سال حبر كثير خلال الأسبوع الماضي في ما أطلق عليه زوراً «أزمة العلاقات المصرية- السعودية»، إلى حد الحديث عن قطيعة أو صدام بين البلدين اللذين كان لتقاربهما خلال السنوات الماضية فضل كبير في تجنيب المنطقة سيناريوات سيئة يجري التخطيط لها بدأب منذ أكثر من عقد من الزمان. ولم تكن هذه المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة، التي يعلو فيها الضجيج القائم على غير أساس. ولا يعني ذلك التقليل من خطر ما حدث، لأن جزءاً من آليات اصطناع الوقائع على الأرض يكمن في خلقها افتراضياً، والإلحاح عليها والنفخ فيها، ومحاولة صنع أجواء مواتية لتحويل ما هو افتراضي إلى حقائق على الأرض.
الاتفاق التام بين أي دولتين أمر مستحيل، مهما بلغ تقاربهما، ومهما تشابهت الأسس والمنطلقات والقيم السياسية. ورؤية كل دولة مصالحها تجعلها تتخذ مواقف تخالف مواقف أقرب حلفائها في بعض الأحيان. وفي منطقة الشرق الأوسط الملتهبة بقضايا شديدة التعقيد، يجب أن نتوقع تبايناً في وجهات النظر في شأن قضية أو أخرى. والطبيعة المركبة للأزمة السورية في شكل خاص، وتعدد الأطراف والمصالح والقوى المؤثرة فيها، تجعل حسابات كل دولة تختلف عن الأخرى بحكم ظروفها. ومصر والسعودية على المستوى الرسمي تتفهمان ذلك، وحين صوتت مصر لمصلحة قرار في مجلس الأمن، رأت المملكة أنه في غير محله، كان هناك عتاب سعودي مهذب وصريح ومُعلن، وشرحت مصر موقفها بالتهذيب ذاته. ومن وجهة نظر خاصة، فإن هذا الوضوح أمر صحيّ، وهو أفضل من الإنكار أو التعمية والتظاهر بأن كل شيءٍ على ما يرام من دون أن يكون كذلك في الحقيقة. ولم يكن للموضوع أن يأخذ أكثر مما يستحق لولا أن النافخين في نار الشقاق والفرقة عملوا على انتهاز الفرصة والربط بينها وبين قرارات اقتصادية لا تبدو غريبة عن سياق الترشيد الذي استدعاه انخفاض أسعار النفط.
من حسن الحظ أن القيادة في البلدين تملك من الحكمة ومن الوعي ما يمكنه من إحباط هذه المحاولات، وأن الأداء السياسي الرسمي في البلدين كان منضبطاً وقادراً على إدراك طبيعة المخطط الشرير الذي حُشدت له جهود إعلامية ضخمة. ولم يكن غريباً على من تابع القضية منذ بدايتها أن يرى الأصوات نفسها التي اعتادت الصراخ في كل مناسبة بأن الخلافات بين الرياض والقاهرة وصلت إلى نقطة عدم الرجوع، وأن يدرك أن نغمة واحدة تنطلق من دول عربية مختلفة وتردد الأقاويل ذاتها بصيغ مختلفة، ما يؤكد ما هو معروف سلفاً من أن الجهة التي تقف خلف هذا الضجيج المفتعل جهة واحدة، لها أذرعها الإعلامية والسياسية المنتشرة في كل مكان، ولها مصلحة في إضعاف الدول والحكومات العربية. والمؤسف أن جماعة «الإخوان المسلمين» التي تقف وراء هذه المحاولات تلقى دعماً من دول عربية يجب أن تنأى بنفسها عن هذه اللعبة غير الشريفة.
ربما يكون الخطير هذه المرة اتساع نطاق التراشق الإعلامي وتبادل الإساءات بين أفراد من الطرفين، والنشاط المفرط للماكينة الدعائية التي حاولت استثارة المشاعر الوطنية لدى مواطني البلدين، بالتركيز على نشر بعض التعليقات المسيئة لاستنفار ردود مماثلة وتوسيع دائرة المشاركين في الحوارات الاستفزازية في وسائل التواصل الاجتماعي، وتغذية مشاعر الكراهية المنفلتة وتوجيه الإهانات التي تجرح الكبرياء الوطنية وتزيد في الغضب المتبادل. وليس جديداً أن هناك إحساساً بخطورة الاستخدام غير المسؤول لوسائل التواصل الاجتماعي، مع الاتساع الهائل لعدد مستخدميها في البلدان العربية. ولطالما تصاعدت الدعوات إلى ضرورة وضع التشريعات والقوانين التي تحول دون استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في شكل سلبي، من دون أن يصل الاهتمام بذلك في الدول العربية إلى المستوى الذي يتناسب وخطورة القضية.
ما يلفت النظر أيضاً أن «العقلاء» في وسائل التواصل الاجتماعي هم الأبطأ دخولاً إلى الساحة في هذه الحال وغيرها، وأنهم يتركون الساحة لأصحاب النيات السيئة أولاً الذين يجتذبون الحمقى إلى الساحة، ويتأخر «العقلاء» عادة، وهو ما يمنح المتآمرين والحمقى دائماً ميزة المبادأة وتوجيه الضربة الأولى، بما يعنيه ذلك من كسب جزء من الأرض. ويلزم أن يكون تحرك الفئات الأكثر فهماً ورشداً، وهم الغالبية الساحقة، تحركاً استباقياً في مثل هذه الحالات، وأن يعكسوا بنشاطهم الإيجابي حقيقة الموقف، بدل ترك الساحة لمجموعة أقل عدداً لكنها أكثر صخباً لإعطاء صورة مشوهة عن القضايا المشابهة. وقد رأينا حراكاً إيجابياً خلال الأيام الماضية في هذا الاتجاه، لكن الساحة ظلت خالية لفترة أمام المسيئين، وهو ما كان يمكن تقليل أثره بالتحرك في الوقت المناسب.
لا تسمح لنا الظروف السياسية الحالية بالخطأ، والعلاقات المصرية- السعودية الوثيقة هي أحد الأسس التي يقوم عليها استقرار المنطقة، وكل من يحاول العبث بهذه العلاقة أو الدس والوقيعة بين البلدين إنما يخدم مخططات الفوضى والفتنة، ويحقق أهداف المتربصين بالدول العربية، سواء أكانوا لاعبين إقليميين يوسعون أدوارهم ونفوذهم على حساب الدول العربية ويستفيدون من أي خلاف بينها، أم لاعبين دوليين تأكد خلال السنوات الأخيرة أنهم يفضلون إضعاف الدول العربية وتسليم المنطقة إلى أطراف أخرى. وهذه القوى الدولية تنظر إلى العالم العربي بوصفه كتلة واحدة، ومن يتصور أنه يمكن أن يحرز مكاسب منفردة فهو واهم.
إن العلاقات السعودية- المصرية الجيدة رصيد استراتيجي لكل الدول العربية، وهي قضية تعنينا جميعاً. والقيادة في الدولتين ترى الواقع جيداً، وتعي متطلبات التعامل معه. والتصريحات الرسمية من أعلى مستويات القيادة في البلدين خلال الأيام الماضية تؤكد أن أسس هذه العلاقات متينة وراسخة. وعلى المستوى غير الرسمي، كانت هناك جهود إيجابية نجحت في سحق آمال المراهنين على الشقاق والخلاف. ومن يتابع المقالات التي ازدحمت بها الصحف والمواقع الإلكترونية في مصر والسعودية، والتحركات التي قامت بها جمعيات وتجمعات وطنية، يُدرك أنه على المستوى الشعبي، كما على المستوى الرسمي، هناك وعيٌ عالٍ بأهمية العلاقات المصرية- السعودية وضرورة الحفاظ عليها من عبث العابثين. وفي هذا ما يطمئننا كثيراً، من دون أن نغفل عن سد كل الثغرات التي ينتظر المتربصون بالعالم العربي أن ينفذوا منها.
راشد صالح العريمي
صحيفة الحياة اللندنية