بعد ثلاثة عشر عاما من تاريخ غزو العراق على يد القوات الأمريكية والبريطانية، يخرج رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير معتذرًا «للشعب البريطاني» عن الخطأ الذي تم ارتكابه، يقصد قرار غزو العراق، فما الذي دفع رئيس الوزراء البريطاني للاعتذار بعد مرور أكثر من عِقد على هذا القرار؟
تقرير «تشيلكوت» يُدين توني بلير
في السادس من يوليو/تموز الحالي صدر تقرير لجنة تشيلكوت، ويطلق عليها أحيانًا تحقيق تشيلكوت، «بالإنجليزية: Chilcot inquiry»، أما الاسم الرسمي لها فهو تحقيق العراق، «بالإنجليزية: The Iraq Inquiry» وهي عبارة عن لجنة تحقيق بريطانية مستقلة منوطة بالتحقيق حول المشاركة البريطانية في الحرب على العراق 2003م.
تشكلت هذه اللجنة في 15 يونيو/حزيران 2009م بتكليف من رئيس وزراء بريطانيا جوردون براون، وباشرت عملها رسميا في30 يوليو/تموز 2009م. يغطي التحقيق –كما أعلن السير جون تشيلكوت، رئيس اللجنة- الفترة الواقعة بين صيف عام2001م وحتى نهاية يوليو/تموز من عام 2009م.
بعد انتظار دام لـ 7 سنوات من تشكيل اللجنة، نشر رئيسها جون تشيلكوت تقريرًا يوضح فيه أن نظام «صدام حسين» لم يكن يشكل خطرًا على المصالح البريطانية، وأن أسلحة الدمار الشامل زُعم أن النظام العراقي كان يمتلكها، وأن الحرب التي شنتها المملكة المتحدة و الولايات المتحدة ضد العراق في 2003م لم تكن ضروريةً بالمرة!
التقرير المكوَّن من 2.6 مليون كلمة، والذي تكلفت مهمة إنجازه عشرة ملايين جنيه إسترليني، ما يُعادل نحو 13.5 مليون دولار، أُحيل إلى الأمن الوطني لفحصه، لتضمنه كمًّا ضخمًا من المواد الحساسة وفق إفادة رئيس اللجنة، ويُعتبر بلير، وعائلات الجنود الذين قُتلوا بالعراق، والجيش، والاستخبارات، وحزب العمال، والبرلمان، والعلاقات بين لندن وواشنطن، أهم الموضوعات الرئيسية المُتناولة في سياق التقرير الذي خرج للنور لتوِّه بشكل كامل، مضافًا إليه ملخص من 150 صفحة.
«تشيلكوت» في نقاط
1- العراق، ونظام صدام حسين، لم يكونا يشكلا أي تهديدٍ على بريطانيا ومصالحها، وقصة امتلاكه أسلحة دمار شامل غير صحيحة ومبنية على معلوماتٍ استخباراتية مغلوطة.
2- الخيارات الدبلوماسية مع بغداد كانت متاحة، لكن قرار الحرب جاء مستعجلًا، قاطعًا الطريق على أي جهد تفاوضي.
3- لم تكن بريطانيا أو الولايات المتحدة تمتلك رؤية حقيقة لعراق ما بعد صدام، ما فاقم من تكاليف الحرب.
4- يُشير التقرير إلى طبيعة علاقة توني بلير بالرئيس الأمريكي جورج بوش والتبعية المطلقة التي كان يمثلها بلير لبوش. وكمثال، فإنه في 28 يوليو/تموز 2002م، أكَّد توني بلير لبوش أنه سيكون معه «مهما كان».
5- فشلت حكومة توني بلير في تحقيق الأهداف التي كانت قد حددتها لنفسها في العراق، وقتل أثناء الصراع أكثر من 200 بريطاني. ناهيك عما تكبده الشعب العراقي من خسائر فادحة. فبحلول يوليو/تموز 2009م كان عدد العراقيين الذي قتلوا من جرَّاء الصراع قد وصل إلى 150 ألف عراقي على الأقل، وربما يزيد العدد على ذلك، فضلًا عن نزوح ما يزيد على مليون شخص.
6- ركَّز التقرير بشكل موسع جدًا حول ضعف التجهيزات الخاصة بالقوات البريطانية في العراق من نواحي متعددة، مؤكدًا أن القوات لم تكن بحالة من الجاهزية الكاملة عند اتخاذ قرار نشرها في العراق.
تشيلكوت يغرد بعيدا عن الضحية
رغم أن قرار غزو العراق دفع ثمنه بشكل عام العراق والعراقيون، إلا أن التقرير ابتعد عن ذكر أية تفاصيل تتعلق بحجم الكارثة التي خلَّفها هذا القرار على البلد المجني عليه، فيما يذكر بشكل عرضي أن حجم الخسائر البشرية في صفوف العراقيين حتى عام 2009م تزيد عن 150 ألف قتيل، وهذا الرقم رغم أنه كبير جدًا إلا أنه لا يمثل الحقيقة، التي صدرت عن مجموعة مراكز عالمية تفيد بأن ما يزيد عن مليون عراقي لقوا حتفهم نتيجةً للغزو وتداعياته من حرب طائفية لم تضع رحاها. ولعل لزامًا علينا أن نعدد في هذا السياق ما خلفته الحرب على العراق والعراقيين؛ فمليون قتيل، و 5 ملايين يتيم، ومثلهم نازحون ومهجَّرون ولاجئون، إضافةً لمليون ونصف أرملة، ليست هذه كلها فاتورة غزو العراق، والتي تكفَّل العراقيون دون غيرهم بدفعها، على مدار 13 عامًا، ليس آخرها تفجير الكرادة وسط العاصمة العراقية بغداد، عشيَّة ليالي عيد الفطر، والذي خلَّف 400 بين قتيل وجريح.
فيما حل العراق في ذيل قائمة كوكب الأرض من ناحية الشفافية والأمن والتعليم والرعاية الصحية وتوفير الماء الصالح للشرب والكهرباء مع أنه صاحب ثالث أكبر احتياطي للنفط في العالم! بينما يعتبر كذلك جواز السفر العراقي ثالث أسوء جواز سفر بين دول العالم، لا يسبق سوى نظيره الأفغاني والباكستاني حسب مؤشرات «هينلي آند بارتنرس». ناهيك عما سجله العراق من رقم قياسي في منظومة الفساد التي تكاد تنخر كل مؤسسات الدولة –أو بالأحرى ما تبقى من الدولة-، إذ أظهر التقرير السنوي لمنظمة الشفافية الدولية حول الفساد في العالم أن العراق ضمن الدول ال10 الأكثر فسادًا في العالم. إضافةً لانعدام حرية الصحافة والإعلام وسيطرة المليشيات على مفاصل الدولة وسقوط ما يقارب من ثلث مساحة العراق بيد تنظيم «داعش» الإرهابي. فيما يهدد شبح التقسيم العراق لدويلات صغيرة قد تتناحر فيما بينها لعقود من الزمن دون أي مشروع حقيقي يلوح في الأفق، يضمن وحدة العراق ويدفع شبح الحرب الطائفية بعيدًا عنها. ويبقى أخطر ما في فاتورة غزو العراق هو «المستقبل» وأن هذه الفاتورة لم تغلق إلى اليوم وبوادر استمرار الأرقام بزيادة دائمة، الأمر الذي يجعلنا نفكر هل سنشهد رصاصة الرحمة في نهاية هذه القائمة الطويلة من التضحيات التي قدمتها العراق والعراقيون نتيجةً لقرار غزو تم اتخاذه في لحظة من لحظات الطيش، وبناءً على معلومة خطأ وسهرة لطيفة في مزرعة لبوش الإبن في ولاية تكساس؟
العراق بعد تشيلكوت: لا تعليق
ردًا على سؤال لوكالة الصحافة الفرنسية، قال المتحدث باسم الخارجية العراقية أحمد جمال: «لكن ما هو هذا التقرير؟»، بما يعني أن العراقيين لا يعلِّقون أهمية كبيرة على التقرير الذي أثار ضجة كبيرة في بريطانيا وخارجها.
إذ يعيش العراقيون على وقع أحداث تفجيرات الكرادة الدامية، والتي جرت قبل إصدار التقرير بثلاث أيام، حيث يعتقد العراقيون أن التقرير وما يحتويه لن يقدم أو يؤخر من حجم الكارثة التي يعيشون فصولها بشكل يومي منذ 13 عامًا.
وفق الدوامة المستمرة وحالة اليأس من الإنصاف دولياً يتجاهل العراقيون، متابعة مثل هذه التقارير مؤمنين بأنها لن تنصفهم أو تقتص من الجاني لحساب المجني عليه فالتجارب السابقة كفيلة بقتل أي حلم بحدوث ذلك
إضافة لذلك فإن الطبقة السياسة الحاكمة في العراق هي نفسها التي حملها الغزو على دباباته قبل 13 عاماً، مما يجعل تقرير تشيلكوت يدين قرارهم الداعم للحرب في ذلك الوقت ضمنياً، مما دفع بالجانب العراقي الرسمي لصم الأذان عن التقرير رغم إمكانية البناء عليه بإلزام بريطانية وحليفها الولايات المتحدة بتعويضات كبيرة تقدَّم للعراق لدعمه في تفادي أثار قرار الغزو الذي تبين حجم غبائه خلال هذا التقرير.
إن تقرير تشيلكوت بطبيعة الحال ووفق الصلاحيات المخصصة له فإنه لا يترتب عليه أي حكم قضائي أو قرار سياسي، لكن بالتأكيد يفتح الباب لمن يحسن استخدامه في المجال القضائي والسياسي وعلى وجه الخصوص الداخل البريطاني من عوائل الجنود القتلى من البريطانيين أو من قبل المعارضة السياسية، أما الضحية الحقيقية فما تزال تنزف بعيداً عن دائرة استحصال الحقوق ورد الاعتبار والتعويض ولا تحلم حتى بكلمة «أنا أسف»!
أحمد الملاح – التقرير