الهوية الخليجية هي تلك الخصائص والسمات الثقافية والاجتماعية المشتركة التي تميز المجتمع الخليجي عن غيره من المجتمعات، والتي هي محصلة تراكمات تاريخية، صاغت العقل الجمعي الخليجي، وشكَّلت تصورات الخليجيين لأنفسهم ولغيرهم، كما وجهت سلوكياتهم وعلاقاتهم وأساليب معيشتهم.
وبطبيعة الحال، فإن الهوية ليست مفهوماً مغلقاً، فهي في حالة تغير وتطور مستمرين، تأثراً وتأثيراً، كأي معطى إنساني، وكأي هوية فردية إنسانية، فالهوية الخليجية اليوم، غيرها قبل خمسين سنة، لكن الهوية رغم ما يلحقها من تغيرات، ومع انفتاحها على الثقافات، تظل محافظة على الخصائص الجوهرية المميزة لها، مستعصية على الذوبان، تصديقاً لقوله تعالى: «وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا». هذه الخصائص الثقافية المميزة، تُثري الحياة، وتعزز التواصل الحضاري بين المجتمعات، سعياً للإفادة من الخبرات والمكتسبات المعرفية، ومن ثم تحقيق الرقي الإنساني، وإنجاز التقدم العلمي والمعرفي والتقني.
ومع أن الانفتاح على الآخر الحضاري، لم يعد خياراً، بل ضرورة، فإن الخليج بحكم وضعه الجيو سياسي، منفتح على العالم منذ أمد بعيد، وهذا الانفتاح الإنساني للهوية الخليجية، قبل اكتشاف البترول وبعده، هو الذي ضمن للخليج ما ينعم به اليوم من أمن واستقرار وازدهار، وجعله الأكثر جذباً للمال والبشر.
ويعجب الإنسان للذين نصّبوا أنفسهم حراساً للموروثات الاجتماعية، والمفاهيم الدينية المغلوطة، ما إن تدافع عن الانفتاح وتأثيراته الإيجابية على الهوية، حتى يتصدى لك هؤلاء ويتهموك بالتبعية للغرب والانبهار بحضارته! يسخِّرون منابرهم لتحذيرنا من العولمة ورياحها المسمومة، ويسمونها «أمركة»، أي فرض القيم وأساليب العيش الأميركية على العالم، ويخوفوننا من «الغزو الثقافي» وأخطاره على الهوية، ويجاهدون في تعبئة الرأي العام بحديث طويل مكرر عن سلبيات العولمة ومخاطر «الغزو الفكري» على الهوية! حسناً، أتفهم مخاوف وهواجس هؤلاء من المد العولمي، وقد أعذرهم في فزعتهم على الهوية، فهذا رد فعل طبيعي لفوبيا العولمة، وهي لا تقتصر على «حماة الهوية» عندنا، بل تجتاح المجتمعات الأوروبية والأميركية، وما انفصال بريطانيا وصعود التيار اليميني وفوز ترامب وفيون.. إلا تجليات لهذه الفوبيا، لكن الاقتصار على التحذير من سلبيات العولمة، والمبالغة في تضخيمها، وتغييب إيجابياتها، أمر يورث خللاً في الفكر والنظر، ولا يدفعنا إلى تغيير أوضاعنا التي نشكو منها، بل قد ينتج ردة فعل غير حميدة، تملأ نفوس ناشئتنا بكراهية «المتقدمين» وتصدهم عن الإفادة من حضارتهم فيما ينمي مجتمعاتهم ويقودها إلى مستقبل أفضل.
ولا أنكر أن جانباً من تلك المخاوف حقيقي ومشروع، لكني أرى في تضخيمها شيئاً من المبالغة للاعتبارات الآتية:
1- الهوية الخليجية، بعد أكثر من نصف قرن من الانفتاح، لم تفقد شيئاً من مقوماتها الأساسية، الوطنية والثقافية والدينية، لا ذابت شخصيتنا، ولا تلاشت خصوصيتنا، ولا ضعفت ثقافتنا ولا لغتنا.. بل زادت رسوخاً، سواء عبر التمسك بالثوابت الدينية أو من خلال الاهتمام باللغة العربية.
2- مجتمعات كاليابان وكوريا الجنوبية وماليزيا وتركيا، أكثر انغماساً في العولمة، ومع ذلك فهوياتها الوطنية والثقافية لم تتأثر في شيء.
3- نحن أصحاب حضارة عريقة، علينا أن نتفاعل مع العولمة تفاعل الواثق في ثوابته الدينية والثقافية، كما فعل أسلافنا عندما انفتحوا على ثقافات الأمم الأخرى، وأنشؤوا حضارة عالمية كانت مناراً هادياً.
4- الثقافات في حالة تفاعل مستمر، ولا توجد ثقافة صافية، إلا بالانغلاق المؤدي إلى التعصب والضعف والتهميش، وما مصدر قوة إبداع الثقافة الأميركية التي تكتسح العالم حالياً، إلا كونها حصيلة ثقافات شتى تفاعلت وانصهرت.
إن عقلية راعي الغنم المستغيثة من الذئب العولمي، لا تُجدي في عالم سريع التغير، سقطت فيه الحواجز بين الشعوب، والأجدى من ذلك هو العمل على مواجهة المتغيرات بخطط تحصينية من مرتكزاتها: تفعيل مفهوم المواطنة الخليجية وتطوير قوانين الجنسية الخليجية، وتمكين المرأة الخليجية من المناصب القيادية، وكسب الشباب الخليجي، ومكافحة الفساد المستشري في البنية المجتمعية، وتفكيك هيمنة السلطة الدينية على الشأن المدني، وتفعيل خطة العمل الثقافي الخليجي المشترك، وأخيراً إعلاء الحريات العامة.
عبدالحميد الإنصاري
صحيفة الاتحاد