تقارير منظمة الأمم المتحدة توجز إبادة المدنيين في الموصل بالرقم 58 ألفا من الضحايا منذ احتلال تنظيم داعش للمدينة. الحكومة العراقية ومؤسساتها العسكرية والأمنية ليس لديها تعليق على ما يرد في الإحصاءات الأممية، وخاصة تقارير المنظمات غير الحكومية، لكنها تغضب بسرعة لأي إشارة تدين انتهاكات حقوق الإنسان في العراق، وأهمها منظمة العفو الدولية، ومطالبتها بالتحقيق في جرائم إعدام خارج القضاء طالت مؤخرا عددا من المواطنين في القيارة والشورة، وهما منطقتان ضمن خط عمليات الحشد الشعبي الطائفي الذي تدور حوله نزاعات برلمانية بين الكتل لتنظيم عمله بقانون يؤسس لمنظومة عسكرية وأمنية مرادفة ومتعالية على الجيش النظامي المخترق أصلا، وإن حاولوا تمريره بزي واسع ضمن المؤسسة العسكرية.
يصطدم ذلك بمشروع سابق تبنى تأسيس الحرس الوطني لكل محافظة من أبنائها وعشائرها وسكانها عموما، وعارضته حينها القوى التي ينتمي إليها الحشد الطائفي المدعوم بالفتوى، لأنه يسلح أبناء المحافظات المنكوبة، وفي مضمونه إشارة بأثر رجعي للمنطق الحكومي السائد في فترة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، والمهادنة المباشرة أو بتجاهل المعلومات المؤكدة عن هجوم واسع مرتقب لتنظيم داعش لاحتلال الموصل مع بداية صيف 2014، بما يعني أن 58 ألفا من المدنيين تمت إبادتهم بإرادات انتقام طائفي في سلة استفتاء نفسي عقائدي تلتقي فيها الأهداف رغم تقاطعها منطقيا وعقليا.
صفحة يطويها العراق في سلسلة صفحات حكم حزب الدعوة بإسلامه السياسي الإيراني وبمنهج الملالي وولاية الفقيه بصفحة تتمات يكملها حيدر العبادي، الذي يؤدي دور المنقذ للموصل من التنظيم الإرهابي في لعبة لن تتجاوز حدودها طموحات ومخططات خامنئي للمنطقة، ومن يتجاور معه في أحلامه وعقده المزمنة من العراق، وأقصد العراق العربي تحديدا، الذي كان على مر تجاربه الحديثة وبمختلف حكامه عصا يهش بها العرب الذئاب عن ديار أمتهم، وبه يذودون عمّا يوحدهم ويدعوهم دائما إلى خوض حروب ومعارك إثبات وجودهم، في مقابل ما يتم تحشيده ضدهم من كل أدوات التخريب من الداخل والخارج لإسقاط أي رهان على تجمّع دولهم أو بعضهم في تجمعات سياسية أو اقتصادية والأمثلة عديدة، لكن النظر إلى مدة صلاحيتها القصيرة وما يحصل خلالها من تنامي الشعور عند الشعوب بالقوة والرغبة الصادقة في التقارب والعمل والانفتاح، يعيدنا إلى حجم العراقيل لإفشال حركة مرور الأمة إلى مستقبلها.
مازالت هناك أكثرية من التابعين للمشروع الإيراني حتى وإن بدت ملامحهم بالضد منه، لكنهم يشتركون في معايير المشاركة بعملية سياسية كسيحة وليست عرجاء، قامت على أنقاض هدم الدولة والمؤسسات الوطنية والروح السامية للمواطنة، بفعل الاحتلال الأميركي الأهوج الذي أجهز في العام 2011، بانسحابه غير المسؤول من العراق، على بقايا النسيج الرابط بين المكونات حين ترك الساحة لإيران وفريقها المسخ من اللاعبين العراقيين ليؤدوا أبشع أدوارهم في النصب والاحتيال والسرقات، ودفع المواطنين إلى الانكفاء في مجموعات عشوائية متناحرة تجتهد للبقاء في محمياتها القومية والمذهبية والإثنية وطلب العون من الخارج، كلّ بنوعه ونزعته.
حتى في مأزقها لم تستطع تلك المكونات النجاة من انتهازية قادتها وميولهم الخاصة وتواطئهم مع أعدائهم وقاتلي أهلهم، إما تملقا وإما خوفا، وهاتان الصفتان لمستهما في العديد من المهادنين الذين يبررون سلوكهم بإنقاذ أبناء جلدتهم أو مناطقهم من بطش الميليشيات وتغوّلها ويوفر لهم إمكانية التوسط لإطلاق سراح البعض من المحسوبين على عشائرهم. وفي الأوساط العراقية يدرك الكثيرون معنى التوسط عند كبار القتلة، فهو إما ابتزاز وحلب مالي من الضرعين المتقابلين، وإما مساومة سياسية ثمنها مدفوع في الإعلام والتصريحات وتبادل المنافع داخل البرلمان أو ما يجري من فضائح في إدارة وزارات الدولة.
هكذا إيقاع لا يمكن أن يؤدي إلا إلى المزيد من الخراب في بقايا ثقة بعراق ما بعد مرحلة داعش، والحقيقة أنه عراق يتداعى بعد كل مرحلة، ليغدو السؤال عن أي عراق وأي مرحلة وماذا ننتظر من عملية سياسية بذات الأحزاب والتبعية واللامبالاة؟ مع اعترافنا بأنها تمتلك ثقة كبيرة في نهجها وفي ما تقدمه من خدمات لتقسيم العراق فعليا، وهو أمر ناجز على الأرض في خراب المدن المطلوبة، وفي التغيير الديموغرافي والتهجير المستمر، وتعبئة السلاح للقادم في صراع شامل حتى بين أجزاء الأقليات.
معركة الموصل تعتبر فضيحة لحد الآن ضمن سلسلة من الفضائح لا يمكن أن تتوقف، فالنهب والسلب بدآ أيضا وسيكونان ضمن فقرة مندسين في القوات الأمنية أو الحشد الشعبي الطائفي تليها إحالة المتجاوزين إلى القضاء والإعدامات الميدانية، ورغم الإدانات من منظمة العفو الدولية، إلا أن تفسيرها بسيط دائما لاعتمادها على أخبار كاذبة.
الرسائل ذاتها في كل المواجهات، الانتقام الطائفي، الإهانة والإذلال، الاستباحة، سفك الدماء وإلحاق الأذى وتسجيل الانتهاكات وبثها دون مراعاة لأصدائها الإعلامية العالمية، لأنهم يركزون على مغانمها ومآربها في سبيل إرساء وقائع تتطلب صراعا ومواجهة بعيدة المدى والأثر يبدو أن معسكرها المقابل غائب الآن، ولذلك تقفز الفئران والجرذان إلى السفينة وعنابرها وتتوالد بإسراف ونتائجها وخيمة على المنطقة والعالم حتما.
في محور روسيا – إيران – سوريا وأيضا العراق المتأرجح بحبال الدعم الأميركي الساذج للشكل الديمقراطي، تبدو منظمة العفو الدولية في انشغال متواتر بمتابعة الجرائم والخروقات في حقوق الإنسان، إن في ساحات المواجهات المسلحة أو في تجاوزات السجون والمعتقلات، وآخرها إغلاق مكتب المنظمة في روسيا بعد توثيقها لما يجري على الساحة الروسية والسورية من انتهاكات صارخة، عللتها القيادة الروسية بعدم دفع إيجار مبنى المكتب، دون تعليق. وفي سوريا وثقت موت 18 ألف سجين تحت التعذيب. إيران تتصدر الإعدامات ولا تكف المنظمة عن تقاريرها شبه اليومية عنها. والعراق مجموعة من الجرائم متلاحقة، بعض ما تورده المنظمة تعتمده الحكومة العراقية ووسائل إعلامها لأنه يصب في خدمتها وفي خدمة توثيق سجل سوابق خصومها، أما ما يخص جرائم ميليشياتها وتجاوزاتها فالرد دائما حاضر بعدم دقة المعلومات ومصادرها.
تتجه الموصل إلى تبسيط نتائج معركتها، فبعد 58 ألف قتيل وأجراس التحذير من الضربات الكيميائية التي نعيش واقعها في غياب تجهيز القطعات العسكرية الرسمية بأقنعة الوقاية، وحريق الكبريت والدخان الأصفر والتسمم وحرق آبار النفط، تتصاعد الإشارات للمطالبة بإغراق المدينة بمياه سد الموصل لتفريغ الأنفاق التي يحتمي بها المسلحون من تنظيم داعش وإجبارهم على الخروج إلى سطح الأرض. إغراق الموصل بالماء بعد أن أغرقوها بداعش والدم والميليشيات وحرب الأقليات والطوائف وخناجر الغدر في سياسة المجهول، سرعان ما سينجلي عن خارطة لمواقع طمر غير صحي لمشروع ملالي طهران، ستزكم رائحتها النتنة كل مشاريع المنطقة بما فيها مرحلة إغراق العراق ما بعد داعش… بماذا؟
حامد الكيلاني
صحيفة العرب اللندنية