في الأشهر القليلة المقبلة، سوف تدخل قوة مختلطة من قوات الأمن العربية العراقية والقوات الكردية مدينة الموصل، وتقوم بتطهير المدينة من متطرفي “داعش”، ثم تعمل على جبهات ترتيب الحكم والاستقرار وإعادة الإعمار في واحدة من أكثر مدن العراق تعقيداً، بالإضافة إلى المحافظة التي تضمها. وما من شك في أن “داعش” سوف يهزم في الموصل؛ لكن السؤال الحقيقي يتعلق بما سيأتي بعد ذلك. هل يستطيع جهد مرحلة ما بعد “داعش” أن يحل الشجار الذي يرجح أن ينشأ حول العديد من القضايا، وأن يحقق الاستقرار الدائم في واحدة من المحافظات العراقية الأكثر تنوعاً وازدحاماً بالتحديات؟ ربما يؤدي الفشل في تحقيق ذلك إلى “داعش” 3.0.
يعيد أفق العملية المقبلة لتطهير الموصل إلى الأذهان بعضاً من تجارب ربيع العام 2003، عندما دخلت الفرقة المجوقلة 101، التي كان لي شرف قيادتها، مدينة الموصل وهي في حالة اضطراب كبير. وكانت مهمتنا الأولى، بمجرد استعادة قدر من النظام في المدينة، هي تحديد كيفية إقامة الحكم. واقتضى ذلك الحصول على شركاء عراقيين للمساعدة في إدارة المدينة التي يقطنها نحو مليوني إنسان، وكذلك بقية محافظة نينوى –وهي منطقة كبيرة جداً كنا نعرف عنها أقل القليل.
سرعان ما تبين أن إنشاء مجلس تمثيلي مؤقت للعمل معنا في نينوى هو مهمة غير سهلة على الإطلاق، وتعرض كيفية تشكيلنا للمجلس والتطورات اللاحقة رؤى واستبصارات تجدر ملاحظتها في المسعى المقبل لاستعادة الموصل.
تجسد التحدي الأكبر في الموصل ونينوى في العدد الكبير من الجماعات العرقية، والطوائف الدينية، والقبائل والعناصر التي تتألف منها هذه المحافظة. وفي نهاية المطاف، تأكدنا من أن يضم مجلس المحافظة ممثلين عن كل منطقة في نينوى، عن كل دين رئيسي ومن كل مجموعة عرقية، ومن كل عنصر اجتماعي إضافي رئيسي ومن كل قبيلة كبيرة لم تكن ممثلة سابقاً بما فيه الكفاية.
بذلك تمكنا من تشكيل تجمع قام بانتخاب مجلس مؤقت للمحافظة. ثم انتخب ذلك المجلس بدوره حاكماً مؤقتاً قديراً وصاحب خبرة (عربياً سنياً، بالنظر إلى أن العرب السنة يشكلون أغلبية سكان نينوى)، والذي كان ضابطاً سابقاً محترماً برتبة لواء، وكان صدام قد قتل شقيقه وكان هو نفسه تحت الإقامة الجبرية لفترة طويلة.
لعل الأهم من ذلك، هو أنني كنت أمتلك السلطة القانونية اللازمة والقوات الضرورية لدعم تلك السلطة المحلية إذا تطلب الأمر ذلك. ولم أتردد في استخدام أي من الأمرين حيث لزم.
من الواضح أن القوات الأميركية اليوم تفتقر إلى السلطة والاختصاص والأعداد الكبيرة التي كانت لدى العناصر الأميركية في العراق في العام 2003. كما أنها لا تمتلك التفويض الذي كان لدينا في تلك الأيام السابقة. لكن القوى التمكينية التي وفرها التحالف بقيادة الولايات المتحدة للعناصر العراقية على مدار العام الماضي –الاستخبارات، وأصول المراقبة والاستطلاع، والمستشارين والعناصر اللوجستية، ومنصات الضربات الموجهة الدقيقة، على وجه الخصوص- كان لها دور أساسي في النجاحات التي حققها العراقيون في الرمادي والفلوجة وتكريت وبيجي والقيارة، ومجموعة من مواقع المعارك الأخرى.
ليس لدي أي شك في أن أصول التحالف سوف تلحق في الأسابيع القادمة الكثير من الضرر بعناصر “داعش” المتبقين على قيد الحياة في الموصل، بحيث يحتمل كثيراً أن تكون المعركة هناك أقل كثافة وحدة مما يخشى الكثيرون. وبذلك، فإن أهم تحد في الموصل لن يكون إلحاق الهزيمة بمجموعة “داعش”؛ وإنما سيكون الاضطلاع بالمهمة التي واجهناها هناك في العام 2003: ضمان الأمن في مرحلة ما بعد الصراع، وإعادة الإعمار، وفوق كل شيء، إقامة نوع الحكم الذي يكون تمثيلياً ومستجيباً للناس هناك. ويجب أن يضطلع بذلك كل العراقيين من مختلف الولاءات، ومن دون توفر أنواع القوات والموارد والسلطات التي كانت لدينا نحن هناك.
من المرجح أن تكون لقادة العناصر العراقية المختلفة ميليشياتهم الخاصة، وسوف تكون هناك جولات غير منتهية من الوقوف على حافة الهاوية في الطريق إلى تعيين حدود ما بعد “داعش”، وهياكل الحكم وتوزيع السلطة والموارد. ولو لم تكن هذه التحديات كافية في ذاتها، فثمة تحديات أخرى سوف تنبع أيضاً من إيران والميليشيات الشيعية التي تدعمها، ومن تركيا والدول العربية السنية المجاورة، ومن الحكومة الإقليمية الكردية التي تريد –على نحو مفهوم- الاحتفاظ بالمناطق الحدودية المتنازع عليها والتي تسيطر عليها قوات البشمرغة التابعة لها إلى حد كبير، وهكذا.
كان الجهد في الموصل ونينوى في ربيع وصيف وأوائل خريف العام 2003 ناجحاً جداً. ومع ذلك، نقضه في نهاية المطاف عدم القدرة على جعل السلطات العراقية في بغداد توافق على المبادرات التي سعينا إليها للمصالحة مع أعضاء حزب البعث السابقين الذين طُردوا من أعمالهم بموجب مرسوم اجتثاب البعث الذي أصدرته سلطة التحالف المؤقتة، والعجز عن توفير العمل لعشرات الآلاف من الجنود العراقيين الذين جعلتهم السلطة بلا عمل. وكان التحدي الهائل الآخر هو الافتقار إلى اتجاه واضح وإلى الموارد التي ينبغي أن توفرها بغداد لأنشطة الوزارات في نينوى. وقد عنت الإخفاقات الناجمة أن يتكثف التمرد السني أخيراً في الموصل، كما كان حاله سابقاً في المناطق السنية الأخرى من العراق. وقد أصبح العرب السنة في نينوى يرون القليل من الأسباب لدعم العراق الجديد؛ بل إنهم تصوروا أن الكثيرين يعارضون هذا العراق بنشاط أو بشكل ضمني.
ثمة دروس يمكن استخلاصها بوضوح من تجربتنا السابقة هناك –ومن مرحلة ما بعد مغادرة القوات الأميركية في العام 2011. وبشكل خاص، سيترتب على محرري الموصل أن يتعاملوا مع الحاجة إلى حكم إيجاد حكم شمولي وتمثيلي ومستجيب لحاجات الناس.
في حالة الموصل، سوف يحتاج العرب السنة في نينوى بشكل خاص إلى تطمينات بأن مصالحهم ستكون ممثلة بشكل مناسب وكاف في الموصل ونينوى الجديدتين. لكن هذا ينطبق أيضاً على المواطنين الأكراد في نينوى، وكذلك العرب الشيعة، والتركمان الشيعة والسنة، واليزيديين، والمسيحيين والشبك والقبائل الكثيرة هناك.
ستكون أفضل وسيلة لتحقيق ذلك هي إنشاء مجلس إقليمي للمحافظة، مثل ذلك الذي أنشأناه في العام 2003، ومن خلال عملية شمولية بنفس المقدار. ومن المهم أن لا تلعب الميليشيات الشيعية أي دور في مسائل الأمن والحكم في مرحلة ما بعد “داعش”. ولأن نينوى وغيرها من المحافظات العربية السنية تفتقر إلى ما يكفي من مصادر الطاقة والنفوذ الذي توفره، فإن حكماً ذاتياً دستورياً على النمط الكردي لن يكون خيارا قابلا للتطبيق. ومع ذلك، يجب أن تكون بغداد ورئيس الوزراء العبادي على استعداد لتقديم التزامات أكثر وضوحاً فيما يتعلق بمستويات توزيع الموارد، وربما منح المنطقة قدراً أكبر من الاستقلال أيضاً في تحديد أولويات الإنفاق. ولا شك أن المهمة التي تواجه العبادي ستكون معقدة للغاية، لكن الطريقة الوحيدة للمضي قدما هي مواجهة التحديات مباشرة، والعمل على بناء علاقات مع الأطراف المختلفة والضغط عليها لإيجاد أرضية مشتركة بشأن القضايا الخلافية –بمساعدة من التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة.
سوف تكون عملية حل قضايا ما بعد “داعش” صعبة ومكثفة. ولكن، بعد توفيرهم التمكين اللازم لإلحاق الهزيمة بمجموعة “داعش”، وتقديم أكبر قدر ممكن من الأصول لضمانة تحقيق المزيد من النجاحات ومبادرات إعادة الإعمار، سيكون للولايات المتحدة، إلى جانب شركاء التحالف العديدين، قدر كبير من النفوذ في سياق حل هذه القضايا. ويجب عليها أن تمارس ذلك النفوذ.
ديفيد بترايوس* – (الواشنطن بوست) 2016/8/12
*جنرال أميركي متقاعد. قاد قوات التحالف في العراق (2007-2008)، وفي أفغانستان (2010-2011)، وشغل منصب مدير وكالة المخابرات المركزية (2011-2012).
*نشر هذا المقال تحت عنوان:The challenge in Mosul won’t be to defeat the Islamic State. It will be what comes after
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
نقلا عن الغد الاردنية