ما يهمنا، نحن العرب، في هذا الأمر، أو كما يسميه بعضهم الدروس التي علينا أن نستخلصها منه هو اصطناعية الانتماء. إذ يعد الانتماء، بقطع النظر عن وعائه: (سياسي، ثقافي أو ديني)، اصطناعياً مهما موّه على أساس أنه نتيجة الطبيعة والروح. ينتمي البشر إلى جماعات اصطناعية، لكنها توهم أنها طبيعية ناجمة عن الدم والأرض والتاريخ و(الجنس والعرق، اللغة …). وينسى هؤلاء، لاسيما منظّروهم ونخبهم ومفكروهم أو زعماؤهم، أن الذين يمدّون تلك الانتماءات بمقولاتٍ وتنظيراتٍ، حتى تجعلها أمة مثلاً في أوروبا، خلال أواخر القرن التاسع، أنهم يجانبون الصواب، ويتحايلون على التاريخ نفسه. أما في أرض العروبة والإسلام، فقد رأينا عديدين من منظري الأمة العربية، خصوصاً في أواخر أربعينات القرن الماضي وبداية النصف الثاني منه، يجعلون من هذا الانتماء رسالةً تاريخيةً هي صنو الوحي. في حين أن حقيقة الأشياء مختلفةٌ تماماً مع هذه الأطروحات، فالانتماء مقولة ذهنية، وهي ليست حقائق شعورية وتاريخية وثقافية، إلا بقدر ما كانت أبنيةً فكريةً اصطناعيةً، اجتهد البشر في الارتقاء بها من خلال الذهن والشعور والإرادة والرغبة في العيش المشترك إلى مرتبة متعالية توهم بانتماءاتٍ أبدية وسرمدية.
يذهب بعضهم إلى دسترة (إدراجها في الدستور) تلك الانتماءات، والتنصيص عليها في أهم النصوص التشريعية. وربما أوغل بعضهم، ودرسها في المقرّرات والمناهج التربوية، وجعلها قدر الجماعة السياسية ومصيرها إلى حد الرهاب. كان ذلك حال جل البلدان العربية التي أفردت دساتيرها فصولاً مهمة للهوية والانتماء، في أشكال مختلفة من التعريفات، ولم تنج دول الربيع العربي، ولا حتى أنظمتها “الليبرالية المنفتحة” (تونس، المغرب…) من هذا التوجه، خصوصاً في ظل أزمات هووية استفحلت في ظل استقطابٍ حادّ بين الإسلاميين وغيرهم من
الليبراليين واليساريين والعروبيين. يقدّم لنا الاتحاد الأوروبي، في حالات فشله وتعثره معاً، على غرار انسحاب بريطانيا ومعارك الانضمام إليه، وشروطه بما فيها الرفض المؤقت لتركيا، درساً بيداغوجياً بليغا، ذلك أن بناء الانتماءات أمر مختلف عمّا ولعنا به، نحن العرب، فهو ليس قدراً ولا ماهيةً متعالية، كما ذكرنا سابقاً، إنما مصالح وتوافقات وصراع إرادات مختلفة ضمن لعبةٍ شرسة يحترم فيها الجميع القواعد. فلن يكف البريطانيون عن أن يكونوا أوروبيين بشكلٍ ما، ولن يكون ذلك الشكل، على ضبابيته وعلاته، لبعضهم، وأهميته وجدواه لبعض آخر، مدعاةً لنكران أنهم بريطانيون إلى حدّ ما، وأنهم أوروبيون إلى حد ما أيضاً. لا توجد انتماءات تامة منتهية ممتلئة، إنما توجد انتماءات في طور التشكل المستمر والمراجعة المتواصلة.
لن يعني انسحاب بريطانيا حاليا من الاتحاد الأوروبي طلاقاً بائناً، ولا هو خيانة لـ”للأمة الأوروبية”، تقتضي محاكمة ساستها بتهمة الخيانة العظمى والتآمر على الأمة الأوروبية (تعبير مهجور في الأدبيات الجارية حالياً في هذا الفضاء الأوروبي على اتساعه واختلاف لغاته، وربما أديانه، إذا ما استحضرنا تراث الدم بين البروتستانت والكاثوليك…)، فقد يعود البريطانيون إلى الانضمام إذا ما أرادوا ذلك، بعيداً عن أسلوب التهديدات بالمقاطعة وتسليط العقوبة، كما تعودنا نحن العرب بالذات.
لم نسمع لغة التخوين، ولا التلويح بالمحاصرة وشن الحرب، وإنما رأينا حسرة ورغبة في استخلاص الدروس، لتجنب مزيد من الانسحابات، والعمل على مزيدٍ من النجاعة، وذلك لممارسة جاذبيةٍ فائقةٍ تغري بالبقاء، ولربما انضمام أعضاء جدد.
ربما كنا من أكثر الشعوب عاطفةً وحباً وشعوراً ورغبة في الانتماء لكياناتٍ سميناها أمة عربيةً، أو وطناً عربياً، وأسدلنا عليهما من خيالنا سماواتٍ من القداسة. ولكن، كنا أكثر بطشاً وبأساً على بعضنا بعضاً، باسم هذا الانتماء نفسه إلى حد كفر بعضهم به، تحت وطأة التحرّش ببعضنا بعضاً، ونحن نحتضر على رفات هذه الكيانات التي نصنعها.
يجعلنا الدرس البريطاني أكثر تواضعاً في رغباتنا وأكثر واقعية وعقلانية في تصور انتماءاتنا، فهذا الذي نسميه وطناً، أو أمة أو جماعة، لن يكون معجزة السماء، ولا هدية القدر لنا، نحن “أصحاب الرسالة الخالدة”، بل هو جهدنا ورغبتنا وإرادتنا الجماعية التي تعبر عنها الشعوب الحرّة متى اقتنعت بجدواها.
كلما قدّسنا تلك الكيانات، وألغينا إرادة الشعوب ومصلحتها المباشرة على غرار الرخاء والأمن والسعادة، فإن تلك الانتماءات ستفقد جاذبيتها، وتستند لمواراة إخفاقاتها إلى أيديولوجيات واهمة، تجعل منها وثناً يجيز لنا أن نسفك دماءً كثيرة من أجل إسعاده.