دخلت سوريا في موجة من الأحداث السياسية الاستثنائية تزامنا مع خروج الآلاف في شوارع دمشق للمطالبة بإسقاط حكومة بشار الأسد. وخلال خمسة أعوام، أصبحت الدولة السورية علي حافة الانهيار، وذلك في ظل توحش الصراع، وتعدد أطرافه، واختلاف المواقف الدولية، ومعاناة الشعب السوري، وظهور أسوأ أزمة لاجئين منذ الحرب العالمية الثانية.
في هذا الإطار، يأتي كتاب الصحفي والكاتب روبين كساب، والناشطة والمدونة ليلي الشامي، والذي اعتمد على مقابلات مع ثوار ونشطاء داخل الأراضي السورية وآخرين في الخارج، بجانب معايشة حية للموقف السوري، ليقدم الكتاب متابعة للوضع السوري عن كثب. فيقدم الكتاب صورة حية لسوريا خلال الأعوام الخمسة الماضية ما بين تعنت النظام ودمويته، وتصاعد التنظيمات الجهادية، واختلاف المواقف الدولية.
من السلمية إلى أعلى درجات العنف:
يبدأ الكتاب باستعراض موجز لتاريخ سوريا، وكيف ولدت حدودها من تفكك الإمبراطورية العثمانية، واتفاقية سايكس-بيكو، وكيف جاء حافظ الأسد إلى السلطة كجزء من انقلاب بعثي عام 1963، حتي توليه السلطة المطلقة في عام 1970، حيث كان يسيطر على كل جوانب الحياة السورية بشكل صارم، في ظل وجود شرطة سرية، ومخابرات ذات سمعة سيئة، فكانت هناك انتهاكات كثيرة لحقوق الإنسان في عهده، حتي وفاته، وتولي بشار الأسد عام 2000 سدة الحكم، والذي استمر في نهج والده السلطوي.
يتناول الكتاب الصراع السوري الحالي بحسبانه أحد الصراعات الدولية الكبري في العصر الحالي. حيث إنه خلال خمس سنوات مضت، تم تدمير مدن كثيرة في سوريا، بالإضافة إلى قتل نحو نصف مليون سوري، مع انتشار أكثر من 12 مليون نازح، خمسة ملايين منهم يعيشون خارج البلاد في مخيمات مؤقتة بائسة في مواجهة مخاطر كبيرة، مثل المرض، أو العنف، أو الاعتداء الجنسي، وهو ما يبرز حجم التحديات التي تواجه اللاجئين السوريين في العالم.
ويصف الكاتبان اتفاق وقف إطلاق النار، الذي تم بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، عشية صدور كتابهما، بأنه اتفاق هش. حيث إنه بالرغم من سحب جزء كبير من القوات الروسية، لا يزال هناك خطر كبير، في ظل هيمنة تنظيم الدولة الإسلامية بالعراق والشام (ISIS) على مساحات كاملة من الأراضي السورية.
ويناقش الكتاب الثورة السورية منذ بدايتها حتي الوقت الحاضر، ويبرز كون الثورة السورية، التي بدأت بالتزامن مع ثورات الربيع العربي، وإسقاط الأنظمة السياسية في تونس، وكذلك مصر تباعا، أنها كانت تشكل جميع فئات المجتمع السوري، سواء كانوا مسلمين، أو مسيحيين، أو حتي ملحدين، وكذلك الرجال والنساء، وبالتالي فهي كانت غير طائفية، وكذلك كانت غير عنيفة، وأن العنف بدأ من النظام السوري الذي قام بعد خمسة أشهر من الاحتجاجات بحملة اعتقال، وتعذيب وتشويه للمتظاهرين، وقام بنشر القناصة في كل مكان.
بين دموية النظام والتدخل الخارجي:
يبرز الكتاب كون المفارقة المأساوية في تصاعد تنظيم الدولة الإسلامية بالعراق والشام “داعش” في أن معظم مقاتلي التنظيم ليسوا سوريين، بل أجانب، وفي ظل وجود قوات تابعة للأسد، مدعومة من قبل إيران، وكذلك روسيا في مواجهة تنظيمات أخري جهادية بها عدد كبير من الأجانب، مما يكشف عن حجم الكارثة السورية، وهو الوضع الذي يمكن توصيفه بأنه “حرق” للبلاد، في ظل تدويل الأزمة، والتدخلات الخارجية بها.
ويشير الكتاب إلى أن روسيا لاعب كبير في الأزمة السورية الحالية، في ظل دعم نظام الأسد بالمال، والسلاح، والمستشارين العسكريين، بالإضافة إلى الدعاية والدعم الدبلوماسي، وذلك بالتوازي مع دخول قوات عسكرية روسية إلى سوريا، وتنفيذ غارات جوية واسعة النطاق. وفي مقابل ذلك، يري الكتاب أن الجهود الدولية التي تقودها الأمم المتحدة لوقف إطلاق النار في سوريا دون المستوي.
وفي السياق ذاته، يشير الكتاب إلى عدم إدانة الولايات المتحدة الأمريكية للأسد في بداية الثورة، حتي تحول الموقف الأمريكي إلى النقيض الذي أصبح مرتبطا شكل كبير بضرورة إبعاد الأسد عن السلطة، وهو الموقف الذي يواجه برفض روسي شديد. ورأي أن الصراع الأمريكي – الروسي في سوريا جزء من الأزمة، وليس بأي حال من الأحوال جزءا من الحل.
مستقبل الأزمة السورية:
يوضح الكتاب كيف تحولت الأوضاع في سوريا تدريجيا من الثورة إلى الحرب، وأن الضحية الكبري لما حدث، خلال السنوات الخمس الماضية، هو الشعب السوري. حيث إنه بحلول يوليو 2015، كان ما يقرب من نصف سكان البلاد لا يعيشون في منازلهم، بمن في ذلك الملايين الذين فروا خارج البلاد إلى تركيا، ولبنان، والأردن، ودول أخري. حتي إنه في يونيو 2015، منحت المملكة المتحدة حق اللجوء لنحو أربعة آلاف سوري.
ويضيف أن أزمة اللاجئين السوريين، في ظل تعمقها خلال الأشهر القليلة الماضية، قد تكون أحد الأسباب الحاسمة في إعادة تشكل الشرق الأوسط، وكذلك أوروبا لسنوات قادمة. ويعبر عن حجم الإحباط السوري قول أحد الناشطين عن أيام الثورة الأولي “نحن حقا كنا على استعداد للتحول إلى مجتمع مفتوح، كان لدينا الزخم الكبير”. وتحمل الأزمة السورية الكثير من القصص الفردية المأساوية الفوضوية التي تجعل توصيف “حرق سوريا” هو توصيفا دقيقا.
ويرصد المؤلفان دور نظام الأسد في عسكرة الثورة الشعبية، من خلال فتح الباب أمام الإسلاميين المتطرفين، بدءا من جبهة النصرة، حتي صعود تنظيم “داعش”، حيث إن النظام السوري كان قد أطلق سراح نحو 1500 سلفي جهادي، يتسمون بالتطرف العنيف، من السجون السورية، بالإضافة إلى تنظيم مجموعات من البلطجية من أجل خلط الأوراق.
ويري المؤلفان أن الأسد يلعب بورقة الطائفية، وكذلك بورقة التطرف والإرهاب. حيث إن وجود مثل تلك التنظيمات الجهادية يكسب النظام السوري تأييدا وصمودا، وربما شرعية، في مواجهة ما يحدث من خلال التعميم، إذ إن التطرف وجد بيئة مناسبة في سوريا، من خلال العنف والدموية من قبل النظام، جنبا إلى جنب مع زيادة القمع، وانتشار الفساد.
وختاما، يشير الكتاب إلى أن الأوضاع السورية تتسم بالقتامة في ظل انهيار الدولة، وانعدام الخدمات العامة. وفي ظل تكهنات حول زيادة الأوضاع سوءا، يلاحظ المؤلفان أن سوريا بها جيل ليس مثل الأجيال السابقة التي تعودت على الصمت والخوف، وأن هذا الجيل، بالرغم من كل التشابكات الداخلية، والإقليمية، والدولية في الأزمة السورية، مصر على الحرية، وأنه على المجتمع الدولي أن يتخذ خطوات أكثر جدية في الوصول إلى حل حقيقي للأزمة السورية، وإدراك أن مشكلة اللاجئين هي ليست مشكلة سوريا وحدها، ولكنها مسئولية المجتمع الدولي بأكمله.
روبين كساب وليلي الشامي
عرض: أحمد عبد العليم
Robin Yasmin-Kassab and Leila al-Shami,Burning Country:Syrians in Revolution and War,(London: Pluto Press, 2016)
نقلا عن مجلة السياسة الدولية