تمكّن تاياني من ترؤس البرلمان الأوروبي في فترةٍ حرجةٍ من تاريخ المنظومة التي تعاني من أزماتٍ عديدةٍ، أهمّها تبعات خروج بريطانيا من الاتحاد، أزمة اللجوء والمخاوف المتزايدة من ارتفاع وتائر الإرهاب في دول المنظومة. وتدرك الأحزاب السياسية الأوروبية جيّدًا أنّ هناك ضرورة ملحّة للقيام بعملية إصلاح جذرية شاملة، وهي من الأسباب التي أدّت إلى فرض هذا التحالف العريض والمفتوح، في وقت واحد، لقبول انضمام مزيد من الأحزاب التي تشاطر اليمين والليبراليين الأوروبيين رؤيتهم لمستقبل المنظومة، وإعادة النظر في الوجهة والمسار الأوروبي باستثناء الحزب الاشتراكي الأوروبي.
لم يكن متوقعًا، في السابق، انعقاد تحالف ما بين اليمين والليبراليين، للتباين في وجهات النظر، لكن المخاطر والتحدّيات الجديدة أدّت إلى تقريب وجهات النظر بين الكتلتين، وساهمت باعتماد خطّة وبرنامج عمل موحّد، في محاولةٍ لمواجهة الشعبويين والقوميين الذين يحاولون تدمير الاتحاد بشتّى الطرق الممكنة من الداخل والخارج، والأمر لا يختلف كثيرًا في دول المنظومة كلّ على حدة. يأتي هذا التحالف في مقابل حصول الحزب الليبرالي على منصب مهم في بروكسل، الأمر الذي أثار حفيظة الاشتراكيين وأغضبهم، وقد أبدوا خيبة أملهم لانتخاب تاياني للمنصب المهم، وتفضّل الاشتراكية بزعامة المفوّض البلغاري، سيرغي ستانيشيف، البقاء في المعارضة ضدّ سياسة الأمر الواقع. ومع فوز تاياني، تمكّن اليمين من السيطرة على الأجهزة الإدارية الرئيسية الثلاثة في المنظومة، وهي، البرلمان والمجلس برئاسة دونالد توسك والمفوضية الأوروبية برئاسة جان – كلود يونكر. ويعتبر تجميع السلطات الثلاث بين أيدي اليمين، على أيّة حال، سيفاً ذا حدّين، لأنّ الفشل الأوروبي، في أيّ من المساقات الحيوية، سيعدّ كذلك فشلا لحزب الشعب الأوروبي وحلفائه، في سنةٍ عصيبةٍ تشهد فيها دول أوروبية عديدة انتخابات حاسمة، كألمانيا وهولندا وفرنسا وبلغاريا واليونان وغيرها.
وعد بمشاريع إصلاحية
حدّد أنطونيو تاياني الأولويات الجديدة للبرلمان، أهمّها الحدّ من البطالة، خصوصاً بين فئات الشباب في أوروبا، الحدّ من أزمة اللجوء الممتدة في معظم أنحاء القارة الأوروبية، مشيرًا إلى أنّ المنظومة توجد في مياه عاصفة في الوقت الراهن، فبعد أزمة نادي اليورو والمديونية الكبيرة لدولٍ عديدة أعضاء في النادي، اندلعت أزمة اللجوء والأمن، وشهدت دول أوروبية عديدة عملياتٍ إرهابيةً أودت بحياة مواطنين أبرياء، وبات الهاجس الأمني يهدّد طريقة حياة الأوروبيين، وقد يجبرهم على تغيير عاداتهم وتقاليدهم، حال اعتماد حزمة من القوانين الأمنية التي قد تحرم الأوروبيين بعضًا من حريّاتهم الشخصية التي ألفوها من قبل.
يمتلك رئيس البرلمان الأوروبي الجديد خبرة طويلة في مجال السياسة. وعليه، مع بداية ولايته، أن يولي مشروع انفصال بريطانيا عن المنظومة أولويةً قصوى، لتفادي تبعاتٍ كثيرة على الصعيد السياسي والاقتصادي، ولحماية المصالح الأوروبية، من دون التخلّي عن شراكة بريطانيا. وأكد تاياني كذلك على ضرورة الموازنة بين مطالب الحليف الليبرالي والمحافظين بشأن الانفتاح الاقتصادي والتجارة الحرّة، والأخذ بالحسبان مطالب الاشتراكيين الرافضين لعمليات الانفتاح التجارية. ويرى الاشتراكيون وجوب تعامل الاتحاد مع شركائه على الصعيد الاقتصادي بالمثل، بما في ذلك اتفاقية التعاون التجاري مع الولايات المتحدة الأميركية وكندا، لتخوّفهم من اقتحام رؤوس الأموال الأميركية العملاقة الأسواق الأوروبية. ودعا الحزب الاشتراكي، أكثر من مرّة، إلى إجبار الأميركيين الراغبين بزيارة دول المنظومة الأوروبية على الحصول على تأشيرات دخول، لأنّ أميركا ما تزال تطالب مواطني بعض دول المنظومة بتأشيرات دخول، كبلغاريا ورومانيا. ستتبيّن قدرات رئيس البرلمان الجديد، ومؤهلاته ومواهبه، على أيّة حال خلال فبراير/ شباط المقابل، حيث من المقرّر أن يقود محادثات الاتفاقية التجارية الحرة مع كندا. وقد يلجأ تاياني لسياسة مختلفة عن سلفه مارتن شولتس الذي يصرّ بشدّة، أحياناً، على رأيه الشخصي، رافضًا التنازل وقبول التوصيات والآراء الأخرى.
بين حزب الشعب والاشتراكية الأوروبية
خلافًا للتعيينات السابقة، تمكّن أنطونيو تاياني (63 عامًا)، والمقرّب من رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق، سيلفيو بيرليسكوني، من الفوز على مواطنه جاني بيتيلا مرشّح الكتلة الاشتراكية التي تحتل المرتبة الثانية في البرلمان الأوروبي، وطالبت الكتلة الاشتراكية على الفور بتخلّي اليمين عن أحد المناصب الرئيسية الثلاثة التي تركّزت في اليمين، وقد شارفت ولاية رئيس المجلس الأوروبي (يوازي المجلس الوزاري) دونالد توسك على الانتهاء خلال شهر مايو/ أيار 2017، من دون التوصّل إلى اتفاق نهائي بشأن التغييرات المطلوبة في المناصب الأوروبية العليا.
أنهى فوز تاياني عمليًا نموذج التعيين السابق، والصيغة التقليدية لتداول مراكز السلطة في بروكسل بين اليمين واليسار. وسيدخل هذا الصراع مرحلة جديدة. وعلى الأغلب، لن تقف الكتلة الاشتراكية مكتوفة الأيدي، وستحاول تعطيل (أو إعاقة) التصويت على القوانين وتمريرها في البرلمان في مساقات حيوية عديدة، وهناك قضايا ومشكلات كثيرة تحتاج سنّ قوانين عاجلة في مجالات حيوية عديدة، لكي يتمكّن الاتحاد من مساعدة الدول الأعضاء في عمليات التكامل في شرق القارة وغربها. ومن المتوقع كذلك استعانة تاياني بطاقم ولجان بديلة عن الزعيم الليبرالي، غي فيرخوفستاد، في المحادثات مع بريطانيا، خلال المرحلة الانتقالية المصاحبة لمشروع انفصالها عن المنظومة، ما يعتبر تراجعًا أمام المحافظين البريطانيين، في الوقت الذي انتقد فيه فيرخوفستاد خطاب رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، التي طالبت بالإبقاء على مصالح بلادها وأولوياتها في السوق الأوروبية المشتركة، من دون الالتزام بالواجبات المترتّبة على ذلك. وذهب الزعيم الليبرالي إلى أبعد من ذلك، حين هدّد ماي، معتبرًا رؤيتها لمستقبل العلاقة الثنائية مجرّد وهم. وستتم عملية التصويت على صفقة انفصال بريطانيا عن المنظومة في البرلمان الأوروبي مع نهاية العام 2018 أو بداية العام 2019.
قوانين لمكافحة الإرهاب
من المقرّر أن يناقش البرلمان الأوروبي، في دوراته خلال العام الحالي، حزمة من القوانين المرتبطة بمكافحة الإرهاب، حسب تصريحات المفوض البلغاري، إميل رادف، والذي أشار إلى وجود كثير من صفحات الإنترنت الناشطة حاليًا بصورة غير مسبوقة من التنظيمات الإرهابية لترويج الخطاب السلفي، والتبشير بانهيار المجتمعات الأوروبية، وستتّخذ بروكسل كل الإجراءات اللازمة، بالتعاون مع شركائها، لحجب هذه الصفحات ومواجهة الأيديولوجيا التدميرية التي باتت تؤثّر سلبيًا، وبصورة مباشرة، على الفئات الشبابية في أوروبا. مؤكّدًا على إمكانية العثور على كلّ ما هو مطلوب لخدمة الأفكار الراديكالية، كتصنيع القنابل والمتفجرات وشراء الأسلحة الخفيفة الرشاشة عبر الفضاء الافتراضي، وعبر الإنترنت أيضًا يتمّ تجنيد الراغبين بالقيام بهجمات إرهابية.
وتوافق شركات عديدة لتوريد حزم إنترنت حاليًا على حذف كل البيانات التي تحمل طابعًا راديكاليًا بمبادراتٍ ذاتية، لكن القوانين الأوروبية الجديدة ستلزم الشركات على حذف هذه المحتويات، فور ظهورها. وناقش البرلمان الأوروبي مسألة الرقابة والتهديدات الإرهابية الكامنة، وتحديد الفرق ما بين نشر المعلومات العسكرية المتعلقة بمقتل المواطنين في أثناء المعارك وإبراز أعلام “داعش” والدعوة إلى القيام بعمليات إرهابية في عواصم الدول الأوروبية. عمليًا، يتم حجب آلاف مقاطع الفيديو التي تخدم الأفكار السلفية والداعية إلى الإرهاب، كما تمّ استحداث مركز اتصالات أوروبي، يعمل على مدار الساعة، لتلقي المكالمات والرسائل الإلكترونية، لتحديد المواقع المتورّطة في مجال ترويج الإرهاب.
كما سيتم تحديد صلاحيات الأجهزة الأمنية المعنية بمكافحة الإرهاب، بما في ذلك مصادرة (وتجميد) الأصول المالية للتنظيمات والأفراد المتورطين بالتخطيط أو دعم الإرهاب في دول المنظومة. وسيساهم تحديد مصادر التمويل بالقبض على الأفراد والمجموعات والشبكات المعنية بالحصول على الأموال، والحيلولة لاحقًا دون تنفيذ العمليات الإرهابية. ومن المقرّر تأسيس سجل خاص بالشركات والمؤسسات المالية التي تقوم بتحويل الأموال إلى الجهات الأصولية ذات التوجهات الراديكالية، الأمر الذي سيساعد في مكافحة عمليات غسيل الأموال. وتشمل قاعدة البيانات للسجل المذكور دول المنظومة الأوروبية. ويمكن للأجهزة الأمنية استخدامها في مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة. تجدر الإشارة كذلك إلى أنّ منظمة شفافية بلا حدود تستفيد أيضًا من هذه البيانات، لتقييم الدول في مجال مكافحة الفساد والرشوة ومواجهة الجريمة المنظمة والفساد في قطاع القضاء وغيره.
وتحدد جميع هذه العوامل مجتمعة مصير الدول الأوروبية الراغبة بالانضمام إلى فضاء الشنغن، وفقًا للتقارير المختصة الصادرة عن اللجان الداخلية للمفوضية الأوروبية، وتشترط المفوضية صدور أكثر من تقرير إيجابي للموافقة على عملية الانضمام.
وكالة استخبارات أوروبية موحّدة
تسعى بروكسل جاهدة إلى تأسيس وكالة استخبارات أوروبية موحّدة، تتعاون مع الأجهزة الأمنية ووكالات الاستخبارات في كلّ من الولايات المتحدة الأميركية وكندا وروسيا وتركيا وإسرائيل. وسيتبنّى البرلمان الأوروبي القوانين الضرورية لتفعيل هذه الآليات ورفع مستوى التعاون بين دول المنظومة، واعتماد قاعدة بيانات لتخزين البيانات والمعلومات، واستخدامها لمراقبة المشتبهين، والقبض عليهم عند الضرورة. الجدير بالذكر أنّ حزب الخضر والحزب
الاشتراكي قد عطّلا هذه الآلية سابقًا، لعدم وجود ضماناتٍ كافيةٍ لحماية البيانات الشخصية، لكن العمليات الإرهابية التي شهدتها القارة الأوروبية، أخيراً، ساهمت بتسريع اتخاذ هذه الإجراءات، حتى وإن أدّى ذلك إلى خرق الحقوق والحريات الشخصية، والإذعان لتقديم أولوية الأمن والسلامة لمواطني المنظومة الأوروبية قبل معالجة المشكلات المتعلقة بنظام الصحة والبطالة والتنمية الاقتصادية.
ما تزال فكرة تشكيل جيش أوروبي مسلّح وموحّد تشغل قادة الاتحاد الأوروبي، خصوصاً بعد قرار انفصال بريطانيا التي تمتلك جيشًا قويًا، إضافة إلى ضعف الموقف الأوروبي خلال أعمال مؤتمرات السلام الدولية، وافتقارها لأوراق سياسية ضاغطة. وبات من الواضح الغياب الأوروبي في عمليات السلام في سورية والعراق، وفي تطوّرات الملف الفلسطيني. وعلى الرغم من ذلك، تتحمّل المنظومة أعباء اللجوء والمخاطر الاجتماعية المرافقة لذلك، وإمكانية تسلّل إرهابيين بين صفوف اللاجئين.
الاتحاد الأوروبي هيكلية فريدة تأخذ بالاعتبار مصلحة كلّ دولةٍ على حدة، وهذه من الأسباب التي حالت دون تسريع اعتماد حزم القوانين المذكورة، ورفع مستوى السياسة الخارجية. أمّا الخطوات العملية المشتركة لحماية الحدود الخارجية للمنظومة فقد جاءت متأخّرة، لكنّها تمكّنت نسبيًا من الحدّ من موجات اللجوء، وضخّ الاتحاد، أخيراً، أموالاً وموارد بشرية كثيرة، لتشكيل دوريات حدود مشتركة لحماية الحدود البريّة والمائيّة المتاخمة لمناطق عبور اللاجئين في تركيا، وغيرها من المناطق.