بعد أكثر من خمسة أعوام على بدايات هبوب عواصف ما يسمى «الربيع العربي»، الذي مرَّ على بعض الدول العربية مرور الكرام و«بردًا وسلامًا»، والذي استوطن بزمهريره ورياحه الهوجاء المدمرة دولاً عربية أخرى، بتنا نسمع من بعض الذين طفح كيلهم، والذين من الممكن اعتبارهم من المؤلفة قلوبهم، اتهامات مجحفة وقاسية لهذا «الربيع» واعتباره كارثة حلت بالأمة العربية لمصلحة «العدو الصهيوني» و«الإمبريالية العالمية»، والبعض من هؤلاء يقول: وأيضًا لمصلحة إيران الشعوبية والفارسية!
والسؤال الذي يجب طرحه في البدايات قبل الاستطراد في مواصلة الحديث عن هذه المسألة هو: لماذا يا ترى مرّ هذا الربيع العربي على بعض الدول العربية بسرعة «وسلاسة» ومن دون كوارث اجتماعية ووطنية، في حين أنه «استوطن» دولاً عربية أخرى وأحل فيها الخراب والدمار وحول تعارضاتها وتناقضاتها من ثانوية إلى رئيسية وإلى حروب طاحنة كانت حصيلتها حتى الآن ملايين المهجرين واللاجئين، وأيضًا ملايين الجرحى والمشردين ومئات الألوف من القتلى الذين مزقت أجسادهم قذائف المدافع والصواريخ والطائرات والذين ابتلعتهم بحور الظلمات؟
لقد ضرب هذا «الربيع العربي» الأردن كما ضرب دولاً عربية أخرى، لكنه مر على هذا البلد، المملكة الأردنية الهاشمية، مرور الكرام وبردًا وسلامًا، مع أن بعض الذين تفرحهم مصائب أشقائهم قد سارعوا إلى محاولات صب الزيت على النار ودفعوا جماعة الإخوان المسلمين دفعًا لتحويل تظاهرات ومسيرات المطالب السلمية إلى مواجهات ساخنة وإلى عنف أهوج وإلى صدامات مسلحة.
لقد تركت الدولة الأردنية للأردنيين حرية التعبير عما يريدونه بالتظاهرات والوسائل السلمية وبالبيانات شديدة اللهجة في كثير من الأحيان، لكنها كانت حازمة وحاسمة في عدم استخدام القوة ضد هؤلاء، وكانت النتيجة أنْ مرَّ هذا الربيع العربي بسلام، وأنْ تعززت الوحدة الوطنية وتعزز التلاحم الاجتماعي وتحقق مزيد من الإصلاحات، وترسخت التجربة الديمقراطية التي جاءت في عام 1989 استئنافًا لتجربة عام 1956، التي أدت إلى توقفها لأكثر من ثلاثين عامًا نزعة الانقلابات العسكرية، التي كانت انعكاسًا لما جرى في مصر عام 1952 ولسلسلة الانقلابات العسكرية السورية، التي كانت بدأت بانقلاب حسني الزعيم في عام 1949.
ولهذا ولأن صاحب القرار قد تصرف بحكمة وبسعة أفق، ولأنه تَرَك للشعب الأردني أن يعبر عن نفسه بكل الوسائل السلمية، وحيث لم تسقط ولا قطرة دم واحدة ولم تتوقف المسيرة الديمقراطية ولا للحظة واحدة أيضًا، فإن الأردن، المحاصر بالنيران وبالأزمات وبالقتل والاقتتال من الشمال والشرق ومن الغرب كذلك، بقي ينعم بهذا الاستقرار وبقي ينشغل بقوانين الانتخابات وبـ«اللامركزية» وبتطوير وسائل الإعلام وتعزيز المسيرة الحزبية، وفوق هذا كله مواصلة لعب هذا الدور الفعال، الذي لا يزال يلعبه في حل كثير من المشكلات والإشكالات الإقليمية والدولية.
ثم وإن ما يمكن قوله في هذا المجال هو أن ربيع الشقيقة العزيزة مصر كان هو أيضًا رقيقًا و«حنونًا»، قياسًا ومقارنة بما يجري في سوريا وفي ليبيا، وهذا يجب قوله بصراحة وبشجاعة، فإن الفضل بالنسبة لعملية التحول السلمي هذه التي تمت في أرض الكنانة يعود أولاً للشعب المصري وللقوات المسلحة المصرية.. وأيضًا للرئيس حسني مبارك الذي اختار التنحي في اللحظة الحاسمة، والذي لم يفعل ما فعله القذافي وما فعله علي عبد الله صالح وما فعله «ديكتاتور» سوريا بشار الأسد، الذي استكمل مسيرة والده في ارتكاب المذابح الجماعية وفي تدمير المدن السورية على رؤوس أهلها، وكانت النتيجة هو كل هذه الويلات التي تجري في هذه الدولة العربية الطليعية.
إن المشكلة لا تكمن في الربيع العربي، بل تكمن في الأنظمة الاستبدادية التي استقبلته بالعنف والقتل وبمزيد من اضطهاد شعوبها، فصاحب «الجماهيرية» الكريهة والرديئة لم يكتف بأكثر من أربعين عامًا من حكم فردي استبدادي وبدائي، ذاق خلاله الشعب الليبي الأمرين، ونهبت ثرواته وجرى تبديدها على المشاريع الفاشلة وعلى الإرهابيين والمرتزقة والتجارب الوحدوية المضحكة، فبادر إلى مواجهة ربيع الليبيين الذي كان من الممكن أن يكون سلسًا ورقيقًا وهادئًا بتلك الطلّة المرعبة من شرفة وكره في المنطقة المحرمة وبالطائرات والحديد والنار وبزمر القتل من المرتزقة والمجرمين، فكان لا بد مما لا بد منه بد، وكانت النتيجة أن أصبحت أبواب ليبيا مشرعة أمام «داعش» وأمام تدخلات الدول، التي سعت ولا تزال تسعى للتدخل في الشؤون الداخلية الليبية وفي شؤون سوريا، وأيضًا في شؤون اليمن.
إن هذا بالنسبة لليبيا التي أُخرجت من جلدها خلال أكثر من أربعين عامًا من حكم فردي أهوج ومتخلف، أما بالنسبة لسوريا التي عرفت أول التجارب الحزبية والديمقراطية والبرلمانية في الوطن العربي، بمشرقه ومغربه، فإنها ابتليت بأول انقلاب عسكري في عام 1949، ذلك الانقلاب الذي قطع الطريق على أول عملية سياسية كان على رأسها شكري القوتلي وحزب الشعب والحزب الوطني.. وبمشاركة لاحقة من حزب البعث، والذي تلاه نحو عشرين انقلابًا عسكريًا، بعضها معلن وبعضها غير معلن انتهت بانقلاب حافظ الأسد على رفاقه في عام 1970، وحيث تحول النظام بعده إلى نظام عائلي – طائفي، وليس لنظام الطائفة العلوية ولا حكمها الذي كان دور الطوائف الأخرى فيه، حتى الطائفة السنية، التي تصل نسبتها إلى ما يقدر بنحو سبعين في المائة من مجموع عدد سكان «القطر العربي السوري»، مجرد وضعية «ديكورية» ظاهرها غير باطنها ومراكز القوى فيها غير تلك الرموز التي كانت ولا تزال تظهر في المؤتمرات وفي المناسبات وعلى شاشات الفضائيات المحلية وغير المحلية.
وهكذا وعندما انطلقت شرارة «الربيع العربي» من درعا في مارس (آذار) 2011، فإن سوريا كانت مثخنة بالجراح وكانت متورمة بالأحقاد والقهر، وكانت قد تعرضت لحملات «تطهيرية» ومذابح إبادة جماعية كثيرة، أبشعها مذبحة حماة الشهيرة في عام 1982، ولعل ما زاد الأمور سوءًا وتوترًا، هو أن الرد على تظاهرة الأطفال في هذه المدينة السورية الجنوبية كان بالقمع والتبشيع و«فرمْ» الأصابع، وأن الرد على التظاهرات السلمية اللاحقة كان بالرصاص وبقذائف المدفعية وبغارات القوات الخاصة، وهذا كله قد أدى إلى أن يصبح ربيع هذا البلد العظيم هو هذا الربيع العاصف والدموي والمدمر، ولهذا فإن المشكلة لا تكمن في الربيع العربي، وإنما في هؤلاء الذين كانوا بدأوا حكمهم بانقلاب عسكري على رفاقهم، والذين أرسوا دعائم هذا الحكم الاستبدادي بالمذابح والاضطهاد، وبالاستحواذ على المواقع الرئيسية في الدولة السورية التي حولوها إلى دولة بوليسية ودولة سجون ومعتقلات ومذابح جماعية.
صالح القلاب
صحيفة الشرق الأوسط