في أيام ما كان شارع فليت هو موئل الصحافة البريطانية، كان كثير من الكليشيهات المتداولة في الحانات العامة وكأنها الحقيقة التي لا مراء فيها بشأن الصحافة. ومن أحد هذه الكليشيهات الثابتة آنذاك، المزاعم بأن أسلم القضايا للكتابة والنشر حولها كانت تتعلق بفلسطين وأفغانستان. وكتابة مقال من 600 كلمة فقط حول «لماذا تحتاج فلسطين لصفقة أفضل» أو «لماذا يجب مساعدة أفغانستان في تنمية اقتصادها الداخلي» كانت كافية لأن يشعر الكاتب بالارتياح والرضا عن نفسه، في حين أن الصحيفة يمكن أن تعلن نفسها منبعًا من منابع الحكمة، وكل ذلك من دون تكليف أي شخص بفعل أي شيء مزعج، فضلاً عن إغضاب المسؤولين.
ويبدو أن إدارة الرئيس باراك أوباما قد تبنت، على أدنى تقدير، جزءًا من ذلك الكليشيه عن طريق الشعور المفاجئ بتصاعد التعاطف مع القضية الفلسطينية. ولأكثر من أسبوع كان البيت الأبيض ينشر الأخبار التي تفيد بأن الولايات المتحدة قد قررت عدم استخدام حق النقض (الفيتو) بحق قرار أممي حاسم بشأن البناء الاستيطاني في إسرائيل، بناء على «تعليمات صارمة» من قبل الرئيس أوباما.
والقرار، الذي يحمل رقم 2334، جرى تسويقه في شكل محاولة لإحياء عملية السلام الأسطورية من خلال إثارة قدر من البلبلة حول القرارات الأممية الرئيسية الأخرى الصادرة عن مجلس الأمن، حول نفس الموضوع، ومن أبرزها القرار 242 الشهير. وهو يؤسس لمجموعة من التوصيات لإسرائيل من دون التلميح إلى ما يمكن القيام به إذا تم تجاهلها. وعلى نحو عاجل، فهو يمنح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مزيدًا من الحجج لصالح موقف «الوقوف الحازم السريع من دون حلول وسط»، الذي يحاول تبريره، مع الإشارة إلى الموقف الدولي الغامض الذي تؤكده رغبة أوباما الحالية في إطلاق نيران التفرقة ضد غريمه الإسرائيلي اللدود.
ولسنا في حاجة لأن نكون خبراء في الدبلوماسية، حتى نعلم أن القرار يقلل من أي فرصة هنالك للوصول إلى حل الدولتين، فهو كمثل الوهم الذي يدور وينتشر في أروقة الأمم المتحدة، ثم ليمنح فرصة ثانية للحياة على أيدي الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش. ولأن أوباما ذكي بما فيه الكفاية ليعلم أن السبب الوحيد لنشاطه الذي استغرق 11 ساعة حول الأمر، لا بد أن يكون رغبته في إخفاء الأفضلية الكاملة لرئاسته الباهتة، ولا سيما فيما يتعلق بالشؤون الدولية. ويمكن للمرء أن يتصوره وهو يدعي في مذكراته أنه «عمل بكل جدية» من أجل الوصول إلى حل الدولتين وحتى اللحظات الأخيرة من وجوده داخل البيت الأبيض. (أود لو أن السيناتور جورج ميتشل يكتب عن تجربته الشخصية بصفته مبعوث أوباما الخاص للسلام في الشرق الأوسط، وكيف أن صانع السلام خلال الإحدى عشرة ساعة، قد تمكن وبكل فعالية من تخريب كل خطوة عملية اتخذت في هذا الاتجاه).
وأولئك الذين قد يسألون: لماذا لم يفعل أوباما أي شيء خلال ولايته للبلاد التي استمرت ثماني سنوات كاملة، أو حتى خلال العامين الماضيين فقط؟ لا بد أن يتذكروا أنه كان معنيًا بدرجة أكبر بحساباته الانتخابية التافهة عن أي رغبة حقيقية في إقرار العدل للفلسطينيين. وفي عام 2008، كان أوباما في حاجة إلى دعم المواطنين الأميركيين من اليهود في تلك الولايات الحاسمة مثل فلوريدا وأوهايو، ولقد ساعدوه بالفعل من خلال منحه 85 في المائة من أصواتهم. وفي العام الماضي، كانت لديه نفس الحسابات مرة أخرى، ولكن هذه المرة لصالح السيدة هيلاري كلينتون المرشحة الرئاسية للحزب الديمقراطي الذي ينتمي إليه. وبعدما انقضت الحاجة لإجراء الحسابات الانتخابية، أصبح يمكنه إعادة اكتشاف ضميره الخفي، والذي ذكَّره بتعلقه في سني شبابه بالقضية الفلسطينية.
وكان جون كيري، خادم السياسة الخارجية في إدارة أوباما، يبحث هو الآخر عن ورقة التوت لإخفاء فشله بصفته وزيرًا لخارجية الولايات المتحدة.
ولقد أخبرتني حاشيته المقربة أنه أراد إلقاء خطبة كبيرة حول الأمر في عام 2014، وربما كان الهدف منها تحويل الانتباه عن فشله وفشل رئيسه الذريع حيال دولة جورجيا، ودول البلطيق، وتركيا، ومصر، وبولندا، وأوكرانيا، وسوريا، من بين دول أخرى حول العالم. ووفقا لتلك الحكايات المروية من قبل أفراد حاشيته، لم يطلق كيري العنان لثرثرته السياسية المعهودة، نظرًا لأن أوباما أمره بالتزام الصمت بعد الانتخابات الرئاسية عام 2016.
ولأن هكذا أمرًا لم يعد ساري المفعول، كان بإمكان كيري، أيضًا، أن يبني لنفسه صرحًا من الإرث السياسي عبر خطبة لاذعة قوية ومؤثرة استغرقت 60 دقيقة من عمر الزمن، والتي لا بد أن تدرس بوصفها أنموذجًا للارتباك وفقدان الأمانة في المجال الدبلوماسي. ووفقًا للمسؤولين الفرنسيين، طلب كيري كذلك السماح له بأن يلقي خطابًا مطولاً آخر، في باريس في وقت لاحق من هذا الشهر حول نفس الموضوع، في الوقت الذي يدشن رئيس فاشل آخر، وهو فرنسوا هولاند، مؤتمرًا دوليًا للسلام حول القضية الفلسطينية في العاصمة باريس. حسنًا، ليس هناك من سبب يدعونا لحجب ورقة التوت عن السيد هولاند، تلك الورقة التي يحاول كل من أوباما وكيري الحصول عليها باسم فلسطين المحتلة.
وليس أوباما، وكيري، وهولاند من أوائل الذين يحاولون البحث عن البطولة على حساب الفلسطينيين، والإسرائيليين الذين يعانون ويموتون في حالة الخيار الصعب التي فرضها عليهم ما يسمى بالمجتمع الدولي قبل 70 عامًا، حيث أخبر العرب، وبمزيد من الأهمية الفلسطينيين، أنهم لا يحتاجون لأن يصنعوا شيئًا بأنفسهم لتحقيق التسوية السلمية مع إسرائيل، فالأمم المتحدة هناك لتقوم بكل شيء نيابة عنهم، عن طريق تمرير العدد اللانهائي من القرارات الأممية معدومة الآلية للتنفيذ أو التفعيل على أرض الواقع.
وبالنسبة للناس البعيدين كل البعد عن الصراع، ومن غير وجود مصلحة حقيقية فيه، فإن تبني الموقف البطولي الزائف على حساب الفلسطينيين، أو الإسرائيليين لقاء هكذا قضية، ليس بالمهمة الصعبة.
والمشكلة تكمن في أن تلك البطولة الوهمية، التي تأتي على حساب الآخرين ممن يسددون ثمنها الباهظ البغيض من حياتهم، لا تصنع سوى أن تطيل من أمد الصراع الذي كان يمكن تسويته منذ عقود مضت لولا الآخرين، بدءًا من بريطانيا، والأمم المتحدة، وجامعة الدول العربية، والولايات المتحدة، والسوفيات، وغيرهم، لم يتدخلوا في الأمر لإفساده على نحوه الحالي، وفي غالب الأحيان عبر الوعود الفارغة أو المخططات الأنانية، من أحد الجوانب أو غيره.
وترادفية أوباما وكيري، قد تشارك في بعض الإشكالات المخادعة، قبل امتطاء صهوة البطولة صوب غروب شمس سياساتهما الباهتة. فحياتهما السياسية قد سببت أكثر من كارثة في المجالات كافة، حتى أصبحا ليس لديهما ما يخسرانه من لعب دور صانعي السلام، في حين محاولة تسوية النوايا الشخصية على جانب دون آخر.
وحري بالفلسطينيين والإسرائيليين التعلم من ذلك، أنه لا يمكن لطرف خارجي، حتى مع أحسن النوايا المعلنة، وهو ليس الحال مع أوباما وكيري، العمل على تسوية هذه المشكلات بالنيابة عنهم. والأمر متروك للفلسطينيين والإسرائيليين لاتخاذ القرار، ما إذا كانوا يستطيعون الحياة سويًا وعلى أي شروط. فالخطب العصماء الرنانة والقرارات الخاوية الواهية قد تخفي وتموه الحقيقة لبعض الوقت، ولكن لن تسقطها أو تقضي على ضرورتها الملحة.
أمير طاهري
صحيفة الشرق الأوسط