مع ارتفاع حرارة المعارك ضد تنظيم داعش في العراق وسورية، وتواتر مشاهد من الفلوجة وغيرها، تظهر اندفاعات انتقامية، فتكاً وتهجيراً وإذلالاً، طاولت أوساطاً إسلامية شعبية من العرب السنة.
يلح السؤال عن سبب الصمت وإشاحة النظر عما يجري؟ ولمَ يستمر المجتمع الدولي في منح أولوية قصوى لخطر التطرف السني، ويميل في مواجهته لمهادنة وتغطية، وحتى التحالف مع، جماعات تنتمي لمذاهب أو قوميات أخرى لا تقل عنه تطرفاً؟ هل يكفي تفسير الأمر بعقدة أحداث أيلول (سبتمبر) 2001، وما تلاها من عمليات إرهابية نفذت في بعض العواصم الغربية؟ أم بالانتقام مما كابده الجيش الأميركي إبان وجوده في العراق على يد القاعدة والجماعات الجهادية؟ أم ثمة دوافع أعمق تتعلق ببنية هذه الجماعات وما تحمله من أخطار؟
لا يخطئ من يرجع الأمر إلى الطابع الجذري والاستفزازي، أيديولوجياً وسياسياً وأخلاقياً، لمشروع التطرف الإسلاموي السني، إن لجهة مجاهرته برفض كل الحواضر العالمية واستباحة مختلف بقاع الأرض لإقامة دولة الخلافة، وآخرها مأساة تنظيم داعش! وإن لجهة إفراطه في التشدد والعنف واستهتاره بأبسط حقوق الإنسان، متوسلاً الإرهاب وتعميم صور بغيضة لأشنع أنواع القهر والاضطهاد لفرض سطوته ولإخضاع البشر. وما يعزز الأولوية الغربية في مواجهة الجهاديين السنة، إشهارهم مناهضة الهيمنة الأميركية والأوروبية على بلاد المسلمين بصفتها صورة من صور إذلالهم الديني واستعلاء الكفار، ورفضهم المطلق لحضارتها بصفتها حضارة تعادي مبادئ الإسلام وقيمه. فكيف الحال حين تسوغ هذه الجماعات شن هجمات إرهابية ضد المدنيين الغربيين لمجرد أن مجتمعاتهم تبيح حرية المعتقد وتسمح لمواطنيها أن ينتقدوا، رسماً أو كتابة، رموزاً دينية تجدها حكراً عليها؟ وكيف الحال حين يذهب تعصبها الأعمى إلى اعتبار كل ما عداها سواء، مسلمون كفروا أو يهود وصليبيون يحل قتلهم أو إبادتهم؟! وكيف الحال حين تتفنن دولة تنظيم داعش في إطلاق عبارات التحدي ضد الغرب وتجاهر برغبتها في تدميره؟ ومن ينسى تهديدات جون السفاح، قبل ذبحه المراسل الأميركي ثم الصحافي البريطاني، عن الانتقام الوشيك، وأن راية الخلافة الاسلامية سوف ترفع قريباً فوق قبة البيت الأبيض ومبنى مجلس الوزراء البريطاني؟!
من جهة أخرى، لا يجانب الصواب من يربط ازدياد الخشية الغربية من الجهاديين السنة بقدرتهم على التجدد وتزايد فرص نفوذهم شعبياً، وبخاصة استثمار ما يسمى «المظلومية السنية» وحالة احتقان المسلمين المزمنة من القهر والاستهتار بحقوقهم، لكسب المزيد من الأنصار في أوساط المسلمين الأوروبيين والأميركيين، ولا يقصد هنا مظالمهم في فلسطين أو غيرها من مناطق النفوذ والصراع الإقليمي، بل أيضاً شعور بعض المسلمين الغربيين بالتهميش وبأنهم لا يمتلكون فرصاً متكافئة مع الآخرين. وما يزيد الأمر حدة انتشار ظاهرة الاسلاموفوبيا وتشكيك بعض الأوروبيين والأميركيين في فئات من الجاليات المسلمة على أنها تتعاطف سراً مع الإرهابيين وتتهرب من دورها في الدفاع عن أمن المجتمع الذي تعيش فيه وسلامته، ومن أمثلتهم ما أظهرته بعض الجاليات من حماسة للمشاركة بإدانة الرسوم المسيئة للرسول الكريم، بينما غابت ردود أفعالها الشعبية ضد ما حدث ويحدث من إرهاب طاول مواطنين يشاركونها الحياة ذاتها.
في المقابل، ثمة من يعتقد بأن غياب مرجعية دينية وسياسية للتنظيمات الإسلاموية السنية لعب دوراً إضافياً في تنامي مخاوف الغرب منها، فليس من مصدر واحد يمكن التعاطي معه لفهم أهدافه وتقدير اندفاعاته، بل مرجعيات تتنافس وتتباهى وللأسف، ليس على الأفضل لبلاد الإسلام والمسلمين، بل على تمثل الأفكار الأشد تكفيراً وتطرفاً، واستحضار أعنف ممارسات جرت في مسيرة انتشار الإسلام واعتبارها المرشد والدليل.
وطبعاً لا يخلو الميدان من رؤية تآمرية تربط دافع الغرب في توجيه كل الجهود ضد الجهاديين السنة بمصلحة إسرائيلية، استفادت إلى حين من تسعير الصراعات المذهبية في المنطقة لإضعاف شعوبها واستنزاف قدراتها، لكنها تتحسب اليوم من خطورة تنامي التطرف الإسلاموي وتأثيره على الكتلة السنية الكبيرة المحيطة بها، ما يشكل تهديداً لأمنها الاستراتيجي واستقرارها.
ونسأل، بعد النتائج الهزيلة لأكثر من عقد على استراتيجية مكافحة الإرهاب، وحربين واسعتين في أفغانستان والعراق، وعامين من الضربات الجوية ضد تنظيم داعش، إلى متى تستمر الحكومات الغربية في التجريب بدماء الشعوب حتى تدرك أن الخيار العسكري والأمني عاجز عن هزيمة الإرهاب، إن لم يترافق مع معالجة أسبابه السياسية والثقافية والاقتصادية. والأهم أنه لا يمكن استئصال شأفة التطرف السني وعنفه من دون رفض كل أنواع العنف والتطرف الأخرى، التي تزيد من فرص تجدده واستمراره. ونسأل أيضاً ألا يعزز قيام تحالفات مريبة يحدوها رهان غربي على تسعير الصراعات القومية والمذهبية للنيل من الجهاديين السنة وحاضنتهم الاجتماعية، ألا يعزز ذلك الدوافع المذهبية للالتفاف حولهم، ويفسر استمرار حضورهم وأخطارهم في البلدان العربية والغربية على حد سواء؟!
لماذا يكرهوننا؟ هو السؤال الذي لا يزال الغربيون يتداولونه منذ أحداث أيلول 2001 وهو السؤال ذاته الذي يفترض بالعرب المسلمين طرحه اليوم على أنفسهم مع تنامي كره الرأي العام الغربي لهم.
هل يكمن الجواب بأن الفكر الجهادي بإرتكاباته الدموية وتعبئته الأصولية المجبولة بكراهية الآخر يحسب علينا ويتغلغل فينا من دون بذل جهود كافية لتعريته فقهياً ومحاصرته شعبياً؟ أم يكمن بتأخرنا في التصالح مع الحداثة، وتقصيرنا في تصويب علاقة الديني بالدنيوي، والتأسيس لرؤية جريئة تحدث قطيعة نهائية بين الدين والدولة؟ أم يكمن الجواب في إهمالنا معالجة الأسباب الموضوعية للتطرف والعنف الإسلامويين اللذين لا ينتعشان إلا من تردي حياة المسلمين وتعرضهم للتمييز والحرمان ولنزعات الاستفزاز والاستخفاف الطائفيين، ولا يترعرعان إلا كرد فعل مشوه على مناخات الظلم والاستبداد وتخلف مقومات النهوض السياسي؟!
أكرم البني
صحيفة الحياة اللندنية