بالرغم من أنه لا توجد قطعيات في التاريخ القديم، إلا أننا نستأنس في دراسة ذلك العصر بما كشفته الشواهد الأثرية في العصور المتأخرة، مع ما نراه موافقًا للقرآن والفطرة من مرويات أهل الكتاب، وقبل ذلك وبعده ما يتطابق مع مصادر الإسلام الثابته من قرآن وسنة.
وعلى هذا المبدأ سوف نستعرض اليوم تاريخ مملكة بابل التي ورثت ملك السومريين في أرض الرافدين؛ لقد خرج إبراهيم عليه السلام من أرض سومر، بعد أن أسقط هيبة الملوك، ومصداقية الكهان، وزلزل معتقدات الشرك في أفئدة كثير من الشباب. لكن، لم يمهله الوقت ليتمكن من اقتلاع كل تلك المعتقدات من تلك الأفئدة الحائرة.
تسبب ذلك الأثر في تفكك وضعف مجتمع سومر الثري والمترف، خاصة وأن الجيل الجديد لم يعد يحمل نفس الولاء لآلهه الآباء والأجداد، ولا نفس الطاعة لملوك سومر.
كان العموريون، الذين وصفتهم بعض النصوص الأمورية بأنهم (الذين لا يعرفون بيوتًا، وأنهم يأكلون اللحم النيئ) ، يعيشون في الصحراء ما بين العراق والشام، فلما أحسوا بهذا الضعف، وهذا التفكك في أوساط مملكة سومر الغنية، ثارت في نفوسهم الأطماع، وتحركت جموعهم نحو الشرق، واكتسحوا مملكة سومر، فأهلكوا الحرث والنسل.
أمام هذا الظلم والجور، وفي وسط هذه الاضطرابات، أخذت الأجيال الناقمة على هذا الوضع البائس تتناقل قصة ذلك الفتى الذي كان يدعى إبراهيم، وكيف أنه كان يدعو إلى عبادة الله وحده، وأنه كان يحث على مكارم الأخلاق، بشجاعة فائقة، وإيمان راسخ. ولكنه أمام جبروت الملك وتزوير الكهان، إضطر إلى الهجرة إلى فلسطين، حيث ترك هناك ذرية صالحة، وترك معهم صحفًا فيها الكثير من الحكمة.
كان الوضع يزداد بؤسًا، ومساحة التذمر تتسع في نفوس الناس، وأجتهدت الفطر الحية في البحث عن الإله الحق، وكثر المستضعفون في الأرض الذين ينشدون العدل، شعر الشيطان أن استمرار الأوضاع على ما هي عليه، قد تؤدي إلى هداية هذا الجيل الحائر، وإيمان هذه الأمة الكافرة، فقدح في قلوب الملأ شرارة المحافظة على تراث الآباء والأجداد، وعظم في نفوسهم عاقبة غضب الآلهة.
استغل البابليون هذا الوضع القلق، وأحسن الشيطان استخدامهم، فظهروا مع بداية الألف الثاني قبل الميلاد على مسرح الأحداث، مدعين أن الآلهة اختارتهم للحكم، وأرسلتهم لإنقاذ الناس.
استغلوا تعطش الناس للمنقذ؛ فأخذوا يعيدون للآلهة هيبتها، وللكهانة دورها، واستطاعوا -تدريجيًا- السيطرة على زمام الأمور، بالتعاون والتنسيق مع كبار الكهان في أرض العراق.
وما أن استقرت أزمة الحكم في أيديهم، حتى ادعوا أن أحكامهم ما هي إلا تنفيذ لإرادة الآلهة، وأنهم يعتبرون أنفسهم الواسطة بين عامة الناس وبين تلك الآلهة، التي كان من أشهرها أنو وشمش وبعل وعشتار وتموز ومردوخ.
وبناء على هذا التفويض الإلهي؛ أصبح الملوك البابليون يحكمون حكمًا مطلقًا، وأخذ الكهان -المشاركون لهم في الحكم- يرسخون وجوب طاعة الملك، ويعتبرون الخروج عليه كفرًا بواحًا يستحق صاحبه ليس فقدان حياته فقط؛ بل وحتى ماله ومتاعه.
في ظل هذا الحكم الكهنوتي، أخذت ثروة الملوك والكهنة تتزايد جيلًا بعد جيل، وملكيتهم للأراضي تتوسع، من كثرة ما صادروه من كل صوت معارض لهم، حتى أصبح الملك ومن معه من الكهنة أكبر الإقطاعيين، وأعظم التجار، وأصبح كثير من الناس مسخرين لخدمة القصر والمعبد.
بفضل هذه الثروة الفاحشة، تعززت قبضة السلطة الكهنوتية المطلقة، فازداد الانحراف، وتفشى الظلم، وتململت الفطر الحية، والعقول الحرة، التي تبحث عن الحق والحقيقة.
وفي ظل التعتيم على رسالة التوحيد التي جاء بها إبراهيم، اتجه الناس إلى دراسة الكواكب، لاعتقادهم بأنها هي صاحبة التأثير في حياة البشر على الأرض، وأن حركتها تنبئ بأحداث المستقبل الذي هم في أشد الشوق لمعرفته.
تعمق البابليون في هذا العلم، واهتموا بدراسة الأجرام السماوية ورصدها ودراستها، واستطاعوا أن يصلوا إلى نتائج مبهرة في معرفة الفصول، وأن يتنبأوا ببعض الظواهر الفلكية مثل الخسوف والكسوف، وضبط التقويم السنوي، وأطوال الليل والنهار، وذلك بواسطة الحسابات الرياضية المعقدة.
ولكن رغم هذا الإبداع في علم الفلك، إلا أنه لم يصلوا إلى نتيجة تروي ظمأهم، ولا تشبع رغبتهم في استشراف مستقبلهم، فزين لهم الشيطان الولوج إلى علم التنجيم، وأخذوا يربطون حركة النجوم والكواكب بالتفاؤل والتشاؤم، والخير والشر.
لكن، الشيطان لم يتوقف في معركته معهم عند هذا الحد؛ بل وسوس لهم أن كهنتهم يمكن لهم أن يخترقوا الحجب السرية الغيبية، بحكم رضا الآلهة عنهم، وأن هؤلاء الكهنة نتيجة هذه القدرة يستطيعون ليس معرفة الشرور فقط؛ بل وطردها مهما كان مصدرها.
وبالتعاون الوثيق بين الشيطان والكهان، تطور علم التنجيم، ليصل إلى ممارسة السحر والشعوذة والتعاويذ؛ فأصبح للشيطان تلاميذ نجباء، وللكهان مصدر آخر للثروة المتنامية.
لكن كل تلك العلوم، وكل ذلك الجهد، لم يجلب لمجتمع بابل الاطمئنان؛ فعاد التململ في أوساط أهل بابل، وكثرت الأصوات المنادية بالإصلاح، واتسعت دائرة من يحمل هم المجتمع. توافق ذلك مع وصول أشهر ملوك بابل، وأحكمهم، إلى كرسي الحكم، فأخذ يبحث عما يرضي هذه العقول المتعطشة، والنفوس المتلهفة، فلم يجد أفضل مما بقي من آثار صحف إبراهيم.
حاول حمورابي أن يستنبط من تلك الصحف، قانونًا يطمئن إليه دعاة الإصلاح، ويتحمس له حمالة هم المجتمع، وانتهى به الأمر إلى إصدار قانونه الشهير، الذي ظهر فيه قبس من الوحي، فالسن بالسن، والعين بالعين، والجروح قصاص.
لكن الملأ من حوله، لم يساعدوه على تحقيق الهدف الذي سعى إليه؛ خوفًا على مصالحهم المكتسبة، فتلاشت قبسات الوحي في ظلمات البنود الجاهلية التي امتلأ بها ذلك القانون، وأصبحت نتيجة التطبيق، أن يكون الناس جميعًا بلا عيون وبلا أسنان وبلا أطراف (كما يقول أحد الباحثين)، فلا نجد في ظل هذا القانون سوى عقاب يتبعه عقاب وليس حقوقًا تليها حقوق.
أمام هذا الحكم المطلق، والقانون الصارم، والترف الواسع، غابت الأهداف الكبرى من حيات الناس، فزاد الإحباط بينهم، واتجه أغلب القوم إلى الهروب من هذا الواقع، وانغمسوا في اللهو والمجون وشرب الخمور، حنى تعمق الكفر، وفشل الإصلاح، وامتهن الإنسان، رغم رغد العيش، وتطور العلم، وتقدم الزراعة والصناعة، وانتشار علوم الفلك والحساب والتنجيم.
وفي ظل غياب تام لنور الوحي وهديه، تحققت سنة الله في الذين كفروا، وزحف الحثيون من جبال الأناضول على ما بناه حمورابي وأسلافه، وقضوا على ما تبقى من سلالته وإنجازاته، وانزاحت بذلك بؤرة تاريخ العالم القديم من أرض بابل العريقة. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
التقرير