ولا يُنكر المراقب المتابع عن كثب للوضع العراقي، وسير المعارك المتواصلة فيه، والتي تؤكد أن “داعش” في طريقه إلى تلقي هزيمةٍ استراتيجيةٍ في العراق، القول إن الطريق الوعر لتحرير الفلّوجة مقدمة لتحرير الموصل، لا سيّما بعد تحرير محافظة صلاح الدين وعاصمتها تكريت، والقسم الأكبر من محافظة الأنبار وعاصمتها الرمادي، إضافة إلى مدن حديثة وكبيسة وهيت والقائم وغيرها، لكن هزيمة “داعش” في الموصل. و بالتالي، في كل العراق، تحتاج بلورة استراتيجية وطنية لإعادة بناء الدولة العراقية.
ذلك أن تنظيم داعش نما وترعرع، بعد أن تحول ربيع الثورات العربية إلى شتاءٍ قاسٍ، وفي ظل التفكّك الذي تعيشه الدول العربية الشرق أوسطية، عندما بلغ مشروع التطرّف والتكفير مداه الأقصى، بإعلان ولادة الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، واختيار خليفة لقيادتها هو أبو بكر البغدادي في 29 يونيو/ حزيران 2014، وأصبح لتنظيم داعش، بوصفه تنظيماً إرهابياً تكفيرياً عابراً للحدود، نمط حياة ودولة وخليفة وهوية.
وفضلا عن ذلك، أسهمت أخطاء حكومة نوري المالكي السابقة وخطاياها في فتح أبواب الجحيم على العراق منذ مطلع سنة 2014، حين أجاد المالكي في الانقلاب على شركائه السياسيين، ولاسيما بعد أن فضّ بالقوة اعتصام مدينة الرمادي، مركز محافظة الأنبار (غرب)، ورفض القيام بالإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كان يطالب بها العرب السنة، من أجل أن يكونوا على قدم المساواة مع الآخرين، بعد أن مورس الإذلال والتمييز والتهميش ضدهم منذ احتلال العراق العام 2003، فضلاً عن عدم تلبية مطالبهم الاحتجاجية وتعويض المناطق التي يقطنونها عمّا لحق بها من غبن وأضرار، خصوصاً بسبب غياب إرادة ومنهج للمصالحة الوطنية الحقيقية، وإصدار عفو عام وإطلاق سراح الأبرياء التي ظلّت السجون تغصّ بهم، إضافة إلى ردّ بعض الحقوق المهنية والوظيفية. فتنظيم داعش هو ابن الاحتلال الأميركي للعراق، ولأنه في ظل ذلك الاحتلال، انتشرت ثقافة العنف الطائفي التي كانت تتفاخر القوى الطائفية بممارستها على الملأ، ولا تزال. إنها ثقافة القتل والعنف الطائفيين، ثقافة العراق الجديد، ثقافة عراق الولايات المتحدة الأميركية، فقد أصبح العراق يعيش، منذ ذلك الوقت، مدًّا غير مسبوق للقوى الدينية الطائفية والرجعية، فهذه القوى تكرّس قوى الطوائف، وتضعف دور القوى الوطنية والديمقراطية، وتهدّد بقيام “دولٍ” أحادية الطائفة، لأن الوفاق الطائفي مستحيل، ما لم يلبّ مطالب كل الطوائف، أو يفرض هيمنة بعضها على بعضها الآخر. ولأن السياسة الأميركية – الصهيونية تؤيد التبلور الطائفي هذا الذي يقود، حتماً، إلى تقسيم العراق.
وقد عجزت الأحزاب المتبرقعة بالطائفية والقبلية والمذهبية، وارثة الدولة الشمولية العراقية في
زمن الاحتلال الأميركي، أن تبني دولةً وطنيةً عصرية، لأن هذا ليس في برنامجها، ولا هي مؤهلة له، كما أنها استبدلت ثقافة العنف الوطني الذي كان سائداً في العهد الديكتاتوري السابق بثقافة العنف الطائفي- المذهبي الذي تتسربل به حكومة نوري المالكي السابقة، وحكومة حيدر العبادي في الوقت الحاضر، وغيرها من الأحزاب والمليشيات الشيعية المستقوية بإيران. وقد انتقل المجتمع العراقي بذلك من ثقافة عنف الدولة الشمولية إلى ثقافة كابوس العنف الطائفي، وفرق الموت، والإرهاب الأعمى، والقتل على الهوية. تلك هي صورة العراق الجديد الذي يتماهى مع أيديولوجية “الفوضى الخلاقة” التي روَّجَها المحافظون الجدد في عهد إدارة الرئيس الأميركي، جورج بوش الابن.
المدخل الواقعي لهزيمة “داعش” في العراق عسكرياً وسياسيًا وأيديولوجياً، يكمن في إعادة بناء الوحدة الوطنية في الدولة العراقية، باعتبارها الصيغة التي تتحدّد، في ضوئها، مهمات إعادة بناء الدولة الوطنية في العراق، وهي مهمات معقدة ومتداخلة. وإذا كان من الضروري إيضاح الخطوط الرئيسية لاستعادة بناء الدولة الوطنية العراقية، فإن هذه الخطوط:
أولاً: تحقيق التحول الديمقراطي في العراق، والتحول الديمقراطي في الدلالة اللفظية، هو النظام السياسي الذي يشهد تحولاً ديمقراطياً يمر بمرحلةٍ انتقاليةٍ بين نظام غير ديمقراطي في اتجاه التحول إلى نظام ديمقراطي. وبناءً على ذلك، التحول الديمقراطي هو عملية تهدف إلى إعادة النظر في خريطة القوة على مستوى النظام السياسي، والعمل على إعادة التوازن بين القوى الرسمية المتمثلة في الدولة والمؤسسات غير الرسمية متمثلةً في منظمات المجتمع المدني، فالتحول الديمقراطي يعني تغييراً جذرياً لعلاقات السلطة في المجال السياسي وعلاقات التراتب في الحقل الإجتماعي.
ثانياً: المقدمة الأولى لإعادة بناء الدولة الوطنية العراقية وضمانة تحوّلها إلى دولةٍ ديمقراطية، تكمن في تحقيق الاندماج القومي، ونقصد به تصفية البنى والعلاقات ما قبل الوطنية، والانتقال من مفهوم الجماعة إلى مفهوم المجتمع المدني. ومن مفهوم الملّة الديني إلى مفهوم الأمة العلماني والديمقراطي. ومن وضعية التكسر المجتمعي وتحاجز فئات المجتمع إلى الوحدة المجتمعية السياسية. وسيرورة الاندماج القومي هذه هي نفسها سيرورة نمو المجتمع المدني العلماني، وسيرورة بناء الدولة الوطنية وفق مقتضيات العقل ومطلب الحرّية.
ثالثاً: الدولة الوطنية هي التي تتبنى العلمانية، بفتح العين، وهي التنمية المنطقية والتاريخية للإنسانوية، تعني، على المستوى الوجودي، رفض أي سلطةٍ على عقل الإنسان وضميره، سوى سلطة العقل والضمير. وتجلى ذلك في رفض سلطة المؤسسة الدينية، لا رفض الدين، أي رفض سلطة مؤسسة “الدين الوضعي” التي كانت، ولا تزال، تؤسس الاستبداد الديني وتعزّزه، وتؤازر الاستبداد السياسي وتعزّزه. وعلى هذه القاعدة، لا يحق لأي جماعةٍ أن تفرض عقيدتها الدينية أو الدنيوية على المجتمع، ولا يحق لها كذلك أن تغضّ من شأن المعتقدات والمذاهب الأخرى. العلمانية، بهذا المعنى، هي التجسيد العملي للمساواة.
رابعاً: الدولة الوطنية هي التي تتبنّى العمومية، فتكون الدولة، بهذا التعريف، دولة جميع مواطنيها بلا استثناء ولا تمييز، دولة الكل الاجتماعي، لا دولة طبقة رأسمالية أو بروليتارية، ولا دولة جماعة إثنية أو عشيرة أو جماعة إسلامية، و لا دولة حزب، ولا دولة طغمة تحتكر السلطة والثروة والقوة. المجتمع المدني هو الذي ينتج الدولة السياسية، أي الدولة الوطنية، تعبيراً عن كليته ووحدته التناقضية، بما هو مجتمع الأفراد المختلفين والجماعات المختلفة والطبقات أو الفئات الاجتماعية المختلفة ذات المصالح المتعارضة.
خامساً: الدولة الوطنية هي التجسيد الواقعي لدولة القانون والمؤسسات.