دخلت الولايات المتحدة الأسبوع الماضي في نفق أزمة مظلمة يصعب تقدير انعكاساتها السلبية على الإدارة والمجتمع. والسبب أن شرطياً أبيض البشرة أطلق النار في مينيابوليس على شاب أسود بعدما أمره بالوقوف عند إشارة المرور بحجّة أن مصباح سيارته مكسور.
واعترفت امرأة كانت شاهدة داخل السيارة بأن صديقها كاستيل (32 سنة) أبلغ الشرطي بوجود مسدس مرخص في حوزته. خلاصة الأمر أن الشرطي وزميله الآخر (وهو أبيض البشرة أيضاً) أطلقا النار من مسافة قريبة على كاستيل، فأردياه قتيلاً.
واعتبر محامي القتيل أن إطلاق النار كان عملاً غير مبرَّر بكل المقاييس. في حين تردد مكتب التحقيقات في تحميل الشرطيَيْن المسؤولية الكاملة عن الحادث. وصدف في اليوم ذاته أن قـُتِل شاب أسود آخر برصاص شرطي أبيض البشرة.
وقبل طلوع الفجر، امتلأت شوارع المدن الأميركية بآلاف المتظاهرين ضد الشرطة المتحيزة التي وصفتها والدة القتيل كاستيل بأنها هي الخصم وهي الحـَكم! وساعد في تأجيج غضب الجماهير عرض سلسلة لقطات على شاشات المحطات التلفزيونية، وهي تمثل السلوك العنيف الذي مارسته الشرطة ضد المواطنين السود.
وسارعت المرشحة هيلاري كلينتون إلى استغلال الحادث انتخابياً، وأعلنت أن الضرورات الوطنية تقضي باستعادة الثقة المفقودة بين الجالية الأفريقية السوداء ورجل الأمن. وقالت: إنه لأمر مؤسف أن تعتقد شريحة كبيرة من الشعب الأميركي أن الشرطي يتعامل مع المواطنين بمعيارَيْن. والسبب أن لون بشرة أحدهما يختلف عن لون بشرة الآخر.
وساهمت الصحف المحلية في صبّ الزيت على النار، عندما نشرت أرقاماً مذهلة حول عدد القتلى الذين يسقطون برصاص رجال الشرطة. وذكرت أنه خلال الأشهر الستة الماضية أردى رجال الأمن 509 أشخاص بينهم 236 بيض البشرة و123 من السود و78 من أصول ترجع إلى أميركا اللاتينية.
وجددت هيلاري كلينتون دعوتها إلى تشديد قانون بيع الأسلحة، لمنع أشخاص مثل عمر متين – الأميركي من أصل أفغاني – من ارتكاب مجزرة أودت بحياة 49 شخصاً في ملهى للمثليين.
كذلك نشرت مجلة «تايم» تحقيقاً قالت فيه إن أعمال العنف مرتبطة بصورة مباشرة بقانون استباحة شراء الأسلحة النارية في الولايات المتحدة. وذكرت أن الرئيس باراك أوباما قام بسلسلة محاولات لتقييد بيع الأسلحة، أو على الأقل لتعديل عبارة في القانون الذي وُضِعَ في 5 كانون الأول (ديسمبر) عام 1791. وتنص العبارة على التالي: «تحتاج الميليشيا النظامية المعنية بأمن دولة حرة إلى حق الشعب في اقتناء السلاح. ومثل هذا الإجراء لا يُعتبر مخالفاً للقانون، ولا انتهاكاً للنظام العام».
ويرى أوباما، مثل غالبية أعضاء مجلس الشيوخ، أن هذا النصّ وُضِع قبل 225 سنة، وأن الجيش النظامي الفيديرالي لم يكن قد تكوّن بعد، لذلك استعيضَ عنه في حينه بميليشيات مقاتلة.
قبل أن تهدأ النفوس المضطربة لدى أبناء جالية الأفارقة الأميركيين، ضربت مدينة دالاس موجة عنف ثانية كان بطلها شاب أسود يُدعى ميكا جونسون (25 سنة). وقد اختبأ فوق سطح بناية، وراح يطلق النار عشوائياً على كل شرطي أبيض. وارتفعت الحصيلة، قبل أن تقتله عبوة ناسفة بواسطة «روبوت»، إلى خمسة من رجال الشرطة البيض و14 جريحاً.
وكانت هذه الأحداث كافية لأن يقطع الرئيس أوباما زيارته لإسبانيا، بعدما تبلغ أن المتظاهرين نظموا احتجاجات تحت شعار «حياة السود مهمة». ثم أغرقوا الشوارع الرئيسية بالزجاجات الفارغة والمفرقعات والحجارة.
بعد مرور أقل من ثماني سنوات على حكم أوباما، عكست تعليقات رئيس أسود هذا الأسبوع كل التناقضات التي حملتها سنوات وجوده في البيت الأبيض. ففي بداية الصدامات، أي إثر مقتل شابَيْن من السود، برصاص شرطي أبيض، انتقد أوباما عنصرية الشرطة وهاجم تطرفها البغيض.
ولما أردى قنـّاص أسود خمسة من رجال الشرطة البيض في «دالاس» انتصر الرئيس للفريق الساهر على فرض الأمن والطمأنينة.
ومن المؤكد أن أوباما شعر بخيبة أمل كبرى، لأن وجود رئيس أسود في البيت الأبيض لم يحل المشكلة العنصرية التي دفع مارتن لوثر كينغ ثمنها غالياً. علماً أنه استعمل في كفاحه سلاح المهاتما غاندي – أي المقاومة السلمية – بهدف ربح معركة الحقوق المدنية.
ولكن ذلك الأسلوب المرن الذي استخدمه لوثر كينغ في خطابه الشهير من فوق شرفة فندق في مامفيس لم يخفف من كراهية الشاب الأبيض الذي أطلق النار عليه فأرداه قتيلاً في 4 نيسان (أبريل) 1968.
وأهم ما جاء في ذلك الخطاب التاريخي قوله: «لدي حلم. كلما نظرت إلى الأفق البعيد، تراءت لي أرض الميعاد. وقد لا يحالفني الحظ لأن أدركها برفقتكم. وإنما ثقوا بأنكم كشعب موحد ستحققون الحلم».
عام 1963 نشرت مجلة «تايم» صورة مارتن لوثر كينغ على غلافها واعتبرته «رجل العام». وفي عام 1964 منحته مؤسسة نوبل للسلام جائزتها، نظراً للأشواط التي قطعها في حقول اختبار نيات المواطن الأبيض.
ومن «حلم» لوثر كينغ استعار أوباما مضامين خطبه الآسرة التي أوصلته إلى البيت الأبيض. واعتبر المعلقون في دخوله عام 2009 تحقيقاً لبلوغ مستوى المساواة، وتحطيماً للأغلال التي قيَّد بها الرجل الأميركي الأبيض يديّ عبده السابق الأفريقي الأسود.
ولكن حوادث الصدامات العنصرية بين البيض والسود ظلت تبلل عهد أوباما بالدم والدموع. ولم تكن مجزرة أورلاندو التي ارتكبها عمر متين سوى محطة من محطات العنف التي قضت على 49 شاباً وشابة دفعة واحدة. وفي الأسبوع ذاته أقدم رجل أميركي على قتل زوجته وأولاده الأربعة، مستخدماً لتنفيذ تلك الجريمة بندقية حربية شبيهة ببندقية الأفغاني الأصل عمر متين.
من هنا يرى الرئيس أوباما أن الحل الجذري لمشكلة الاعتداءات المتكررة بين البيض والسود… بين العنصريين وخلافهم، يكمن في سهولة شراء الأسلحة النارية. وعليه فهو يقترح على الكونغرس صوغ تشريع يحدّ من تسلـّط هذا «اللوبي» الذي يعيش بعقلية التشريع الصادر عام 1791، يوم لم يكن للجيش النظامي أي دور.
وفي تصور أوباما أن حال العداء الداخلي بين الجاليات موجودة حتى في أرقى البلدان مثل بلجيكا التي يمتنع فيها «الوالون» عن مصاهرة «الفلامون». ولكن الخلاف بين الجاليتَيْن لا يتم التعبير عنه بالرصاص، لأن اقتناء السلاح أمر مخالف للقانون.
الرافضون لمنطق الرئيس، من أمثال المفكر تشارلز موراي، يركزون انتقادهم على سلوك المواطن الأميركي الذي يعتبرونه المسؤول الأول والأخير عن استخدام السلاح. وهم ينطلقون في الحجّة من الشعب السويسري الذي تزوده الحكومة المركزية ببندقية خاصة من أجل الدفاع عن سيادة البلاد. والطريف أنه لم يحدث في تاريخ سويسرا – منذ إنشاء الكانتونات – أن استعمل أي مواطن بندقيته للانتقام ممَنْ يختلف معه في الرأي… أو ممَنْ لا يعجبه لون بشرته.
ومعنى هذا أن المشكلة الأساسية تكمن في نفسية وعقلية المواطن الأميركي، لا فرق أكان أبيض البشرة أو أسوَدها…
في هذه المرحلة الصعبة، ينتظر الأميركيون إجراء تعديلات دستورية تؤمن للسود مكاناً متقدماً داخل الفسيفساء المؤلفة من 324 مليون نسمة.
وفي حين تشكل الجالية الأفريقية – الأميركية ما نسبته 13.2 في المئة من الشعب… والجالية اللاتينية ما نسبته 17 في المئة، يتوقع الرئيس أوباما أن يحقق الكونغرس بعض التعديلات المطلوبة. وهي تتعلق بمنع المشتبه بهم من شراء أسلحة… ومنع التجار من بيع أسلحة فتاكة مثل أسلحة الجيش.
قبل أسبوعين قاد هذا المطلب السناتور كريس مورفي، الذي أعرب عن تصميمه على إقناع زملائه في مجلس الشيوخ بضرورة وضع تشريع يحمي المجتمع. خصوصاً أن الولاية التي يمثلها شهدت عام 2012 مجزرة في إحدى المدارس راح ضحيتها 20 طالباً وطالبة.
وكان من المتوقع أن يبادر «لوبي السلاح» إلى جمع آلاف التواقيع لمنع مجلس الشيوخ من تطويق تصرفاته. ولكنه احترم الوضع المقلق، وترك لمناصريه في الكونغرس القيام بالمهمة المكروهة. وهي مهمة مرشحة لاستقطاب المزيد من المتعاطفين مع حرية حمل السلاح، خصوصاً في حال وصل دونالد ترامب إلى البيت الأبيض!
عندئذ يمكننا أن نزيد إلى قائمة المرشحين للنزاع الداخلي جماهير المسلمين والمكسيكيين، أولئك الذين حسبهم المرشح الجمهوري في عداد الشعوب الخطرة الواجب إقصاؤها عن الولايات المتحدة!