لعل أهم ميزة يتسم بها هذا الكتاب أنه صادر عن مؤرخ أكاديمي لم يأخذ قارئيه بعيداً عن خضم الأحداث والتطورات الراهنة التي يموج بها عالمنا في الفترة الراهنة..
ولكنه آثر أن يؤرّخ ويكتب عن شخصية معاصرة، بل كانت مؤثرة على نحو أو آخر في مسار الأحداث، سواء على مستوى الولايات المتحدة أو على مستوى أقطار وأرجاء أخرى من العالم، الشخصية التي تدور حولها مقولات وتحليلات الكتاب هي شخصية الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش أو بوش- الابن..
وكان ترتيبه رقم 43 في سلك الرؤساء الأميركيين. وقد تابعت فصول الكتاب تطور سيرته منذ نشأته في أسرته المتمتعة بالمال والنفوذ في ولاية تكساس، وهو ما باعد بينه وبين الخدمة العسكرية في حرب فيتنام ثم أوصله إلى أن يكون حاكماً لولاية تكساس نفسها إلى أن هَزَم منافسه آل غور في سباق سنة 2000 الانتخابي ليدخل البيت الأبيض دون أن يكون مؤهلا ..
كما يوضح الكتاب- للاضطلاع بمسؤوليات المنصب رقم واحد في أكبر دولة بالعالم، فضلاً عما صادفه في مستهل ولايته من وقوع حادثة 11 سبتمبر 2001 وما أعقب ذلك من قرارات كانت تقضي بغزو أفغانستان ثم غزو العراق، وهي القرارات التي يؤكد هذا الكتاب أن مسؤولية اتخاذها، بكل ما نجم عنها من سلبيات الدمار إنما تقع على عاتق بوش بالدرجة الأولى.
هو أقوى رجل في العالم، أو هكذا يتصور الناس في كل أنحاء هذا العالم، الحديث هو عن شاغل المنصب رقم واحد في البيت الرئاسي الأبيض في العاصمة الأميركية واشنطن. وعلى الرغم من أن حكاية الأقوى..
وفي العالم مازال يخالطها الكثير من نواتج ماكينات الدعاية في أميركا، ما بين »مانشتات« الجرائد الكبرى إلى منتوجات الوهم السينمائي اللذيذ في هوليوود، إلى ما لا تزال تطرحه بدأب شديد ومنتظم استطلاعات الرأي العام وفحوصات الجماهير إلى آخر ما تحفل به علوم الإعلام وأجهزة الاتصال الجماهيري، وتلك دراسات وتخصصات حرصت أميركا على أن تكون رائدة في ساحاتها.
في كل الأحوال، ظلت أميركا تسوّق في عالمها صورة رئيس دولتها ممّوهة بألوان الطيف، وبحيث تتناسب مع مراحل التطور السياسي والاقتصادي في عالم لم يعد فيه مكان للعزلة أو الاكتفاء الذاتي.
سلسلة الرؤساء المعاصرين
وعبر سنوات الجيل الذي تفّتح وعيه مع بداية ستينات القرن المنصرم بدأ الناس يتسامعون عن كيندي الذي تحولت رئاسته إلى دراما أقرب إلى التراجيديا الإغريقية، بعد أن تعرض للاغتيال في موكب مشهود في 22 نوفمبر من عام 1963، ولمّا تمض عشر سنوات حتى تسامع العالم بحكاية رئيس أميركي آخر..
ولكنها لم تكن من صنف المآسي الكلاسيكية بقدر ما جاءت خليطاً بين المأساة والملهاة، تراجيكوميديا كما يقول المصطلح المتداول، وتمثلت كما هو معروف- في فضيحة »ووترغيت« .
بعدها عاود الجمهوريون الأميركيون الإمساك بمقاليد الحكم على مدار 8 سنوات، أمضاها ممثل هوليوود القديم رونالد ريغان رئيساً للبلاد، وهي السنوات التي لا يزال مؤرخو السياسة والاقتصاد يصنّفونها على أنها حقبة استشراء اتجاه النيوليبرالية، بمعنى الرأسمالية المتوحشة.
وحين حلت سنة 1988 كان الدور الرئاسي قد حلّ على نائب ريغان وهو جورج بوش الأب الذي لم يكن فوزه بالمنصب رقم واحد أمراً صعباً، جاء بوش الأب أو فلنقل بوش الأول مستنداً إلى خبرة طويلة ومتنوعة في تولي المناصب المهمة والمسؤوليات الكبرى.
مع هذا كله فقد شاءت أقدار بوش الأب أن يكون من صنف رؤساء الولاية الوحيدة بعد أن فاز عليه السياسي الوسيم الشاب الذي جاء من ولاية ريفية شبه مجهولة كان اسمها أركنسو وكان اسمه بيل كلينتون.
سباق الرئاسة الراهن
في كل حال فالأميركيون يستعدون حالياً لاختيار رئيس جديد يشغل هذا المنصب الخطير، والصراع محتدم بكل معانيه وتجلياته بين المرشح الجمهوري دونالد ترامب والمرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون.
وفي غمار هذا الصراع، بدأت أوساط السياسة والفكر تتداول أحدث كتاب صدر خلال الأسابيع القليلة الماضية تحت عنوان يتألف من كلمة وحيدة هي: بوش.
وبديهي حسب الصورة المنشورة على غلاف هذا الكتاب أنه الرئيس بوش الابن، وهو- كما ألمحنا- الرئيس الثاني من تلك العائلة التكساسية كما نسميها، وكان يحدوها أمل خلال ربيع وصيف عامنا الحالي في أن تدفع إلى المنصب الرفيع واحداً من أبنائها هو جيف بوش حاكم ولاية فلوريدا السابق ليصبح الرئيس بوش رقم ثلاثة، لكن خابت المراهنات السياسية وتحولت لصالح ملياردير العقارات دونالد ترامب.
الرئاسة وسط الازدهار
الفصول الأولى من كتابنا تحفل بالعديد والخليط من علامات التعجب وعلامات الاستفهام، يذهب مؤلفنا إلى أن جورج بوش الابن حين دخل مكتب الرئاسة البيضاوي إياه ليستهل ولايته بوصفه رئيس أميركا رقم 43 كان يعد من أكثر رؤساء الولايات المتحدة حظاً وتفاؤلاً، لماذا؟ لان الميزانية الاتحادية كانت تنعم وقتها بفائض مالي، والفضل فيه بالطبع كان لسلفه بيل كلينتون.
ولم يكن معدل البطالة ليزيد على 4 في المئة وتلك نسبة ضئيلة بكل مقياس، ولدرجة أن الاقتصاديين يعدّونها بمثابة مؤشر على العمالة الكاملة..
فيما لم يزد معدل الإنفاق العسكري على 350 مليار دولار أي 3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما لم يحدث، كما يؤكد مؤلف الكتاب، منذ أواخر أربعينات القرن العشرين، وكان طبيعياً أن ينعكس هذا كله على قوة الدولار الأميركي معبّراً عن مكانة واشنطن بوصفها القطب رقم واحد في العالم.
هنا يتوقف المؤلف ليطرح بالطبع السؤال البديهي: ثم ماذا حدث خلال سنوات بوش الثماني 2001- 2007؟
وهنا أيضاً تبادر صفحات الكتاب إلى الإجابة، الذي حدث هو أن وجدت أميركا نفسها وهي تخوض اثنتين من حروب الاختيار كما يسميها المؤلف وفي ساحات بعيدة (ما بين كابُل إلى بغداد)..
وأصبح الإنفاق العسكري يشكل 20 في المئة من بنود الميزانية الاتحادية وأكثر من 5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، ولدرجة أن أصبح الدين القومي الداخلي منفلتاً ومستعصياً على كل محاولات الكبح أو السيطرة. أما البطالة فقد ارتفع معدلها ليصل إلى 9.3 في المئة ثم ظل يواصل الارتفاع.
صحيح أن أميركا يسلّم مؤلفنا- ظلت في مكانة الدولة العظمى الوحيدة على خارطة العالم، لكن سمعتها كانت قد أصيبت بالكثير من الصدمات والتشهير.
جورج بوش والقرار
بعدها تتحول طروحات الكتاب من الإحصاءات والتحولات العمومية إلى حيث يغوص المؤلف في أعماق الرئيس بوش نفسه..
حيث يمضي البروفيسور سميث قائلا: لم يكن بوش مستعداً أو جاهزاً لتعقيدات آلة الحكم، كان يفتقر إلى خبرة وتجارب في العمل التنفيذي (وفي مقدمتها) ضرورات تركيز الاهتمام في رسم السياسات، وهو ما تجلى في أن مجيء بوش- الابن إلى الرئاسة بغير سابقة من حيث التعلم أو التوجيه، وبغير قراءات متعمقة ولا أسفار أو رحلات يُعتد بها وبغير دراية ومراسٍ كاف بالأساليب المتبعة في العالم.
وهنا أيضاً يحيل المؤلف إلى تصريح كان بوش قد أدلى به إلى واحد من مؤرخي سيرته فقال: أنا لا أخشى اتخاذ القرارات.. بل في واقع الأمر أنا يستهويني هذا الجانب من جوانب الرئاسة.
يعلق مؤلفنا على هذا التصريح، الذي ينضح بالطبع بكل هذه الثقة الغريبة في النفس، يقول: إن هذه الثقة المفرطة في النفس ما لبثت أن أصبحت أكبر عيوب الرجل، هذه الثقة وهذا التصميم تسببا في إلحاق المزيد من الأضرار بالرئيس جورج دبليو بوش.
ثم يمضي كتابنا إلى حيث يخلص إلى أن قرار غزو العراق في عام 2003 جاء بغير تشاور واجب أو كاف أو مطلوب مع المستشارين، وإنما صدر ليشكل ما يكاد يكون قراراً انفرادياً من جانب الرئيس الأميركي المذكور أعلاه، وصدر ليشكل أسوأ قرار تم اتخاذه، كما يوضح المؤلف، في مجال السياسة الخارجية..
ومن ثم فإن عواقب القرار المذكور ظلت تهيمن على إدارة بوش بل ما زالت أشباحها ماثلة ومهيمنة على (تاريخ) تلك الإدارة حتى اليوم. وعليه فالمؤلف يتوقف ملياً عند ظاهرة هل نقول كارثة ؟ هذا الانفراد من جانب بوش، موضحاً أن القرار لم يصدر بناء على مشاورات ومداولات من جانب مساعدي بوش، يستوي في ذلك كل من نائبه ديك تشيني، أو مستشارته كوندوليزا رايس أو وزير دفاعه دونالد رامسفيلد.
تشريح لغزو العراق
يتحول كتابنا إلى ما يصفه الناقد جاسون زنغرلي (نيويورك تايمز، عدد 18/7) بأنه تشريح تفصيلي ومؤلم بكل معنى لغزو أميركا للعراق، مع ما أعقب ذلك من عواقب كارثية.
وهنا تبدّت كل سلبيات الرئيس بوش الذي كان كما يصفه مؤلف الكتاب أيضاً- على غير اطلاع أو دراية بالقواعد والمعايير التي تنظّم مسير العالم خارج حدود أميركا، بل كان في ممارسته للدور الخطير الذي اضطر إلى أدائه، وهو دور القائد الأعلى للقوات المسلحة، ما أدى إلى اتخاذ جورج بوش أسوأ قرار في مضمار السياسة الخارجية بصورة لم تحدث بالنسبة لأي رئيس آخر.
وهنا يلاحظ قارئ هذا الكتاب أن المؤلف بكل منهجه الأكاديمي يصر على إطلاق عبارة صاحب القرار على جورج بوش وهو ما يخالف الصورة المقولبة- النمطية التي رسموها للرجل خاضعاً تحت تأثير شخصيات كانت نافذة في إدارته ما بين كارل روف، كبير معاونيه الإعلاميين، إلى نائبه ديك تشيني. ثم يضيف المؤلف قائلا، لقد عمل جورج بوش على شخصنة السلطة الرئاسية.
والمؤلف في هذا السياق بالذات يفصح عن نهجه في سرد وتقصي وتحليل حوادث التاريخ، وهو نهج أقرب إلى ذلك الذي اتبعه المؤرخ الانجليزي الشهير توماس كارلايل (1795- 1881) في دراسته الشهيرة بعنوان الأبطال وعبادة البطولة (صدرت عام 1841) وفيها يرى المؤرخ أن التاريخ يتشكل بفعل ما يتخذه الأفراد من قرارات وليس بما قد تسفر عنه تحركات القوى العديدة على صعيد المجتمع.
أضواء على مرحلة النشأة في تكساس
في معرض التحليل يتوقف الكتاب ملياً عند نشأة بوش في كنف عائلته التي تتمتع بالمال والجاه كما قد نقول، كيف لا وقد استغل الفتى جورج دبليو بوش كل هذه الإمكانات والعلاقات سواء من أجل تجنّب أو التهرب من الخدمة العسكرية في حرب فيتنام أو للالتحاق طالباً بواحدة من كبرى جامعات الولايات المتحدة وهى جامعة يال.
وهنا يحرص المؤلف على ألا يظلم موضوعه بل يعمد إلى تسجيل ما قاله بوش فيما يشبه الاعتراف بشأن أيام يفاعته حين قال، عندما كنت شاباً وغير مسؤول.. كنت أتصرف بوصفي شاباً وغير مسؤول.
ثم يعلق مؤلفنا قائلا، إن هذه العبارة (الاعتراف) تلخص كل شيء، وحتى عندما أصبح حاكماً لولاية تكساس، لم تكن هذه الوظيفة تشكل عملاً متفرغاً طول الوقت، أما فوزه في السباق الرئاسي في عام 2000 فإنما يرجع أساساً إلى جمود شخصية آل جور منافسه (الديمقراطي) الذي دخل إلى ساحة السباق الرئاسي وكأنه كائن مصنوع من خشب، في حين دخل بوش بروح من اليسر والبساطة..
ثم يواصل المؤلف قائلا، لكن هذه المزايا لم تجعل جورج بوش مؤهلا للاضطلاع بالمسؤوليات الجسيمة التي كان سيواجهها كرئيس للبلاد. وكم صادفته من تحديات ولكنه لم يفلح في مواجهتها. ولعل من أبلغ الأمثلة على ذلك ما تجسد في موقف الرئيس بوش إزاء اندلاع إعصار »كاترينا« بكل ما أفضت إليه من ويلات الدمار، لقد اكتفى الرئيس بوش بالمتابعة وكان قصارى جهده أن راقب إعصار كاترينا وهو يهبّ (ولم يكد يفعل شيئاً)!
جانب مهم من شخصية بوش
يتوقف المؤلف عند جانب يراه مهماً بقدر ما يراه طريفاً من شخصية جورج بوش الابن بطل هذا الكتاب، يقول:
لقد كان الرئيس بوش يشعر بالمتعة، وربما تحقيق الذات، حين ينفرد بإصدار القرار، وطبعاً حين يتابع النتائج، فإذا بها تدل على مبلغ السرعة والمبادرة والحسم الناجم عن صدور قرار رئاسي ويتصل بحياة البشر ومصائر الشعوب، وخاصة حين كان الرئيس الأميركي الأسبق ينصّب نفسه في مكانة المدافع الأول في الحرب ضد الإرهاب.
المؤلف
البروفيسور جين إدوارد سميث يعمل أستاذاً للعلوم السياسية في جامعة جون مارشال بالولايات المتحدة، كما عمل في جامعة تورنتو في كندا، على مدار خمسة وثلاثين عاماً. يبلغ من العمر 84 عاماً وقد درس في جامعة برنستون، ثم حصل على درجة الدكتوراه من جامعة كولومبيا.
وقد أصدر دراسة بعنوان حرب جورج بوش (1992) وتناولت سيرة الرئيس بوش الأب وبخاصة ما عرف باسم حرب الخليج، كما فاز في عام 2008 بجائزة فرانسيس باركمان.
تأليف: جين إدوارد سميث
عرض ومناقشة: محمد الخولي
الناشر: مؤسسة هنري هولت، نيويورك، 2016
عدد الصفحات: 325 صفحة
- تأليف: جين إدوارد سميث – عرض ومناقشة: محمد الخولي
نقلا عن موقع صحيفة البيان الاماراتية