؟

الحقيقة أنه مضى الآن أكثر من ربع قرن على انهيار الاتحاد السوفياتي، وانفراد الولايات المتحدة بلقب القوة العظمى والوحيدة في الدنيا. ولكن الحقيقة أيضا أنه على الرغم من أن بعض الأميركيين الذين عرفوا بالمحافظين الجدد تصوروا أن هذا الوضع دائم، وأن القرن الحادي والعشرين من الممكن أن يكون قرنا أميركيا، بقدر ما كان القرن السابق عليه. فإن الزمن عرف ثلاثة تطورات مهمة: أولها أن الولايات المتحدة استنزفت قوتها في حربي أفغانستان والعراق، وكلتاهما لا تزال جارية بشكل أو بآخر. وما ورد من أن حرب العراق وحدها تكلفت أكثر من تريلوني دولار، ليس بالقدر القليل من التكلفة، والأزمة المالية الأميركية/العالمية في عام 2008 استندت إلى هذه التكلفة. وثانيها أن القوة النسبية للولايات المتحدة تغيرت أيضا سلبيا، نتيجة تصاعد القوة الصينية والهندية، وحتى روسيا استعادت بعضا من هيبتها بعد تولي بوتين للسلطة. الناتج المحلي الإجمالي للصين قارب كثيرا ذلك الخاص بالولايات المتحدة، ويتكافأ معها إذا ما جرت الحسابات وفقا لقاعدة القوة الشرائية للدولار. والأخطر من ذلك أن صناعات بأكملها هاجرت الولايات المتحدة إلى الدول الآسيوية، وباتت الهند والصين تنافسان في مجال الأقمار الصناعية والبرمجيات. صحيح أن الولايات المتحدة لا تزال القوة العسكرية الأولى، وهي الوحيدة التي لديها انتشار كوني بين حاملات الطائرات وتجهيزات الحروب الإلكترونية، وفي العموم، فإنها تكاد تحتكر مجالات صناعية خاصة بالمعلومات والفضاء والطيران والهندسة الوراثية والبحوث الدوائية. ولكن النقطة المراد التركيز عليها هي «القوة النسبية» وليست القوة المطلقة لواشنطن، وهي التي تراجعت خلال العقد الأخير، بفارق كبير عما كانت عليه الحال في العقد الأول بعد انتهاء الحرب الباردة.

ثالث التطورات المهمة التي جرت للولايات المتحدة، يرتبط بتركيبتها الاجتماعية نتيجة الهجرات الضخمة التي ذهبت إليها، ولم ترفع فقط عدد السكان، وإنما مع الزيادة هبط التجانس الاجتماعي والثقافي للأميركيين. فما كان يقال عن أن أمرا هو أميركي مثل «تورتة التفاح As American As the Apple Pie»، لم يعد واردا في ظل التنوع الضخم على الساحة الأميركية. صحيح أن هذا التنوع جعل الولايات المتحدة غنية بثقافات وخبرات متعددة، ولكن هذا التنوع بات مثيرا لقدر كبير من الانقسام والاستقطاب السياسي والاجتماعي غير مسبوق في أميركا، على الأقل في التاريخ القريب. هذا الانقسام والاستقطاب ظهر بقوة أثناء الحملات الانتخابية التمهيدية لاختيار مرشحي الحزبين الجمهوري والديمقراطي حيث أصبح موضوع الهجرة، والعلاقة مع المسلمين، من الموضوعات الرئيسة للخلاف السياسي.

ببساطة، فإن أميركا تتغير بشدة نتيجة استقطاب حادث بعمق في اليمين واليسار معا. في اليمين، دونالد ترامب، كما أشرنا في مقالات سابقة، لم يقف فقط ضد المهاجرين والمسلمين وغيرهم، وإنما طبع حملته الانتخابية بطابع انعزالي واضح، اختفى تقريبا من الساحة الأميركية منذ انتصاره الكبير في أعقاب الحرب العالمية الأولى، عندما تقاعست أميركا عن اللحاق بعصبة الأمم، وكان ذلك واحدا من أسباب نشوب الحرب العالمية الثانية.

ترامب من ناحيته طرح لأول مرة، مدى فائدة وجود الولايات المتحدة في حلف الأطلنطي؛ وكذلك معاهدة الدفاع اليابانية الأميركية؛ والعلاقات الدفاعية الخليجية/ الأميركية. باختصار كل تحالفات أميركا العسكرية، وأسواقها الاقتصادية، وتوسعاتها التجارية، سواء من خلال العلاقة الأطلنطية أو «نافتا» (اتفاقية شمال أميركا للتجارة الحرة، وتضم الولايات المتحدة وكندا والمكسيك)، أو من خلال اتفاقيات التجارة العابرة للمحيط الباسفيكي.

من اليسار، فإن المرشح بيرني سوندورز طرح بكل قوة، هجوما على النظام الاقتصادي والاجتماعي الأميركي، باعتباره صار فريسة لشارع المال والشركات الأميركية الكبرى العابرة للقارات، والرأسمالية المتوحشة التي تلوث المجال الإعلامي والسياسي بالأموال وجماعات المصالح. ما قال به سوندورز ليس جديدا بالمرة، فالماركسيون والشيوعيون الأميركيون، وفي العموم اليسار الأميركي، قالوا به منذ وقت بعيد؛ ومن جانبهم فإن الشركات الكبرى لم تكن هي التي قامت ببناء أميركا، وإنما هي الآن التي تدمرها. الجديد هذه المرة أن هذه الأقوال التي كانت دوما هامشية، صار لها جمهور واسع كان في العادة يميل إلى الوسط السياسي والليبرالية السياسية، ولكنه بات الآن يلفظ هيلاري كلينتون ومن كانوا على شاكلتها من مرشحي «المؤسسة».

المدهش أن كلا من ترامب وسوندورز باتا يجذبان السياسة الأميركية بقوة بين اليمين واليسار، معتمدين في ذلك على وسط اجتماعي متشابه. فالشباب وصغار السن على سبيل المثال يكادون يمثلون العصب الخاص بالطرفين وجمهورهما الأساسي، استنادا إلى أن الأول سوف يجعل من خلال حركته السياسية، وليس حملته السياسية، أميركا دولة عظيمة مرة أخرى؛ أما الثاني فإنه يشعل ثورة «سياسية» في أميركا تنقذها من سيطرة رأس المال وجماعات المصالح. وعلى تباعدهما السياسي، فإن كليهما يستند إلى طبقة العمال الصناعيين القادمين، الأقل تعليما من مدن صناعية أفلت صناعاتها، وتواضعت قدرتها على المنافسة العالمية (صناعة الحديد والصلب والصناعات الثقيلة عموما). كذلك فإن كليهما يعتمد على الشرائح العليا من الطبقة الوسطى البيضاء في الولايات الأميركية المختلفة، والتي ترى أن حلفاء أميركا يسرقونها، أو ترى أن الفساد السياسي في الانتخابات الأميركية لم يعد ممكنا احتماله. ولا توجد صدفة أن كليهما يتخذ مواقف مناهضة لحرية التجارة العالمية، وكليهما يزعم أنه يقود عملية تغيير واسعة النطاق، سياسية واقتصادية واجتماعية.

هل يعني ذلك أن أيا من ترامب أو سوندورز سوف يفوز بالرئاسة الأميركية؟ الظن أن ذلك لا يزال صعبا، وربما لا يكون الفوز ممكنا هذه المرة، ولكن ما لا يمكن تجاهله أن هناك عملية تغيير سياسية عميقة تجري على الساحة الأميركية. وأن هناك إجماعا بين المحللين والمراقبين أن انتخابات 2016، تحمل في طياتها ما لم يحدث من قبل في التاريخ الأميركي المعاصر. فقد عرفت أميركا باري جولد ووتر في الستينات، كما عرفت رونالد ريغان في الثمانينات من القرن الماضي. وعلى اليسار عرفت في الثلاثينات والستينات نزعات يسارية عديدة، ولكن أيا منها يسارا ويمينا، لم يصل إلى ما وصلت إليه الحال الآن على الساحة السياسية الأميركية. المشهد مثير وعلينا أن ننتظر ونرى!

عبد المنعم سعيد

جريدة الشرق الاوسط