سيناريو تقسيم العراق ليس نظرية للمؤامرة أو دعوة للتخويف أو بدعة لأصحاب الأجندات الإقليمية والدولية، بل سبق وأن ارتبط هذا المشروع بخارطة التقسيم في المنطقة. وليس من باب الاستهلاك والتكرار القول بأن فكرة تقسيم العراق خرجت من داخل إسرائيل، ولعل البعض من السياسيين العراقيين الذين استهوتهم تل أبيب قبل أو بعد 2003 وزاروها كالراحل أحمد الجلبي ومثال الألوسي وغيرهما من بعض معممي العملية السياسية حسب دفاع الألوسي عن نفسه، سمعوا ذلك مباشرة من بعض شخصيات الدولة العبرية الرسميين أو خبراء مراكز بحوث المستقبل حيث تم ترويج مشروع تقسيم المنطقة “طائفيا” كجزء من أمن كيانهم الصهيوني. سيناريو تقسيم العراق لم يبدأ عام 1982 فقط وإنما امتد للسنوات الثلاثين التالية ويتواصل إلى حد اليوم. سبق لـيينون الإسرائيلي أن روج لمشروعه عام 1982 ووصفه “بأنه الطريقة الوحيدة التي قد يتمكن بها شعبٌ صغير مثل الشعب اليهودي من حكم مساحة تمتد من النيل إلى الفرات ذلك حينما تكون لكل طائفة دولة، فوجود دولة يهودية يصبح مبررًا تمامًا، يقسم العراق إلى 3 دول؛ شيعية – سنية – كردية، ومن بعده يتم تقسيم لبنان ومصر وليبيا والسودان وسوريا والمغرب العربي وإيران وتركيا والصومال وباكستان”.
وبعد عشر سنوات جرت مياه كثيرة في المنطقة والعالم، سقوط وتقسيم الاتحاد السوفييتي وتفككه إلى 15 دولة بعد دحره في أفغانستان على يد القاعدة وطالبان بدعم أميركي مباشر، وكارثة احتلال الكويت من قبل صدام حسين وحصار شعب العراق واحتلاله عام 2003. في هذه الأجواء، خرجت خرائط برنارد لويس الذي وجد في تقسيم العراق مدخلا لحروب طائفية تعجل بتقسيم المنطقة، وليس غريباً أن يصبح برنارد لويس بعد عشر سنوات من نشر مشروعه التقسيمي مستشار الرئيس الأميركي جورج بوش في اجتياح العراق عسكريا واحتلاله، كان الهدف الأول هو العراق.
كان الفرح قد عمّ حكام إسرائيل بعد احتلال العراق لأن مشروع تقسيمه أصبح سهلا. تحدث رالف بيترز في مقاله الشهير عن الحدود التي توفر الأمن لإسرائيل ثم جعل الأولوية الثانية لدولة الأكراد، ورأى توحد سنة العراق مع سنة سوريا في دولة واحدة (حدودها متطابقة إلى حد كبير مع المساحة التي تسيطر عليها داعش)، على أن تمتد دولة أخرى علوية من ساحل سوريا لساحل لبنان، وبالطبع دولة شيعية في جنوب العراق، أما السعودية فقد أراد أن يقسمها ليصبح “جزء في الشمال ينضم إلى الأردن، الحجاز يستقل كدولة مقدسات ونموذج إسلامي من الفاتيكان، (وبالتالي يتم انتزاع الهوية الإسلامية للسعودية)، السواحل الشرقية تذهب لشيعة العراق، جزء في الجنوب الغربي يندمج مع اليمن، وبذلك لا يتبقى للسعوديين إلا نجد، والرياض في قلبها.
كما روّج وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كسينجر عام 2006 لفكرة تقسيم العراق على غرار يوغسلافيا وفق خطة دايتون.
مشاريع تقسيم العراق تتصاعد في موجات العنف والاضطهاد الطائفي، والعجز عن تحقيق الخدمات للمواطنين في المحافظات العربية السنية والشيعية، إضافة إلى المقارنة بين فقر هذه المحافظات المادي مع البحبوحة التي يتمتع بها إقليم كردستان، حيث انطلقت المطالبات بتشكيل أقاليم أخرى على غرار إقليم كردستان. كما دعمت هذه الرغبة الخلافاتُ السياسية الكبيرة بين السياسيين العراقيين المشاركين في العملية السياسية، وخاصة أولئك الذين شعروا بأنهم مهمشون.
والملفت أن أولى هذه المحافظات المطالبة بالفيدرالية كانت هي نفسها التي صوتت ضد الدستور ورفضت الفيدرالية، ثم أصبح كل من يطالب بالفيدرالية يدعي أنه يفعل ذلك، وهو محق، وفق الدستور الدائم، الذي أقر ذلك بل وسهّله في المادة 119. في حين أن السلطة المركزية الممثلة للأحزاب السياسية الدينية التي رحبت بالفيدرالية وروجت للتصويت لصالح الدستور الدائم الذي يقرها لكنها تغافلت عن المشاكل المستقبلية التي قد تثيرها مواده التي لم تُدرَس بعناية، انطلقت هذه الأحزاب معارضة لهذه الفكرة وتحاربها بشراسة. وربما من المفيد التذكير هنا بأن الإدارة الأميركية التي روجت للمشروع وتحدثت في فترة ما عن ضرورة تقسيم العراق إلى أقاليم ثلاثة؛ كردي وسني وشيعي، كحل أمثل للمشاكل العراقية، التي خلقها التدخل الأميركي، بدأت تبدي تحفظها على مثل هذه المشاريع، ويظهر من متابعة المطالبات المتصاعدة للفيدراليات المتعددة أن أسبابها اختلفت من محافظة إلى أخرى، ففي المحافظات الجنوبية (البصرة وميسان وذي قار وغيرها)، والتي تسكنها أغلبية ينتمي أبناؤها إلى نفس الطائفة التي ينتمي إليها الائتلاف الحاكم، كانت الأسباب هي الشكوى من الإهمال وعدم منح هذه المحافظات التخصيصات المالية المطلوبة لتطويرها.
أما في المحافظات الغربية (الأنبار وصلاح الدين) التي تسكنها غالبية تختلف طائفيًّا عن الائتلاف الحاكم، فإن الأسباب تمثلت في إصرار الحكومة على معاملتهم إما كتابعين للنظام السابق، وإما بالمبالغة في تطبيق قوانين مكافحة “الإرهاب واجتثاث البعث” (قانون المساءلة والعدالة) على أبنائها.
في حين أن أسباب مطالبة المحافظات القريبة من إقليم كردستان (ديالى وكركوك ونينوى)، كانت الشكوى من هيمنة الأحزاب والقوات الكردية عليها بدعوى أنها مناطق متنازع عليها، هذا المخطط هو ما ترجم بعدها في الدستور العراقي بدعم أميركي، الذي منح حق تقرير المصير للأكراد وحق تشكيل الأقاليم غير الإدارية في إطار دولة فيدرالية، لتستكمل حلقات المشروع بعدها بموافقة الكونغرس الأميركي وإقرار مجلس الشيوخ في عام 2007 لخطة غير ملزمة لتقسيم العراق إلي ثلاثة أقاليم، قدمها جو بايدن، الذي كان وقتها يشغل منصب رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، ثم بات اليوم نائبا للرئيس والمسؤول المباشر عن الملف العراقي.
احتلال داعش لثلث أرض العراق في العاشر من يونيو 2014 عزز المشاريع الطائفية في العزلة الطائفية والقومية، وكان لهذا التنظيم دوره في تبلور مشاريع العزل، كان تنظيم داعش الإرهابي يوهم العرب السنة بأن مستقبلهم الحقيقي في ظل دولته “الخلافة الإسلامية” التي رسمت خطوطاً جغرافية طائفية امتدت ما بين الأنبار وصلاح الدين والموصل والرقة السورية، في الوقت الذي كان يقتل فيه أبناء العرب السنة المخالفين له. كان هذا الإيهام يتطابق مع دعوات التقسيم الطائفي التي راجت خلال الثلاثين سنة الماضية. كان هذا التنظيم كاذبا، ولو كانت دعواته صادقة لوفر لأهل الموصل وتكريت والأنبار وديالى والحويجة الأمن والطمأنينة لكي يعطي التبرير لولاء العرب السنة الذين وجدوا أنفسهم بين فكي اضطهاد أهل الحكم وداعش. في هذه الأوقات نمت دعوات لإقامة إقليم يضم محافظات نينوى وديالى وتكريت تكون كركوك عاصمة له وكجزء من إقليم كردستان.
هذا الارتباك مرتبط بارتباك العملية السياسية ذاتها، وما تعيشه الكتلة السنية حاليا من تفكك وتناقضات لا علاقة لها بمصلحة المواطنين. كما تعيش الكتل الشيعية مشكلات بين أطرافها، وذلك سيؤدي إلى تبلور مشاريع الأقلمة التي تقود إلى تقسيم العراق. في ظل عدم وجود حلول سياسية في الأفق فلا “مصالحة تاريخية” بين العرب السنة والشيعة، وهناك سعي للبحث عن تأمين المصالح الذاتية، أو توفيرها من قبل المنتمين الجدد للعملية السياسية.
جميع المنتمين إلى الأحزاب الدينية يرفضون تقسيم العراق الآن لأنهم حين يستحوذون على الكل فلماذا يفرطون في الجزء، ولكن حين يسيطر شعور الخوف من ضياع السلطة يصبح التقسيم مطلباً. الأكراد تجاوزوا المرحلة إلى الاستقلال الذاتي، وسياسيو الشيعة مسيطرون اليوم على عرب العراق، الكارثة هي لدى السنة فالتقسيم لن يقدم لهم سوى رمال غرب العراق، وسيفقدون كل شيء بعد أن فقدوا اعتباراتهم إلى جانب إخوتهم أبناء الشيعة في بناء العراق الذي تفكك اليوم عملياً ولم يبق سوى إعلان تقسيمه بعد نهاية داعش.
مشروع التقسيم سيصبح مطلباً في ظل الإحباط العام لدى العرب السنة الذي سيكون أكثر حدة خلال وبعد تحرير الموصل وتنظيف العراق من داعش بعد أن تحول سياسيوهم إلى شلل مصلحية متنازعة. الأميركان كرسوا ذلك وكذلك الإيرانيون، ولم يسعوا إلى حل يقدم بديلا جديدا من النخب العربية السنية النظيفة، وتم وضع “الدينصورات السنية” في موقعها بمزبلة التاريخ. أمام انغلاق أزمة العراق السياسية وهيمنة الفساد وعدم وجود استعدادات للتنازل وسط الطريق، لن يصمد العراق الموحد أمام عاصفة تقسيمه التي باتت تلوح في الأفق.
د. ماجد السامرائي
نقلا عن العرب