كتب «بول مايسون» -الصحفي والمذيع البريطاني- مقالًا نشرته «الجارديان» البريطانية، يعرض فيه ضرورة أن يعي العالم الليبرالي الـ«غربي» الدرس من سقوط الاتحاد السوفيتي. يقول:
«يمكن أن يسقط النظام الليبرالي على حين غرة، على غرار سقوط الاتحاد السوفيتي، وإذا كنا ننوي إنقاذه، علينا التعلم مما حدث في روسيا».
يعرض «بول» مشهدًا مبسطًا ليوم عادي في مدينة «قازان» -عاصمة جمهورية تتارستان وأحد أكبر مدن روسيا الاتحادية. بعد ظهيرة يوم سبتٍ، حاول عدد من السكان المحليين الجسورون المرور خلال الطين الممزوج بالجليد، بالقرب من القلعة التي يجري أسفلها نهران متجمدان كسيا الساحة باللون الأبيض، كي يلتقطون صور «سيلفي» أمام مسجدٍ وأنوار الاحتفال بالكريسماس وتمثال يعود للحقبة السوفيتية.
سقوط الاتحاد السوفيتي المفاجئ
يذكر أنه منذ 25 عامًا كان في روسيا وشهد المحاولات الفاشلة في إعادة إحياء اليسار خلال الأيام الفوضوية الأولى للإصلاحات الاقتصادية لــ«بوريس يلتسين»-أول رؤساء روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي. والآن بعد مرور ما يقرب من نصف عمره، يجد نفسه في غرفة مكتظة بالناس، يوجِّه خطابًا لأناس يريدون مناقشة «استبدال الرأسمالية بما هو أفضل منها». وفجأة يكتشف أن الغرب لديه الآن بعض النقاط المشتركة مع الاتحاد السوفيتي حينها، يقول «الآن كلانا رأى رأي العين كيف يكون انهيار نظام بدا ذات مرة نظامًا دائمًا».
يذكر أيضًا أنه أثناء تواجده هناك، كان تقريبًا كل من قرر أن يستمع له، هو إما مهتم بالفلسفة أو الآداب. حتى الصحفيين المهتمين بإجراء حوارات صحفية معه، بصفته ناقدًا لسياسة بوتين في سوريا وأوكرانيا، يعملون فقط في المجلات الثقافية؛ وكما يقول «لعله أأمن فضاء فكري لعرض تلك الآراء الناقدة».
فمنذ أن سرق بوتين الانتخابات عام 2011، وقُمِعت حركة الاحتجاجات اللاحقة، تراجع الشباب الذي شارك فيها، والتزموا «الصمت الحانق». إلا أن ذلك ليس بالموقف الجديد على المثقفين الروسيين، فقد ألقي القبض على «لينين» في عام 1887 على خلفية تزعمه احتجاجات طلابية، وقضى الثلاثين عامًا التالية من عمره في المنفى أو متخفيًا. ثم دعم البلشفيين حرية التعبير والمعارضة السياسية طوال 70 عامًا أخرى، فجاءت حكومة الأقلية الرأسمالية «الأولغريك» في روسيا يبذلون قصارى جهدهم لقمعها الآن.
ويرد على التساؤل بشأن لماذا يستمر الصحفيون والفلاسفة والفنانون الروس في الاعتقاد في التغيير؟ قائلًا«باختصار، لأنهم شهدوا الانهيار الأخلاقي والفعلي لشيء بدا من قبل أنه دائم، ألا وهو الاتحاد السوفيتي».
تصف «أليكسي يارخات» -عالمة الأنثروبولوجيا في جامعة بيركلي بكاليفورنيا- ما حدث في كتابٍ، يفصح عنوانه عما بداخله «Everything Was Forever Until It Was No More» «كل شيء كان أبديًا حتى لم يعد كذلك». يقول «بول» إنها اندهشت من حقيقة «أنه لم يتنبأ أحد بالسقوط»، بينما عندما وقع بالفعل، أدرك الكثيرون أنهم بالفعل توقَّعوا –في صدورهم- سقوطه من البداية.
في عهد «البيروسترويكا» تحت حكم غورباتشوف، أتت العديد من الناس «صحوة ضمير» فجائية، وبزغ فجر إدراك آخر بأن السقوط حتمي، لكن حتى تلك اللحظة، تصرف الناس وتحدثوا كما لو أن النظام السوفيتي دائم. وعلى الرغم من تهكمهم بوحشيته، خرجوا في المسيرات الاحتفالية وشاركوا في الاجتماعات وأدوا الطقوس التي فرضتها الدولة.
سقوط مماثل للقيم الغربية الليبرالية
يقول «بول» إنه منذ انتصار ترامب في نوفمبر 2016، صار من الممكن الإيمان بأن سقوطًا مماثلًا للعولمة والقيم الليبرالية على وشك الحدوث في الغرب.
أوجه التشابه بين الاثنين واضحة، فالغرب أيضًا عاش طوال 30 عامًا في ظل نظام أعلن ديمومته، كانت العولمة عملية طبيعية لا يمكن وقفها، وكانت اقتصاديات السوق الحرة ببساطة هي الحالة الطبيعية.
لكن عندما فرضت العولمةَ الدولةُ التي صممتها بالأساس، واستفادت منها وصارت أغلب الأصوات فيها ضدها، على الغرب أن يضع في الاعتبار احتمالية أنها ستنتهي، بل وستنتهي فجأة. وفي هذه الحالة، على الغرب أيضًا أن يضع في الاعتبار احتمالية أنه إذا كان ديموقراطيًّا ليبراليًّا مدافعًا عن حقوق الإنسان، ربما يصدم لدى معرفة أن القومية أو حكم الأقلية هي الوضع الافتراضي لما بعد سقوط الاقتصادات.
يقول «شهدت انحدار المجتمع الروسي نحو الفوضى، منذ أقحم يلتسين البلاد في حالة فقر مدقع، حتى انهارت روسيا تمامًا في أوائل التسعينيات».
ويستكمل «عقدنا اجتماعنا في المنشآت الأكاديمية المهجورة التابعة لستالين، وسط الكتب السوفيتية المهملة، وتماثيل لينين، ومحاضر اللجان المركزية التي لم يعد لها وجود حينها». وانتشر العنف في شوارع روسيا، وانتشرت السرقة في مجالس الإدارة واحتكار الموارد، وأصبحت روسيا جاذبة للطغاة، والسلطة ينالها من يبطش بأعتى قوته.
وبالمقارنة بالفوضى سنة 1990، شعر المؤيدون لبوتين بأنهم فدائيون. فقد أعاد بوتين النهضة والنظام والعزة الوطنية لروسيا على حساب تهميش الدبلوماسية وقمع الحقوق الديمقراطية. يوجد الآن في جميع أنحاء العالم نسخ مصغرة من بوتين: رئيس الوزراء المجري «فيكتور أوربان»، والرئيس التركي «رجب طيب أردوغان»، والرئيس الفرنسي الفاشي المرتقب وصوله إلى السلطة «مارين لوبان». ويحذر قائلًا: «إذا انحدر الغرب -كما يرغبون- إلى القومية الاقتصادية، سيعرف كل من هو تحت سن 50 عامًا ما مر به الروسيون في أواخر الثمانينيات».
ويضيف «بول» أنه ساد افتراض عام، استمر لثلاثة عقود، بأنَّ الوضع حينها دائم ولن يتغير، وذلك على مستوى الاقتصاد والعلوم السياسية، ودراسات العلاقات الدولية. وكما كان الحال في الأوساط الأكاديمية السوفيتية، «إذا اتضح لاحقًا أن العولمة كانت مجرد شيء مؤقت وقابل للتغيير، ستصير كل الكتب المبجلة الآن، مهجورة».
إذا سقط الغرب لن يكون هناك مُخلِّص!
لكن الكاتب يذكر أن هناك فرقًا واحدًا كبيرًا الآن، فالمنشقون في أواخر الحقبة السوفيتية حاربوا من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان في ظل المفهوم العام للـ«الغرب». أما الآن، إذا انتصرت الشعوبية المعادية للأجانب، لن يكون هناك «غرب» نتطلع إليه؛ فإذا بدأت المجتمعات الليبرالية والديمقراطية أن تحذو حذو المجر في عهد أوربان، لن تكون هناك أي قوة خارجية يستعان بها.
ويختتم مقاله بالتأكيد على أن الأمل الوحيد للغرب هم الغربيون أنفسهم، وهناك من المؤمنين بالأفكار الليبرالية ما يكفي لوقف هذا الانهيار العظيم الثاني نحو القومية وحكم الأقلية. ويضيف «نحن متصلون ببعض، على وعي وعلم و-حتى الآن- لدينا مرونة نفسية. وفي تعاضدنا ومقاومتنا معًا، يمكننا أن نتعلَّم الكثير من أولئك الذين طالما فعلوا ذلك، بهدوء، في روسيا».
ويضيف: «قد يستمر جيل الشباب من نقاد بوتين في السخرية أو الضجر، ولكنهم يمتلكون إيمانًا بضرورة التغيير».
مترجم عن The Soviet Union collapsed overnight. Don’t assume western democracy will last foreverللكاتب Paul Mason
مروة عبدالله
ساسة بوست