ملخص تمتاز ألبانيا بتجانسها الديمغرافي باعتبارها موطن الألبان الذين يتوزعون على أكثر من دولة من دول الجوار في البلقان، وقد مثَّل ترشيحها لعضوية الاتحاد الأوروبي فرصة لتنمية شعورها القومي “القومية الألبانية” في الإطار الأوروبي، مع العلم أنها عضو في حلف الناتو. استقرت الحياة السياسية في تيرانا على التنافس بين حزبين أساسيين: الحزب الديمقراطي الذي يُولِي الأقلية الألبانية خارج ألبانيا عناية خاصة، والحزب الاشتراكي المنتمي للاشتراكية الديمقراطية الأوروبية. ولا يستطيع أيٌّ من الحزبين إدارة الحكم وحده، لاسيما أن البلاد لا تزال في طور النهوض، وهي في مرحلة متقدمة من التحرر من الإرث الشيوعي السابق، وتحثّ السير نحو عضوية الاتحاد الأوروبي. ومن المتوقع أن تزدهر علاقات ألبانيا بالجوار الأوروبي والعالم الإسلامي؛ لأنها الطريق الأقصر بينهما، لاسيما لشبكة الطرق والطاقة، ومن ذلك أنها تربط خط إمدادات الغاز القادم من أذربيجان عبر تركيا نحو أوروبا. |
تقع دولة ألبانيا إلى الجنوب من شبه الجزيرة البلقانية، وتطلّ على البحرين الأدرياتيكي والأيوني ليبلغ شريط حدودها الشاطئية 362 كلم. تتقاسم ألبانيا شرقًا حدودًا ترابية مع اليونان ومقدونيا، في حين تحدُّها من جهة الغرب جمهورية الجبل الأسود. ومِثْل العديد من الدول الأوروبية، فإنَّ الرُّومان هم من أطلقوا عليها مسمَّى “ألبوس Albos”، أي: ألبانيا، وهو الاسم الذي عُرفت به تاريخيًّا كدولة وشعب. و”ألبوس Albos” تعني في اللغة اللّاتينية: الأرض الجبلية التي تُقدِّم أفضل مكان يمكن منه رؤية الشمس، لاسيما وأن ألبانيا تتشكل من أراضٍ جبلية تبلغ مساحتها الإجمالية 28748 كيلومترًا مربعًا، ترتفع فيها قمم جبلية شاهقة في جهة الشمال، كانت فيما مضى موطنًا طبيعيًّا للنسور. وكان الإيليريون، وهم السكان الأصليون، أطلقوا على بلدهم تسمية “شيبريا”، وتعني عندهم: أرض النسور.
السعي الألباني نحو الاستقلال
نشأت ألبانيا، كدولة مستقلة في حدودها التي تُعرف بها اليوم، خلال فترة انهيار الإمبراطورية العثمانية، وتحديدًا في العام 1912. تغيّرت حدود دولة ألبانيا بفعل حروب البلقان، ثمّ طرأت عليها تغييرات مرة أخرى بعد الحرب العالمية الأولى، في حين بدأت نهضة الشعب الألباني السياسية والثقافية منذ عام 1878، مع انبعاث ما يُعرف بـ”رابطة بريزرن”.
كانت النخبة الألبانية في ذلك الوقت، وتحديدًا مع بداية انهيار الإمبراطورية العثمانية، قد تبنّت في مدينة بريزرن سنة 1878 برنامجًا سياسيًّا للتحرُّر بشكل كامل من تبعيتهم لمؤسسات الإمبراطورية، وتوحيد كلّ المناطق التي كان يعيش على أرضها الألبانيون في دولة واحدة وموحَّدة. وكانت مخرجات مؤتمر برلين الذي حضره ممثلون عن ألمانيا والإمبراطورية النمساوية-المجرية وفرنسا وبريطانيا العظمى وإيطاليا وروسيا وتركيا، قد انتهت إلى الاتفاق على تقسيم دول البلقان التي كانت حينها خاضعة لسلطة الإمبراطورية العثمانية. وهكذا حصلت بعد ذلك كلٌّ من صربيا والجبل الأسود ورومانيا وبلغاريا على استقلالها، في حين مُنحت الإمبراطورية النمساوية-المجرية حقّ احتلال البوسنة والهرسك.
تسبَّب الاتفاق المنعقد بين القوى العظمى في إلحاق أضرار متعدّدة الأوجه بحقوق الألبان، حيث لم تُلبَّ مطالبهم بالاستقلال عن السلطات التركية، بل وتمّ إلحاق المناطق الشمالية المكوَّنة من قرى “بلافا” و”غوسّينيا” والتي يسكنها ألبان بأراضي دولة الجبل الأسود. ونفس الشيء حدث مع منطقة “أولتسينيا” الواقعة على البحر الأدرياتيكي. وبالتوازي أُلحقت المناطق الواقعة إلى أقصى الجنوب، والتي كانت غالبية سكانها من الإثنية الألبانية وهي مناطق “إيبير”، بأراضي دولة اليونان المجاورة.
تجاهل مؤتمر برلين كلّ مطالب رابطة بريزرن، وتعامل مع مناطق الألبان على أنّها جزء من الإمبراطورية العثمانية، وعامل الألبانيين على أنّهم مواطنون أتراك. ورفضًا لكلّ تلك القرارات الصادرة عن الدول العظمى في مؤتمر برلين، أعلنت رابطة بريزرن “… أن شبه جزيرة البلقان لن تعرف السلام أبدًا؛ لأنّ الألبانيين لن يتوقفوا عن الكفاح من أجل تحقيق استقلالهم”(1). وكانت الدول المستقلة حديثًا، على خلفية اتفاق برلين لعام 1878، وهي صربيا والجبل الأسود ورومانيا وبلغاريا، قد عمدت إلى مصادرة الممتلكات الخاصة وملاحقة السكان الألبانيين(2).
كتب المؤرخ الأميركي كارلتون هايس (Carlton Joseph Huntley Hayes) في تحليله لنتائج مؤتمر برلين: “قبل عام 1878 كانت لدينا “قضية شرقية” وتركيا باعتبارها الرجل المريض في البوسفور، أما بعد عام 1878 فقد أضيف إلى ذلك عدّة مهووسين آخرين؛ لأن مؤتمر برلين أخذ البلقان نحو الجنون”. وللأسف، فإنّ عواقب ذلك الجنون لا تزال مستمرّة إلى اليوم.
في أعقاب مؤتمر برلين واصلت رابطة بريزرن شن هجماتها في حرب ميليشيات ضدّ اليونان والجبل الأسود من أجل استعادة المناطق المستعمرة، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية كانت الرابطة تخوض معركة أخرى ضدّ الدولة العثمانية من أجل الاستقلال وتوحيد المناطق الألبانية.
تواصلت الاحتجاجات والانتفاضات الشعبية ضدّ الإمبراطورية العثمانية إلى حدود بداية الحروب البلقانية التي خسرت تركيا على إثرها كلّ أراضيها في البلقان. ومباشرة على إثر حروب البلقان اندلعت الحرب العالمية الأولى 1914، ثمّ تلاها تأسيس مملكة يوغسلافيا عام 1918 وهي التي ضمّت إليها منطقة كوسوفا الألبانية وشرق مقدونيا.
وخلال عمليات التحرّر والانعتاق التي شهدتها شعوب أوروبا وما تلاها من بناء الدّولة الأمة لكل شعب في القرنين التاسع عشر والعشرين، لم يكن للألبان أيُّ حليف أو صديق، وكانوا ضعفاء ومعزولين، ما حال دون إنشاء دولتهم القومية على كلّ الأراضي التي كانوا يسكنونها لعدة قرون، ولتجد ألبانيا نفسها على أعتاب القرن الحادي والعشرين الدولة الأوروبية الوحيدة التي يعيش نصف شعبها على أرضها، في حين كان نصفها الثاني موزّعًا بين عدد من دول الجوار.
ففي كوسوفا، التي كانت تتبع يوغسلافيا، نجد ما يقرب من 1,8 مليون ألباني أو ما يعادل 92% من مجموع سكان البلد، وفي مقدونيا يعيش 525 ألف ألباني أو 25,1% من مجموع سكان البلد، أما في الجبل الأسود فقد بلغ عدد الألبانيين 35 ألف ألباني أو 5,3% من السكان، وفي صربيا نجد حوالي 60 ألف ألباني(3). إضافة إلى الجماعة الألبانية المقيمة منذ القدم في اليونان والتي يبلغ تعدادها أكثر من 200 ألف نسمة، وتمثّل هذه المجموعة قضية خلافية لم يُحسم أمرها بعدُ بين اليونان وألبانيا(4).
في فترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية كانت ألبانيا مملكة غير مستقرّة وهشّة اقتصاديًّا خلال فترة حكم الملك “أحمد زوغوا”، وكانت تعاني من أطماع اليونان ويوغسلافيا وإيطاليا، واختار “زوغوا” ما اعتبره أهون الشرور، فاعتمد على دعم إيطاليا لبلده، وحاول بناء علاقات تعاون مع روما(5)، لكنّها انقلبت عليه وخلعته من الحكم لتحتلّ بلاده في العام 1939.
بعد الحرب العالمية الثانية تسلّم الشيوعيون حكم ألبانيا بزعامة أنور خوجة، وخضعت لنظام حزب شيوعي صلب على الطريقة الماوية لتعيش معزولة دون أصدقاء أو حلفاء لمدَّة 45 عامًا، وحتّى سقوط جدار برلين وانهيار المنظومة الاشتراكية. ومع انهيار الأخيرة انهارت يوغسلافيا أيضًا، واستقلّت الجمهوريات الستّ التي كانت يوغسلافيا تتألف منها بعد حروب دامية، كما حققت كوسوفا استقلالها عام 1999، لكن دون أن تعترف بها صربيا واليونان.
بالمقارنة مع أغلب شعوب الدول الأوروبية، فإنّ الشعب الألباني يتميز عنها بثلاث خصال على الأقل:
-
تعود أصوله إلى الإيليريّين الذين يمتد وجودهم تاريخيًّا على أرض شبه جزيرة البلقان إلى القرن التاسع قبل الميلاد، وبهذا يكون أحفادهم الألبانيّون من أقدم شعوب القارة الأوروبية. وبفعل الهجرات التي عرفتها الشعوب قديمًا، وخاصّة الشعوب السّلافينية، في القرنين السادس والسابع للميلاد، فإنّ مناطق تواجد الإيليريّين انحصرت واستقرّت لغويًّا وإثنيًّا في المناطق المعروفة اليوم بألبانيا وكوسوفا وشرقي مقدونيا.
-
المكوّن الإثني الألباني متعدّد الديانات والثقافات. ومن المعروف تاريخيًّا أنّ الألبانيين اعتنقوا المسيحية والإسلام، وعملوا على تطوير ممارسة شعائرهما وفقًا لطريقتهم الخاصّة، فراكموا تبعًا لذلك تقاليد وثقافات أصيلة حملتها اللغة والثقافة الألبانيتان اللتان يحملان في طياتهما مبادئ المسيحية والإسلام معًا.
-
خلال التاريخ القومي الألباني تمّ تطوير عنصر “العصبية” بأتم المعنى الذي أراده ابن خلدون، أو التضامن والتعاون والتآزر بين أبناء الأمّة الألبانية، ولم تترك هذه الخصال مجالًا أو مكانًا للعداوات والحروب بين الألبانيين، مثلما كان الأمر لدى أغلب شعوب غرب أوروبا التي خاضت حروبًا بين الكاثوليك والبروتستانت أو الكاثوليك والأرثوذكس. وغالبًا ما يردِّد الباحثون الأنثروبولوجيون والمؤرّخون الألبانيّون أنّ “أقوى دين لدى الألبانيين هو الانتماء إلى الألبانية”.
عملية التحول السياسي
خوفًا من تداعيات الانتفاضة الشعبية ضدّ الدكتاتورية الشيوعية التي شهدتها منطقة شرق أوروبا، خضع الحزب الشيوعي الألباني في ديسمبر/كانون الأول 1990 لإجراء تعديل دستوري سمح من خلاله بإحلال نظام التعددية الحزبية، وتخلى عن نظام أحادية الأيديولوجيا الشيوعية. وفاز الحزب الديمقراطي حديث التأسيس، بزعامة صالح بريشا، بالانتخابات البرلمانية عام 1992. وقام بريشا في الفترة ما بين 1993 و1996 بتنفيذ عدد من الإصلاحات الهيكلية داخل المجتمع الألباني، تمثلت بإحلال اقتصاد السّوق مكان الاقتصاد الموجّه، وخصخصة واسعة لممتلكات الدّولة واتِّباع نظام الليبرالية السياسية في الحياة السياسية للدولة، حتى إن الاقتصاد الألباني حقق في تلك الفترة نموًّا سنويًّا متواصلًا بـ 9%. أما على مستوى السياسة الخارجية والعلاقات الدولية فقد أظهر الرئيس بريشا جرأة بإلحاق ألبانيا بعضوية منظمة التعاون الإسلامي عام 1992، ثمّ عضوية البرلمان الأوروبي عام 1995.
غير أنّ هذا التحول الديمقراطي السريع، الذي جدّ في بلد لا يمتلك الثقافة الديمقراطية ولا توجد فيه مؤسسات عريقة وقويّة ويفتقد إلى تقاليد حكم القانون، قاد المجتمع الألباني عام 1997 إلى فوضى هدّدت استقرار البلد ووحدته، بل ووجوده. فقد عمدت البنوك الربوية ومصارف الادخار، التي سمحت لها القوانين بالوجود بل وحفّزتها للعمل، إلى تقديم عروض ذات فوائض عالية على مدّخرات عملائها من المواطنين لديها، وعندما امتلأت خزائن البنوك بمدّخرات المواطنين بلغت الأمور حدّ انهيار هرم النظام البنكي، وهرب معظم أصحاب تلك البنوك من البلد. خسر حينها المواطنون الألبانيون ما يقرب من 1,2 مليار دولار أميركي(6)، ما تسبّب بانتفاضة شعبية عارمة، دفعت المواطنين الغاضبين إلى اقتحام البنوك ووصلوا إلى الثكنات العسكرية التي تمّ اقتحامها وسلب ما كان فيها من أسلحة، مع العلم بأن معظم تلك الأسلحة تم نقلها إلى كوسوفا, وتحديدًا إلى أيدي عناصر جيش تحرير كوسوفا، الذي كان يقاتل من أجل نيل الاستقلال عن صربيا عام 1999.
أما جنوب ألبانيا، المعروف بولائه التقليدي للشيوعية، فقد بات “أرضًا بلا صاحب”، عاثت فيها العصابات الإجرامية فسادًا. لم تستطع الحكومة السيطرة على الأوضاع وإعادتها إلى الهدوء إلّا بمساعدة خارجية من الشرطة الإيطالية، ونظمت انتخابات برلمانية عام 1997، جاءت نتائجها لتعاقب حزب بريشا الديمقراطي وتكشف عن فوز بيِّن للحزب الاشتراكي بزعامة فاتوس نانو. إلّا أنّ شبهات بالفساد المالي والقضائي لاحقت الحزب الاشتراكي وزعيمه إلى حدود العام 2005، لتفضي إلى خسارته الانتخابات وتفتح الباب مجدّدًا أمام عودة الحزب الديمقراطي وزعيمه صالح بريشا إلى الحكومة.
اتسمت الدورتان الثانية والثالثة من حكم صالح بريشا بالتركيز على السياسة الخارجية، حيث شهدت البلاد تسريعًا في خطوات ألبانيا نحو الانضمام إلى حلف الناتو وتكثيف التعاون مع الولايات المتحدة الأميركية، ومهَّد ذلك إلى قيام الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن بزيارة ألبانيا، كانت هي الزيارة الأولى لرئيس أميركي في تاريخ البلد. وتخلصت ألبانيا في العام 2009 نهائيًّا من إرثها الشيوعي لتصبح عضوًا كامل العضوية في حلف الناتو، وفي السنة ذاتها تمّ التوقيع على معاهدة الاستقرار والتعاون مع الاتحاد الأوروبي. ثم حصلت ألبانيا في 24 يونيو/حزيران 2014 على وضع المرشّح للحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي، وينتظره لتحقيق ذلك طريق طويلة من الإصلاحات القانونية الأساسية التي قد تتطلب ما لا يقل عن 10 سنوات من العمل الدؤوب والشاق.
تحديات وعوائق التحول السياسي
(الجزيرة) |
مثل أغلب الدول البلقانية التي مرّت بمرحلة تحوُّل، فإنّ ألبانيا واجهت وتواجه تحديات تتمثّل في ضعف مؤسسات الدولة في مواجهة الجريمة المنظمة والاتجار بالمخدرات والبشر، إضافة إلى عدم كفاءة النظام القضائي؛ لهذا فألبانيا مُطالبة اليوم بالعمل على تعزيز سيادة القانون بما يقلص الفارق الشاسع بينها وبين دول الاتحاد الأوروبي في هذا الصدد.
في المقابل، يبدو أن عمليات إعادة تهيئة وتطوير البنية التحتية أدّت إلى نتائج ملموسة وتجري بوتيرة مستمرّة، حتى إنّ أعداد السياح القادمين إلى ألبانيا في ازدياد مطّرد. وعلى عكس باقي دول البلقان، لم تعرف ألبانيا انكماشًا اقتصاديًّا، فالنمو الاقتصادي وإن كان أقلّ ممّا كان عليه في العقد الأوّل الذي تلا الاستقلال، إلاّ أنّه يظلّ إيجابيًّا في ظلّ الأزمة العالمية الاقتصادية ويتراوح ما بين 1 و3% سنويًّا. ويعود هذا النجاح إلى حسن التخطيط، وأيضًا إلى الاستثمارات الأجنبية التي ضُخّت في قطاع البنية التحتية والصناعات ومحطات توليد الكهرباء. وكذلك أسهمت سياسة الإنماء المتوازن التي انتهجتها الدولة في السنوات الأخيرة في تقوية التماسك السياسي الداخلي، وقلّصت الفوارق بين الجنوب المتطوّر والنّامي والشمال الضعيف اقتصاديًّا وتنمويًّا.
تأسيسًا على ما تقدَّم من معطيات، يمكن القول: إنّ الهوية السياسية للدولة الألبانية قد تمّ وضع أسسها الثابتة داخليًّا، فألبانيا جمهورية برلمانية مركزيّة مع 12 وحدة إدارية، والسّلطة المركزية للحكومة في تيرانا تبسط كامل نفوذها على مختلف مناطق البلاد، ولا يوجد في البلد أي نزعات انفصالية.
وبالمقارنة مع دول الجوار، فإنّ هوية وسلامة الدّولة الألبانية محمّلة بثقل ما تمّ اتخاذه من قرارات في مؤتمر برلين عام 1878. ومن وقت لآخر نجد أنّ السياسيين المنتمين للأحزاب اليمينية الألبانية يثيرون قضية وحدة جميع الألبانيين في الفترات التي تسبق الانتخابات، ولكن يمكن التأكيد -بناء على التجارب السابقة- أنّ إثارة تلك الأفكار ما هي إلّا للاستهلاك السياسي المؤقّت، وأنّه لا يوجد وراءها من يدعمها بجدّ، ولا من يمكنه تحويلها إلى برنامج قابل للتنفيذ.
إنّ المصلحة الوطنية الحيوية والأساسية للألبانيين -وبشكل أخصّ لمن يعيشون منهم داخل ألبانيا، وبقطع النّظر عن انتمائهم إلى الأحزاب اليمينية أو اليسارية- تقضي بالتحاق ألبانيا وكلّ الدول البلقانية التي يعيش على أراضيها ألبان، بعضوية الاتحاد الأوروبي. وبهذا الشكل، وبمساعدة أوروبية، يعتقد الألبانيون أنّ قضيتهم الوطنية ستُحلّ، أو على الأقل ستتوفّر لها شروط مناسبة تسمح بتنمية القومية الألبانية في ظروف عادية. يبدو هذا -نظريًّا- متسقًا مع منطق تتابع الأحداث، إلّا أنّ تطبيق السياسات على الأرض بالنسبة لبعض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي ليس مطابقًا تمامًا لهذا المنطق(7). وأفضل دليل على ذلك ما تعيشه أيرلندا الشمالية داخل بريطانيا أو الباسك وكاتالونيا في إسبانيا.
تعتبر الحيوية الديمغرافية إحدى أهم الميزات التي يتمتّع بها المجتمع الألباني بالمقارنة مع باقي دول البلقان، وتشير الأرقام إلى أنّ النمو السكاني داخل المجتمع الألباني يسجّل زيادة تقدّر بحوالي 300 ألف نسمة في كلّ عشر سنوات، في حين نجد على الجانب الآخر، لدى الصرب والبلغاريين واليونانيين، أنّ التناقص الديمغرافي يسجّل انخفاضًا يقترب من نسب الازدياد لدى الألبانيين (فقدان حوالي 300 ألف شخص كلّ 10 سنوات). ويضاف إلى هذا المؤشّر مؤشر آخر يتمثّل في معطى التآزر والتعاون بين الألبانيين، وهو ما تفتقده المجتمعات البلقانية الجارة.
المشهد السياسي في ألبانيا
إثر خمس جولات انتخابية يمكن ملاحظة توجّه المشهد السياسي الألباني نحو الاستقرار واتخاذه شكل الثنائية القطبية السياسية بين يمين ويسار يتداولان على السلطة سلميًّا. ويسيطر على هذا المشهد حزبان، هما: الحزب الديمقراطي بزعامة شخصية صالح بريشا الكاريزمية، والحزب الاشتراكي بقيادة إيدي راما، الذي يوصف بالاشتراكي المجدّد والمدعوم من قِبل الاشتراكية الديمقراطية الأوروبية. ولا يمتلك أيٌّ من هذين الحزبين القدرة التي تؤهله بمفرده لتحمل أعباء السلطة، بل يلجآن عادة إلى عقد تحالفات مع أحزاب صغيرة، ما يجعل الحكومات المُشكّلة فاقدة للاستقرار.
فاز “التحالف من أجل ألبانيا أوروبية” بقيادة الحزب الاشتراكي في آخر انتخابات برلمانية أقيمت في يونيو/حزيران 2013، وكُلّف إيدي راما برئاسة الحكومة اليسارية الجديدة. وكان الاشتراكيون قد وظّفوا في حملتهم الانتخابية تأخّر التحاق ألبانيا بحلف الناتو، معيدين السبب في ذلك إلى تقصير الحزب الديمقراطي. وحظي البرنامج السياسي الألباني ذو التوجه الأوروبي برضا الاتحاد الأوروبي، وقابله بالدعم الكامل، وكافأ ألبانيا بمنحها صفة عضو مرشّح للالتحاق بالنادي الأوروبي في يونيو/حزيران 2014.
تقليديًّا يمنح سكان المناطق الجنوبية ثقتهم للاشتراكيين، ويرى المحللون السياسيون للمشهد السياسي الألباني أنّ التحالف الاشتراكي المُمثّل في الحكومة الحالية سيعمل على تحسين أوضاع الأقلية اليونانية المقيمة في جنوب ألبانيا، وستتحسن العلاقات مع دولة اليونان.
بينما قاد الحزب الديمقراطي بزعامة صالح بريشا تحالفًا مؤلَّفًا من خمسة أحزاب تحت مسمى “التحالف من أجل توفير فرص عمل، الازدهار والاندماج”، وخسر في الانتخابات ولم يحقق سوى 39% من المقاعد المتنافس عليها في البرلمان، ويمثّل الحزب الديمقراطي يمين الوسط في المشهد السياسي الألباني، ويُولِي برنامجه السياسي أهمية خاصّة لموقع الأقلية الألبانية التي تعيش خارج الحدود، ولعب زعيم الحزب الديمقراطي خلال الانتخابات البرلمانية الأخيرة على ورقة التآزر بين جميع الألبانيين وألبانيا كدولة رائدة لعملية توحيد جميع الألبان. وقد استدعى هذا البرنامج ردود فعل غاضبة من قِبل دول الجوار، كما ندّدت به واشنطن وبروكسل. وبادر زعيم الحزب الديمقراطي إثر هزيمته في الانتخابات إلى تسليم السلطة إلى الاشتراكيين في عملية تحوّل سياسي سلمي، وتخلّى أيضًا عن زعامة الحزب للسياسي الشاب وصاحب برنامج التقارب الأوروبي، ليويزيم باشي، الذي كان يشغل منصب وزير الخارجية وحاكم إقليم تيرانا الحالي. وقد أدخلت القيادة الجديدة للحزب تعديلات جوهرية على برنامجه السياسي لتجعله أكثر واقعية وتمشيًا مع المعطيات الجديدة.
التحول الأخير على مستوى السلطة الحاكمة وتغيير زعامات الأحزاب السياسية، إلى جانب الاستعداد المبدئي لدى الأحزاب السياسية لإدخال تعديلات على برامجها تتماشى والحقائق الجديدة على الأرض، من شأنه تقوية الاستقرار السياسي للبلاد، وجعلها أكثر قربًا من الاتحاد الأوروبي.
الدور الإقليمي لألبانيا وعلاقاتها بأوروبا وأميركا
تتمتع ألبانيا بموقع جيوسياسي مهم جدًّا على خارطة أوروبا السياسية، فموانئها تحتل مواقع جغرافية مثالية لقواعد حلف الناتو العسكرية، حيث بالإمكان مراقبة مناطق شاسعة في شمال إفريقيا والشرق الأوسط انطلاقًا من أراضي ألبانيا. من ناحية ثانية، لا يواجه التواجد العسكري لقوات الناتو حالة عداء من المواطنين الألبان، بل إنّ جنود الحلف مرحب بهم.
وبانتمائها إلى عضوية حلف الناتو، حصلت ألبانيا لأول مرة في تاريخها على ضمانات مهمّة بحماية أمنها القومي من دون أن تتنازل عن سيادتها. وكمثال على ذلك، فقد رفضت تيرانا في نهاية العام الماضي طلبًا أميركيًّا بتوفير مكان على أرض ألبانيا يمكن استخدامه لتدمير الأسلحة الكيميائية السورية. وهكذا، وبطريقة مدرسيّة، نجحت هذه الدولة الصغيرة، على الرّغم من أنّها عضو في حلف الناتو, في إثبات القدرة على حماية مصالحها القومية الأساسية على نحو فعال.
وتشهد العلاقات الخارجية والاقتصادية بين ألبانيا والاتحاد الأوروبي نموًّا مطردًا، وتسير في نفس الاتجاه في علاقاتها الجيدة والمتميزة مع العالم الإسلامي، خاصة مع تركيا التي تأتي في الصدارة من بينها جميعًا. كما أدّت حاجة الاتحاد الأوروبي إلى بناء شبكة طرق لإمداد الاتصالات والطاقة مع الشرق الأوسط إلى أن تتبوّأ ألبانيا موقعًا متقدّمًا ومهمًّا جدًّا في بناء علاقات أمنية في الإقليم؛ حيث يمثّل الطريق السريع بين البحر الأدرياتيكي-بحر إيجة، أقصر رابط بين الغرب والشرق الأوسط، كما أنّه الطريق الأنسب جغرافيًّا ومناخيًّا بين الضفتين. ولألبانيا أيضًا موقع حساس واستراتيجي مهم في ربط خط إمدادات الغاز القادم من أذربيجان عبر تركيا فبلغاريا ثم مقدونيا وألبانيا، ومنها نحو باقي دول أوروبا الغربية. وبذلك، فإن ألبانيا تفرض نفسها كلاعب أساسي في البنية التحتية للاتحاد الأوروبي على مستوى الاتصال ونقل الطاقة إلى أوروبا. كما أن حاجة ألبانيا لبناء شبكة البنى التحتية سيفتح الباب مشرعًا أمام الاستثمارات الأجنبية المهمة القادمة من الشرق والغرب على حدٍّ سواء، ويُنتظر أن تسهم تلك الاستثمارات في المستقبل القريب في تنمية ألبانيا وجعلها بلدًا سياحيًّا بإمكانيات واعدة.
وبسبب تواجد جماعات قومية ألبانية كبيرة العدد خارج ألبانيا، وبخاصة في دولة كوسوفا والمنطقة الشرقية من مقدونيا، فإنّ سياسة دولة ألبانيا طويلة المدى تبحث عن إقامة علاقات جوار طيبة وهادئة مع دول الجوار في المنطقة، وهو ما يجعلها أيضًا عضوًا نشطًا وشريكًا مهمًّا في البلقان لبناء السلم والاستقرار الإقليمي.
وقد أظهرت ألبانيا أهمية دورها الحيوي من خلال الدور البنّاء الذي لعبته في المفاوضات التي دارت بين كوسوفا وصربيا؛ من أجل تطبيع العلاقات بينهما تحت إشراف الاتحاد الأوروبي. أمّا مطالب بعض الأحزاب اليمينية التي تظهر على السطح من حين لآخر، والمُنادية بتوحيد جميع ألبانيي المنطقة في دولة واحدة، فقد تمّ التعاطي معها رسميًّا من قِبل القيادة السياسية الألبانية بنجاح، حيث تمّ احتواؤها ودمجها في سياسة الحكومة لتكون متماشية مع سياسة الاتحاد الأوروبي العامة، ومتماهية مع ضوابط وشروط الاندماج التي يفرضها حلف الأورو-أطلنطي(8).
الخاتمة
عاشت ألبانيا خلال العقود الثلاثة الأخيرة أضخم عملية تحول داخل القارة الأوروبية، فقد تحولت من بلد متخلّف قادم من نهايات القرن الماضي ومعزول عن المشهد السياسي الدولي، إلى بلد تمرّ من خلاله طرق الاتصال والتواصل الأهم بين الغرب والشرق، ويمثل حلقة الوصل الذي يمرّ عبره شريان إمدادات الغاز الضرورية لتغذية الصناعات في الدول الغربية. وإضافة إلى ذلك، فإنّ وجود قواعد عسكرية لحلف الناتو على أرضها يجعل من ألبانيا قلعة مهمّة لضمان الأمن الدولي.
وبعد تمكنها من تأسيس مؤسسات الدولة والبدء في عملية الإصلاح الهيكلي الداخلي، تبدو ألبانيا متيقنة من انضمامها إلى منظومة الاتحاد الأوروبي خلال عقد واحد من الزمن. وبما تمتلكه من موارد طبيعية مهمة من مياه وأراضٍ زراعية خصبة وموارد منجمية أساسية ومصادر للنفط، إضافة إلى شواطئها الخلابة، ونموّ متواصل لقطاع الصناعات الذي سجّل أرقامًا قياسية خلال السنوات الخمس عشرة الماضية، مع حيوية ديمغرافية لافتة، كلّ ذلك يمنح ألبانيا إمكانات حقيقية لتحقيق التحوّل الاقتصادي والاجتماعي المطلوب.
________________________________________
نصرت تشانتشار – دبلوماسي وأكاديمي بوسني متخصص بالشأن البلقاني.
المصادر
1) Robert Elsie, Historia e Shqiperies II, (Historija Albanije) str. 204, Tirana 2004
2) Dimitrije Tucovi?, Srbija i Albanija, Izabrani spisi, knjiga II, str. 82, Beograd 1950
3) Nacionalne manjine u Srbiji, Beograd 2003., Web-site Vlade Republike Srbije
4) Orlovski sinovi u Epiru, ?asopis Republika, Beograd 2003.
5) O albansko-italijanskim odnosima izme?u dva svjetska rata vidi više: Nicola Mai, The Cultural Construction of Italy in Albania and Vica Versa, Modern Italy, Vol 8, 2003.
6) World Elections, Albania 2013, https://welections.wordpress.com/2013
7) Abdurrahim F. Aydin and Erjada Progonati, Albanian Foreign Policy in the Post-Comunist Era, str. 265, UNISCI, 2011.
8) Za širi uvid u tokove albanskog nacionalnog romantizma konzultirati: Paulin Kola, The Search for Greater Albania, Hurst and Compani Publications, London 2003.