خلال الأيام القليلة الماضية، أصدرت تركيا تصريحات أشارت إلى نيتها السيطرة على مدينة الرقة السورية، بدعم على ما يبدو من نفس فصائل المتمردين العرب الذين تستخدمهم لضمان أمن المنطقة الحدودية بين جرابلس وأعزاز. وعلى نحو مماثل، تردّد أن «قوّات سوريا الديمقراطية» [«القوى الديمقراطية السورية»] التي تدعمها الولايات المتحدة – وهي تحالف كردي عموماً يضمّ بعض المقاتلين العرب – عقدت مؤتمراً صحفياً في 6 تشرين الثاني/نوفمبر أعلنت خلاله أنها شنّت هجوماً على المدينة وأنه قد تم بالفعل تحرير بعض القرى الواقعة على الطريق المؤدّي إليها. وجاء الاعلان بعد تصريحات أخرى حول الهجوم على “عاصمة” تنظيم «الدولة الإسلامية» («داعش») أدلى بها رئيس «حزب الاتحاد الديمقراطي» الكردي صالح مسلم الذي قال إن قواته ستحصل على الأسلحة والغطاء الجوي من الولايات المتحدة. وليس واضحاً بأي حال من الأحوال ما إذا كانت أنقرة أو «حزب الاتحاد الديمقراطي»/«قوّات سوريا الديمقراطية» سوف تواصل إصدار تصريحات مماثلة، لكن تحليل الكيفية التي قد تفعل بها ذلك تقدم رؤية مفيدة حول الوضع العسكري الراهن في شمال سوريا والعقبات المحتملة التي تقف في طريق فرض حصار على مقر تنظيم «الدولة الإسلامية»، بغض النظر عن هوية من سيتولى مهمة القيادة.
«قوّات سوريا الديمقراطية» قريبة من الرقة
احتلت «قوّات سوريا الديمقراطية» بقيادة «حزب الاتحاد الديمقراطي» منطقة تل الأبيض في محافظة الرقة الشمالية خلال ربيع 2015 بعدما هزمت تنظيم «الدولة الإسلامية» في كوباني. ونتيجةً لذلك، أصبحت «قوّات سوريا الديمقراطية» على بُعد ثلاثين كيلومتراً فقط إلى الشمال من مدينة الرقة، وسط انتشارها على خطوط أمامية واسعة جداً قد تسمح لها بشنّ هجوم متعدد المحاور إذا اختارت ذلك. وتُعتبر الأرض بين الخطوط الأمامية التي تتواجد فيها «قوّات سوريا الديمقراطية» والخطوط الدفاعية لـ تنظيم «داعش» حول الرقة قليلة السكان وتخلو من الحواجز الطبيعية؛ فالسكان المدنيون المحليون يتمركزون على طول وادي البليخ، وهو نهر يكون جافاً خلال هذا الوقت من العام.
وفي حين تبعد الرقة بضعة كيلومترات شمال نهر الفرات وتقع على هضبة مطلة على سهول فيضية، إلا أنها لا تملك أي دفاعات طبيعية ضد الهجمات التي قد تُشنّ من الشمال. كما أن التوسّع العمراني قد اجتاح المدينة على مرّ السنوات، حيث ازداد عدد سكانها من 37 ألف نسمة في عام 1970 إلى 260 ألف شخص بحلول عام 2011 – وذلك نتيجة نزوح ريفي هائل ونمو طبيعي ضخم شهدهما وادي الفرات حيث تضاعف عدد السكان كل عشرين عاماً منذ استقلال سوريا. واليوم، أصبحت تركيبة السكان من العرب السنّة بشكل حصري تقريباً، حيث أن استيلاء قوات تنظيم «الدولة الإسلامية» العربية السنّية في عام 2013 تسبّب بنزوح معظم الأكراد (الذين كانوا يشكّلون في السابق 20 في المائة من السكان) والمسيحيين (1 في المائة). كما أن الكثيرين من العرب السنّة من أصحاب الفكر العلماني فرّوا من المنطقة، غير أن سنّة آخرين – ومعظمهم من المشردين من محافظة حلب إلى جانب الآلاف من مقاتلي تنظيم «داعش» الأجانب مع أسرهم – أخذوا مكانهم وغالباً ما احتلوا بيوتهم أيضاً.
وقد أدّى التوسّع [العمراني] في الرقة إلى كثافة سكانية منخفضة: فلا يوجد نقص في الأراضي، كما أن المستوطنات غير القانونية تغطي أكثر من نصف المدينة. وتتألف معظم هذه المستوطنات من منازل صغيرة ذات طابق واحد تحيط بها باحات خلفية شاسعة مصمّمة لبناء غرف إضافية عندما يكبر أحد أولاد العائلة ويتزوج. وتتضمّن منطقة وسط المدينة مباني متعددة الطوابق تفصل بينها جادات واسعة. ومن شأن هذه الخطة المدنية أن تعقّد دفاعات المدينة: فالجادات الكبيرة قد توفّر منفذاً سهلاً لأي هجمات تُنفذ بواسطة عربات مصفحة، كما أن مقاتلي تنظيم «الدولة الإسلامية» لن يتمكنوا من استخدام المدنيين في الضواحي كدروع فعالة مضادة للطائرات لأن بيوتهم تتألف من طابق واحد.
وقبل إطلاق أي حملة ضد الرقة، كان من المفترض أن تحاول «قوّات سوريا الديمقراطية» الاستيلاء على مدينة الطبقة و”سدّ الثورة” على بُعد أربعين كيلومتراً غرباً. ومن شأن ذلك أن يسمح لها بعبور الفرات عبر السدّ (الذي يُستخدم كجسر أيضاً) وتهديد الرقة من الجنوب، بقطعها أي طريق محتمل لانسحاب الجهاديين. ويكتسي “سدّ الثورة” قيمة إستراتيجية أيضاً باعتباره مصدر الكهرباء الرئيسي في وادي الفرات. وقد تكهن البعض بأن تنظيم “الدولة الإسلامية” قد يحاول تدمير السدّ إذا أصبحت الرقة مهددة، إلا أن هذا الاحتمال يبدو غير مرجح. وتجدر الملاحظة أن “سدّ الثورة” هو “سد بلغاري”، وعبارة عن كومة من التراب والصخور تدعم جداراً خرسانياً – بتصميم أساسي ولكن قوي للغاية.
وباختصار، تُعتبر «قوّات سوريا الديمقراطية» في موقع جيد جداً يخوّلها التقدّم نحو الرقة. فبإمكانها تطويق المدينة عبر الاستيلاء على “سدّ الثورة” من الغرب وجسر “حلبية” الذي يبعد خمسين كيلومتراً شرقاً، الأمر الذي من شأنه أن يتيح لها الاقتراب من ثلاث جهات مع مراقبة أي خطوات مضادة من الجنوب. وسيساهم قربها من الأراضي الكردية إلى تقصير خطوط الاتصال، مما يسمح لها بنقل المزيد من عناصرها من الخطوط الخلفية إلى الخطوط الأمامية، علماً بأن الجيش التركي وحلفاءه المحليين لن يحظوا بنفس المزايا إذا قرروا السيطرة على الرقة.
تقدم تركي طويل أو حرب خاطفة؟
صرّح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن قواته ستستولي على الباب ومن ثم ستتوجّه إلى الرقة. ومع ذلك، فحتى إذا احتل الجيش التركي وحلفاؤه من المتمردين مدينة الباب، سيتوجب عليهم اجتياز 180 كيلومتراً آخر وعبور الفرات لبلوغ عاصمة تنظيم «الدولة الإسلامية». وعلى افتراض أن نظام الأسد وحلفاءه يسمحون بمثل هذا الدفع الطويل نحو سوريا (وهو أمر ليس مسلماً به بطبيعة الحال)، ليست هناك جسور يمكن سلوكها بسهولة على الجانب الغربي من النهر، لذا قد يتوجب على القوات التركية الالتفاف حول الضفة الجنوبية من “بحيرة الأسد” وعبور “سدّ الثورة”. ويعني ذلك السيطرة على كافة البلدات الواقعة على طول الطريق الفردي لهذا المسار، بما في ذلك دير حافر ومسكنة، وهو المسار الذي عزّز تنظيم «الدولة الإسلامية» دفاعاته بشكل كبير. أما الجسور القريبة الأخرى الوحيدة فهي في الرقة نفسها والتي قد يكون تنظيم «داعش» قد زرعها بالأفخاخ على الأرجح.
وعلى ضفتيْ “بحيرة الأسد”، إن الأرض مسطحة من دون أي عوائق طبيعية، الأمر الذي يسمح بالتحرك بعيداً عن الطرق إذا دعت الحاجة إلى ذلك. ولكن هذا من شأنه أن يُرغم تركيا على توسيع خطوط اتصالاتها بشكل أكبر، مما يجعلها أكثر عرضة للخطر – وهي مشكلة كبيرة على الأرجح عند محاربة تنظيم «الدولة الإسلامية»، الخبير في فن الهجوم من السهوب (السهول الواسعة الخالية من الأشجار).
كما أن امتداد الحملة الافتراضية قد يشكّل عائقاً كبيراً بدوره. وعلى افتراض أن الباب ستسقط بالسرعة نفسها كمنبج (في غضون شهريْن)، وأن القوات بقيادة تركيا ستتقدم بوتيرة منتظمة نسبياً (حوالي 15 كيلومتراً في الشهر، أي شهريْن للاستيلاء على المساحة البالغة 30 كيلومتراً بين الأراضي التي يسيطر عليها المتمردون والباب)، قد يستغرق الأمر اثني عشر شهراً آخر لتغطية مساحة 180 كيلومتراً التي تفصلها عن الرقة.
ويتمثّل خيار آخر بشنّ هجوم من تل الأبيض، وهي بلدة حدودية تقع على بعد 100 كيلومتر شمالي الرقة، ما سيسمح للقوات التركية بالتقدّم عبر الأراضي الفارغة إلى حد كبير، وتجنّب حواجز الفرات الطبيعية، والبقاء بعيداً عن وادي البليخ ذو الكثافة السكانية، والاستفادة من شبكة الطرق العالية الجودة التي توفّر مسارات متعددة للتقدم نحو المدينة. لكن قبل مواجهة تنظيم «الدولة الإسلامية»، على تركيا وحلفائها مواجهة «قوّات سوريا الديمقراطية» إذ من المستبعد أن يسمح الأكراد للدبابات التركية بعبور أراضيهم بحرية.
وفي الواقع أن الأكراد يدركون جيداً أن تل الأبيض هي نقطة ضعفهم. وكان «حزب الاتحاد الديمقراطي» قد أخرج تنظيم «الدولة الإسلامية» من المدينة في ربيع عام 2015 لضمان استمراريته الجغرافية، وسيؤدّي السماح بسقوطها الآن إلى تقسيم الكانتونات على الحدود الشمالية التي تشكّل دويلة “كردستان السورية” [“روج آفا”] الناشئة. لكن المدينة والمنطقة المحيطة بها تسكنها أغلبية عربية، لذلك لا يمكن ضمان ولاء السكان. فضلاً عن ذلك، تتوق العشائر العربية المحلية التي لجأت إلى تركيا عقب الغزو الكردي إلى العودة بالمركبات التابعة للجيش التركي.
وحتى لو لم يكن أردوغان يرغب في التقدّم فعلياً نحو الرقة، لا يزال بإمكانه استعمال هذا الهدف كذريعة للاستيلاء على تل الأبيض والباب بدعم عربي. ومن خلال قيامه بذلك، يمكنه تقسيم الأراضي الكردية والقضاء بشكل كلي على حلم «حزب الاتحاد الديمقراطي» بتوسيع “روج آفا” على طول الحدود الشمالية. وبموجب هذا السيناريو، من المرجّح أن تخسر الولايات المتحدة حليفاً فعالاً في حربها ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» دون أي ضمانات بتقدم القوات التركية نحو الرقة.
المحصلة
من غير المرجح أن تركّز تركيا أو «حزب الاتحاد الديمقراطي» على السيطرة على الرقة. كما أن مصالح الولايات المتحدة ستتضرّر إذا استنزف الجانبان معظم طاقاتهما على محاربة بعضهما البعض بدلاً من محاربة تنظيم «الدولة الإسلامية». أما السيناريو الأسوأ بالنسبة إلى الولايات المتحدة فيتمثّل بهجوم تنفذه تركيا تستحوذ من خلاله على الباب وتل الأبيض من دون أن تتقدّم أبعد من ذلك، لأن هذا من شأنه أن يبقي تنظيم «الدولة الإسلامية» في الرقة ويؤدّي في الوقت نفسه إلى مواجهة بين تركيا و«حزب الاتحاد الديمقراطي». لكن نظراً إلى رغبة أردوغان منذ فترة طويلة في منع قيام منطقة كردية موحدة في سوريا، فقد يأخذ في الحسبان أن هجوماً مفاجئاً يمثّل خطوة تستحق المخاطرة، لا سيما في ظل انشغال أمريكا بالمرحلة الانتقالية ما بعد الانتخابات – فمن وجهة نظره، إن حصوله على مسامحة واشنطن بعد قيام تركيا بخطوتها قد يكون أسهل من تأمين الحصول على إذن الولايات المتحدة مسبقاً.
ويبدو أن الهدف الحالي للولايات المتحدة يتمثّل بجمع قوة عربية كبيرة للقتال إلى جانب «حزب الاتحاد الديمقراطي»، وإقناع الأكراد بقيادة هؤلاء المقاتلين نحو الرقة، والطلب من تركيا عدم الاعتراض على تقدّمهم. ولكن سيكون من الصعب جداً تحقيق هذه المهمة، لا سيما على المدى القريب.
فابريس بالونش
معهد واشنطن