يتواصل الانقسام المجتمعي العراقي عموديا وأفقيا بشكل كارثي، حتى يكاد يطيح بكل الطبقات الاجتماعية، بعد أن كان مقتصرا على الطبقة السياسية وبعض الملتفين حولها من الأنصار والأعوان والحاشية والانتهازيين.
من الطبيعي أن تتوحد المجتمعات في أوقات الأزمات والمحن التي تهدد مصيرها، فتظهر كل ما لديها من معدن أصيل ومواقف مُشرفة ونكران ذات جمعي، وتكون في مقدمة مسيرتها الرموز المعنوية من رجال دين ورؤساء قبائل وشيوخ عشائر ووجهاء القوم والنخب المثقفة، لكن ما يؤسف له أن كل أوقات المحن التي مرت على العراقيين بعد الاحتلال وحتى اليوم، تُظهر لنا صور تشرذم كئيبة ومخزية، لأن غالبية الرموز المعنوية كانت أول من ركب القطار الأمريكي والإيراني، والبعض منها حاول اللحاق به في ما بعد أملا في الحصول على منصب أو حفنة دولارات، ثم أصبحت هذه الغالبية معيدات بث لكل السموم التي تنشرها قيم وأفكار ومخططات الغزاة والمحتلين حتى بعد رحيلهم.
لكن رهان النهوض لن يتدحرج بين الأقدام ولن يمسي في خطر، إلا حين ينزلق المثقفون والأكاديميون وطلبة الجامعات إلى فخ الانقسام الطائفي، والرضوخ المستكين إلى شروط واستحقاقات الهويات الصغرى. صحيح أن أصواتا كثيرة من هذه الاوساط كانت تشعل البخور وتنثر الورود ترحيبا بقدوم الغزاة، لكن الرهان كان دوما على أن الوعي في هذه الطبقة الاجتماعية لن يصيبه العطب، وأن العدوى لن تنتقل إلى كل العقول والقلوب المستنيرة. ومع بدء قرع طبول معركة الموصل، والتحضيرات الدولية والإقليمية والمحلية للاستثمار فيها، ومع تصاعد لهجة التصريحات والتصريحات المضادة بين الحواضن والرموز الطائفية في المنطقة، ينزلق بعض طلبة الجامعات والأكاديميين العراقيين في المهجر، فيجلسون في الحضن الطائفي حالهم حال الاخرين، من دون وعي للدور المُلقى على عاتقهم في هذه الظروف التاريخية الكبرى التي يمر بها الوطن والمنطقة.
أيُّ غياب كارثي للوعي، هذا الذي يدفع طلبة عراقيين في جامعات تركية، للقيام بتظاهرة تثمين للجهود الصديقة المبذولة لتحرير الموصل، رافعين لافتتين متناقضتين تماما إحداهما تقول، إيران إرفعي يدك عن الموصل، والاخرى تقول، تركيا أدخلي إلى الموصل كي تتنفس. كما سبقت هذه وقفة أخرى لعدد من العراقيين أمام السفارة التركية في لندن، يُقال إن أحد الاكاديميين العراقيين قام بتنظيمها، سلموا فيها السفير التركي رسالة تُطالب تركيا بالتدخل وحماية الموصل وأهلها. وفي الجانب الآخر أو لنقل في الخندق العراقي الاخر، يتظاهر المئات أمام السفارة التركية في بغداد مطالبين بطرد السفير التركي من بغداد. كما تتواصل التهديدات التي يطلقها زعماء الميليشيات الطائفية، مهددة ومتوعدة كل المصالح التركية في العراق، وكل المواطنين الاتراك ورجال الاعمال وشركاتهم، في حين يعزف المئات من المثقفين والكتاب ألحان الشكر والامتنان إلى إيران، ممجدين دورها في العراق والمنطقة جميعها، ويعلنون ليل نهار بأنهم جنودها المخلصين إلى الابد، فهل يوجد بعد أكثر رثاثة من هذه المواقف؟
إن من يدعون تركيا للتدخل في الموصل وفي غير الموصل، وإن من يمجدون إيران وأدوارها القذرة في العراق وفي المنطقة، معا يساهمون مساهمة فعالة في رسم خريطة تقسيم العراق، وإنهم يرفعون عاليا صورة واقعية تقول للعالم أجمع، إن حدود العراق الإدارية المتعارف عليها ليست موجودة إلا في أطالس الجغرافية وعلى خريطته الورقية وحسب. إنهم ينسون بأن مستقبل العراق السياسي يتعلق بالموصل، وإن دعوة اللاعبين من كل حدب وصوب للدخول إلى العراق للدفاع عن هذه الطائفة أو تلك، إنما يحكمون على كل العراقيين بحرب أهلية لا تبقي ولا تذر، لأن تعدد اللاعبين يعني تعدد وتناقض الأهداف، وفي حالة اندلاع الحرب الأهلية فإنها لن تتوقف إلا بعد أن يتم إرضاء كل المتقاتلين على أرضنا، من أتراك وإيرانيين وعرب وأمريكان وأوروبيين وصينيين وصهاينة، وهذا أمر مستحيل أن يحصل في فترة وجيزة. كما يجب علينا أن لا ننسى بأن الحروب الأهلية تتوالد، وأن إيقافها مؤقت لانه سيكون لصالح طرف على حساب طرف آخر، ما يعني بقاء الأخير في حالة إنذار واستعداد وتجميع قوى كي ينتقم. وإذا اخترنا أن نكون منقسمين فعلينا أن نفهم بأن المجتمعات المنقسمة عموديا تنتج حروبا أهلية، عكس المجتمعات المندمجة أسهل أن تنتج انتفاضات شعبية، ويقينا أننا في العراق في حاجة ماسة إلى انتفاضات شعبية تطيح بكل الطائفيين والمفسدين والعملاء والخونة. قالت العرب قديما، «إذا جُنّ قومك عقلك لا يفيدك»، قد يكون هذا صحيحا جدا حين نعكس هذه المقولة على الواقع العراقي، لأن الكثيرين اليوم اختاروا أن تكون تحركاتهم مجرد ردود أفعال على حالات واقعية يعيشها الناس ويصنعها هذا الطرف أو ذاك. وستكون أول ردود الافعال على هذه المقالة هي، لماذا الشيعة لديهم حاضنة طائفية تمدهم بأسباب القوة والسيطرة هي إيران، وليس من حق السنة أن يبحثوا عن حاضنة إقليمية لهم، تمدهم بأسباب القوة والتفوق والمقدرة أيضا؟ لكن لا أحد في خضم هذه الجدلية يتذكر الوطن وليست الطائفة. لا أحد يسأل هل أن مستقبلنا، نحن العراقيين، أزهر في عصر الطائفية كوطن، أم في ظل الوطن بمجموع الطوائف؟ أما جربنا عصر الطائفية على مدى أكثر من ثلاث عشرة سنة وماذا جنينا من وراء ذلك؟ ألم يصبح نصف المجتمع تحت خط الفقر، وبات الكثير من الناس إما يحصلون على طعامهم من أماكن جمع القمامة أو من المساعدات الدولية؟ وأكثر من ثلاثة ملايين ونصف المليون إنسان مشرد. وأين التعليم والصحة والثقافة والجامعات والأمن والاقتصاد والنزاهة والعفة والكفاءة والإخلاص والوطنية؟ هذه هي ثمار الطائفية لمن أراد أن يتحصن بالطائفة ويجعلها وطنا ودينا. والذين أرادوا إيران، ماذا هم كاسبون اليوم منها، سواء كانوا مواطنين من العامة أم ساسة أم مثقفين؟ هي تجند مليشيات وتصدرهم إلى سوريا اليوم، وربما إلى اليمن غدا وما بعد اليمن وما بعد بعد اليمن، لتنفيذ نظرية الأمن القومي الايراني وليس نظرية الأمن الوطني العراقي. أما الساسة وزعماء المليشيات الذين ربطوا مصيرهم بإيران، فهم عبيد إجراء وأدوات ينفذون الأوامر وحسب. فهل السُنة لديهم الاستعداد ليكونوا في هذا المظهر لدى الاتراك؟ وهل المسيحيون لديهم الاستعداد كي يكونوا هكذا لدى الغرب المسيحي؟ وهل الإيزيديون والشبك والتركمان والاكراد مستعدين لهذا الدور خدمة لهذا أو ذاك؟ هذا هو السؤال الذي يجب أن يطرحه كل عراقي على نفسه.
يجب أن لا تأخذنا الغفلة فننخدع بما نراه على السطح من تصريحات تدعم هذا الطرف أو ذاك، فتدفعنا أمية الوعي السياسي للتشبث والتعلق بهم إلى حد أن نعتبره المنقذ من الظلال، فما حك جلدك مثل ظفرك، وأن الواقع أعمق مما نتصور وأعقد مما يبدو أمامنا، وأخطر مما نكتبه في هذه السطور، لأن الصراع الدائر اليوم هو صراع امبراطوريات تريد إعادة مجدها على أرض الرافدين . والسياسة هي صراع القوى والإرادات والممكنات والمستحيلات أيضا.
د.مثنى عبدالله
صحيفة القدس العربي