اوشكت المعارك العسكرية التي انطلقت في الموصل بتاريخ 17 أكتوبر/تشرين الأول 2016 على الانتهاء من استعادة الجانب الأيسر (الشرقي) من المدينة، بعد أكثر من ثلاثة أشهر من القتال الذي تخللته وقفات تعبوية أجبرت فيها القوات الحكومية على وقف عملياتها العسكرية لأسباب متعددة.
ومن تلك الأسباب: المفاجآت الميدانية والأخطاء التعبوية والاستخباراتية التي تضمنتها الخطة التعبوية، إضافة إلى سوء التخطيط والتنفيذ والتنسيق وسوء الأحوال الجوية، وضعف تقديم الإسناد الجوي للقطعات المهاجمة التي أدت إلى بطء تقدم القوات ووقوع خسائر كبيرة جدا.
القدرة الحكومية على الحسم
أعلنت القوات الحكومية وقف عملياتها العسكرية وانتهاء المرحلة الأولى يوم 10 ديسمبر/كانون الأول 2016، بعد خسائر كبيرة للفرقة الذهبية والفرقة المدرعة التاسعة، فتلاشت التصريحات باستعادة المدينة قبل نهاية العام بسبب الإخفاقات الميدانية، وعدم قدرة القوات على الحسم.
وبتاريخ 29 ديسمبر/كانون الأول 2016 أعلنت القوات الحكومية بدءَ المرحلة الثانية من معركة الموصل، بعد أن جرى تعديل الخطط وسد النقص وتعويض الخسائر، بوصول تعزيزات من قوات الشرطة الاتحادية والحشد الشعبي، واندماج مجاميع صغيرة من الجنود والمستشارين الأميركان مع القوات الحكومية، لتقديم الإسناد الجوي والمدفعي المباشر.
هذا إضافة إلى مشاركة فعالة من المدفعية الأميركية والفرنسية وطائرات التحالف الدولي وطائرات الأباتشي لمعالجة السيارات المفخخة، مع تفعيل الهجوم من جميع المحاور (الشمالي والشرقي والجنوبي الشرقي).
وهذا ما يفسر التقدم الميداني الكبير؛ فقد تمت السيطرة على أغلب أحياء الجانب الأيسر من قبل القوات التي عانت من التعثر والخسائر الكبيرة، وذلك بإمكانيات قوات التحالف الدولي وباتباع سياسة التدمير وتجريد الأرض بالقصف الإستراتيجي المدمر، الذي سبب خسائر كبيرة في المدنيين وتدميرا شبه كامل للبنى التحتية.
“لا شك أن القوات الحكومية لديها إمكانيات وقدرات عسكرية هائلة جدا تمكنها من الحسم ولو بعد حين؛ فهي تمتلك موارد بشرية واقتصادية كبيرة، ناهيك عن الدعم العسكري واللوجستي الدولي، وقدرتها على الإدامة والتعويض والمطاولة، قياسا بالقدرات المحدودة لتنظيم الدولة”
وقد أشارت الأمم المتحدة بوضوح إلى أن “الخسائر البشرية في حرب الموصل تتقاسمها القوات الحكومية بنسبة 53% وضحايا المدنيين بنسبة 47%”، فتحولت المعركة البيضاء إلى سوداء قاتمة.
لا شك أن القوات الحكومية لديها إمكانيات وقدرات عسكرية هائلة جدا تمكنها من الحسم بالموصل ولو بعد حين؛ فهي تمتلك موارد بشرية واقتصادية كبيرة، ناهيك عن الدعم العسكري واللوجستي الدولي، وقدرتها على الإدامة والتعويض والمطاولة، قياسا بالقدرات المحدودة لتنظيم الدولة. وذلك تبعا للآتي:
أ- حجم القوات: إن نسبة أعداد القوات المهاجمة إلى القوة المدافعة -في سياقات الحرب وتقدير الموقف- في أحسن حالاتها هي نسبة (1-5) أو (1-3)، ولكنها في هذه المعركة تصل إلى (1-20)، وهذا اختلال كبير جدا في ميزان القوة لصالح القوات الحكومية.
وهو ما يتيح لها إمكانية المناورة وإدامة زخم المعركة، وفتح جبهات متعددة، وتأمين احتياطيات مناسبة، وخطوط إمداد محمية ومستمرة لإدامة المعركة، إضافة إلى إمكانيات القوات الأميركية والتحالف الدولي.
ب- الإسناد الناري الكثيف: تتوفر لدى القوات الحكومية قدرات نارية كبيرة جدا لإسناد القوات المهاجمة بمختلف الأسلحة: من مدفعية وراجمات وهاونات، مع قدرة التحالف الدولي على تأمين سيادة جوية مطلقة، ومظلة جوية مستمرة من الإسناد القريب والبعيد، وتأمين تصاوير جوية حديثة، وقدرات استطلاعية وتجسسية ضخمة من خلال المراقبة الاستخباراتية، برصد وتحديد تنقلات التنظيم وتحركاته التعبوية ضمن مسرح العمليات.
الخطة الهجومية الحكومية
ستبدأ القوات الحكومية معركتها النهائية في الجانب الأيمن (الغربي) من الموصل بعد وقفة تعبوية قصيرة، للتنقل وإعادة التنظيم وإدخال التعديلات اللازمة على الخطط التعبوية، بالاستفادة من أخطاء المرحلة الأولى والثانية، لاستكمال الاستحضارات القتالية.
ولذا ستهاجم القوات الحكومية والقوات المساندة لها تنظيم الدولة في الجانب الأيمن من مدينة الموصل (الأرض الحيوية)، وستبدأ في قصف تمهيدي كثيف ومركز، تقوم به طائرات التحالف الدولي والقوة الجوية وطيران الجيش ومدفعية الميدان، على جميع المواقع الدفاعية ضمن الإطار الدفاعي الداخلي والخارجي.
وسيتزامن ذلك مع ضرب أهداف حيوية ومهمة أدرِجت ضمن قائمة بنك الأهداف التي أعِدت من قبل الاستخبارات العسكرية، ومن بينها مقرات القيادة والسيطرة ومخازن العتاد ومعامل التفخيخ والأنفاق، مع بث الشائعات عن هروب ومقتل القيادات بتوظيف الحرب النفسية بكافة تفاصيلها.
وذلك للتأثير على معنويات مقاتلي التنظيم لزعزعة الأمن الداخلي بالمدينة وتحقيق الصدمة، على أن يجري التقدم للهجوم بتفعيل جميع المحاور الرئيسية والثانوية بوقت واحد، مع تجنب الاقتحام المباشر للمدينة للحصول على موطئ قدم.
على أن تقوم كتائب الهندسة العسكرية بنصب عدد من الجسور العائمة تمهيدا لعبور القوات في مرحلة لاحقة من المعركة، لزيادة الضغط وتشتيت القوات المدافعة، مع تأمين رأس جسر لمنطقة العبور بالقصف الإستراتيجي من طائرات التحالف.
وكذلك القيام ببعض الإنزالات الجوية إذا أمكن لتأمين الجسور والتأثير على معنويات التنظيم، مع تفعيل معركة استعادة تلعفر ومناطق غربي العراق (عانة ورواة والقائم)، لمنع التنظيم من المناورة بقواته التي تسيطر على هذه المناطق أو تحييدها من المعركة.
“ستهاجم القوات الحكومية المدينة من جميع المحاور بالتقرب المباشر وغير المباشر، وعبر محاور رئيسية وأخرى ثانوية تثبيتية لكنها يمكن أن تكون رئيسية بفترة لاحقة، مع تجنب الاقتحام المباشر للمدينة بالالتفاف ومهاجمة الخواصر الضعيفة والرخوة للتنظيم”
أما بالنسبة لمحاور الهجوم المحتملة؛ فستهاجم القوات الحكومية المدينة من جميع المحاور بالتقرب المباشر وغير المباشر، وعبر محاور رئيسية وأخرى ثانوية تثبيتية لكنها يمكن أن تكون رئيسية بفترة لاحقة، مع تجنب الاقتحام المباشر للمدينة بالالتفاف ومهاجمة الخواصر الضعيفة والرخوة للتنظيم، وحسب المحاور التالية:
أ- محور الهجوم الجنوبي: ويقسم إلى:
1- محور الجنوب: حمام العليل – قرية الكرامة – لزاكة – البوسيف – مطار الموصل – حي الطيران = 13 كلم، ويعتبر محورا رئيسيا، ويمكن اعتبار المطار قاعدة للانطلاق إلى داخل المدينة.
2- محور جنوب غرب: عذبة – مفرق حمام العليل – تقاطع الغزلاني – المأمون = 9 كلم، لتأمين الوصول إلى معسكر الغزلاني واتخاذه قاعدة لدخول المدينة.
ب- محور الهجوم الغربي: ويقسم إلى:
1- محور غرب شمال: أسكي موصل – بادوش – سجن بادوش – مقبرة وادي عكاب = 37 كلم، وهذا المحور ثانوي تثبيتي ويمكن إن يكون رئيسيا.
2- محور الغرب: مسعد – السحاجي – حي الأندلس – اليرموك = 18 كم، وهذا محور الحشد.
3- مناطق محتملة للإنزال الجوي: يعتبر مطار الموصل والمنطقة المحاذي لنهر دجلة باتجاه حاوي الكنيسة مقابل الحي العربي والفاضلية والملايين، مناطقَ محتملة ومهمة للإنزال.
4- مناطق محتملة للتجسير والعبور: تعتبر المنطقة المحصورة من الجسر العتيق إلى الحي العربي مناطقَ صالح للعبور.
5- يمكن أن يكون هناك محور يسير بمحاذاة نهر دجلة بتقرب غير مباشر، ويعتبر خطيرا جدا في الوصول إلى المدينة.
عقبات تواجه القوات الحكومية
إن عملية استعادة الجانب الأيمن من الموصل لن تكون سهلة، بل ستواجه عقبات أكثر تعقيدا من الجانب الأيسر، من أهمها:
1- الطبيعة الجغرافية التي يمتاز بها هذا الجانب من المدينة الذي يتصف بتقارب المساكن وضيق الشوارع والحارات، لكونها أحياء قديمة وفقيرة وذات كثافة سكانية عالية، فضيق الشوارع يحد من حركة العجلات والقطعات المدرعة، والكثافة السكانية العالية تحد من القدرة على استخدام الأسلحة الثقيلة والقصف الجوي والمدفعي لأنه سيوقع خسائر كبيرة في المدنيين.
كما أن الطقس الرديء وانخفاض الرؤية بسبب الضباب وتساقط الأمطار سيؤديان إلى توقف العمليات العسكرية، لضعف الإسناد الجوي وعدم القدرة على إدامة زخم الهجوم، مما يعطي فرصة للوحدات الانغماسية التابعة لتنظيم الدولة -والتي تقاتل بطريقة محترفة في حرب العصابات- أن تسعى لتغير المعادلة الميدانية على الأرض.
2- إن تدمير الجسور التي تربط طرفيْ المدينة من قبل طيران التحالف الدولي كان سلاحاً ذا حدّيْن؛ فقد كان سببا في التقدم والسيطرة على الجانب الأيسر بقطع الإمدادات العسكرية واللوجستية عن التنظيم.
والآن يشكل المانع المائي عقبة كبيرة أمام تقدم القوات للعبور إلى الضفة الثانية لسرعة جريان النهر، وعدم صلاحية الضفاف للتجسير بسبب ارتفاعها في كثير من المناطق، إضافة إلى وهن القوات أثناء العبور بحيث يمكن استهدافها بالقصف المدفعي والهاونات والقنص، وأعتقد أن معضلة الاحتفاظ بالهدف ستكون أصعب من الاستيلاء عليه.
3- أن عدم وجود خطة مسبقة لتهيئة مخيمات الإيواء سيترك آلاف المدنيين بالعراء، بسبب تدمير الجسور وعدم قدرتهم على النزوح باتجاه الجانب الأيسر، حيث يتوقع نزوح أعداد كبيرة جدا بمجرد أن تحتدم المعارك ويفقد التنظيم سيطرته على المدنيين.
إدارة المعركة الدفاعية للتنظيم
1- العقيدة العسكرية للتنظيم: إن العقيدة العسكرية لتنظيم الدولة هي عقيدة هجومية أكثر مما هي دفاعية، وهذا ما لاحظناه طوال السنين التي مضت، فقد أثبتت الهجمات السابقة قدرة التنظيم على إحداث الصدمة والترويع والسيطرة على الأهداف بوقت قياسي.
ولكنه افتقر إلى القدرة على الدفاع والمحافظة على الأهداف بسبب المعارك المستمرة التي استنزفت إمكانياته البشرية والمادية والاقتصادية، والتي أثرت على إدارته للعمليات العسكرية وانحسار نفوذه بشكل كبير جدا.
2- سير إدارة المعركة الدفاعية: إن المعركة الدفاعية في الجانب الأيمن ستكون صعبة وشرسة ودموية، بسبب التعقيدات الجغرافية للمنطقة التي تشكل ثلث مساحة المدينة.
“سيدير التنظيم معركته الدفاعية بنطاقات دفاعية مستخدما كافة الأساليب والتكتيكات الدفاعية والهجومية لتحقيق المباغتة في نوع الهجمات واستخدام القوات والأسلحة في الوقت والمكان المناسب، وسينفذ هجمات تعرضية وإجهاضية باستخدام العجلات المفخخة والأحزمة الناسفة والانغماسين”
فهي تساعد على الدفاع لكونها تستند إلى مانع مائي من جهتها الشرقية والشمالية وهو نهر دجلة، وتحيط بها مرتفعات ومناطق متموجة من جهتها الغربية باتجاه بادوش والجنوبية باتجاه البوسيف، لذا سيدافع التنظيم عن الجانب الأيمن باعتباره الأرض الحيوية التي تمترس فيها منذ يونيو/حزيران 2014.
وسيدير تنظيم الدولة معركته الدفاعية عن الموصل بنطاقات دفاعية مستخدما كافة الأساليب والتكتيكات الدفاعية والهجومية لتحقيق المباغتة في نوع الهجمات واستخدام القوات والأسلحة في الوقت والمكان المناسب، وسينفذ هجمات تعرضية وإجهاضية باستخدام العجلات المفخخة والأحزمة الناسفة والانغماسين.
وسيعتمد كذلك على الكمائن المتحركة المدبرة والقناصين وتفخيخ المنازل وزرع الألغام، واستخدام شبكات الأنفاق للتنقل والإدامة والحماية، وتوظيف الدراجات النارية في تنفيذ كثير من المهام.
وسيحصن التنظيم مواقعه بمنظومة مانع مختلط واصطناعي، ومنظومة مانع سلكي تساعده على الدفاع والصمود وإيقاع خسائر كبرى بالقوات المهاجمة، من خلال التوزيع الصحيح للأسلحة المتوسطة والمساندة لإدارة معارك طاحنة وقوية، وتوظيف الحرب النفسية باستخدام أسلحة غير تقليدية للتأثير على معنويات القوات الحكومية. وسيدير معركته الدفاعية كما يلي:
أ- تقسيم الجانب الأيمن إلى نطاق دفاعي خارجي وداخلي: على أن تقسم إلى قواطع ثم إلى مناطق وأحياء تحتوي على عُقَد دفاعية محصنة، حيث تم تقطيع الأحياء بصبات خرسانية لزيادة التعقيدات في عمق الموضع الدفاعي، وتتراوح الأعداد حسب حجم ومساحة وأهمية الحي، على أن يتم العمل بمجموعات صغيرة متحركة لتفادي الضربات الجوية.
ب- تشكيل قوة لمقاومة الخرق وقوة احتياط: سيشكل التنظيم قوة مركزية لمعالجة المواقف غير المتوقعة ضمن قواطع العمليات، إضافة إلى قوة لمقاومة الإنزالات الجوية المحتملة، وسيستخدم الطائرات المسيرة في تفجير العجلات المفخخة عن بعد.
ج- سيدافع التنظيم عن نهر دجلة ويمنع القوات الحكومية من القيام بعمليات التجسير الناجح للعبور إلى الجانب الأيمن، وسيتم زرع المناطق المحاذية لنهر دجلة بحقول ألغام مختلفة لتدعيم الموضع الدفاعي.
د- سينفذ التنظيم عمليات واسعة وقوية في قواطع عمليات مختلفة كجزء من المناورة التعبوية، باستخدام إستراتيجية نقل الصراع إلى مناطق أخرى مغيّراً الأولويات، خاصة عندما تكون الضربات قوية وموجهة في مناطق مهمة وحيوية.
هـ- قد يقوم التنظيم بالانسحاب من مدينة الموصل والتحرّف إلى سوريا، وهذا سيناريو محتمل بعد فقدان الجانب الأيسر من المدينة مع قلة الخيارات المتوافرة.
خلاصة القول: إن التحالف الدولي هو من يملك قرار حسم معركة الجانب الأيمن (الغربي) من الموصل كما حصل في الجانب الأيسر (الشرقي). فقد تم تدمير البنى التحتية بشكل كامل، ولحقت خسائر كبيرة بالمدنيين والممتلكات العامة، مع استنزاف كبير جدا للقوات الحكومية التي تفتقر إلى الكثير من مقومات الجيوش النظامية.
والخاسر الأكبر في هذا كله هم أهل السنة فقد دُمِّرت مناطقهم واستُبيحت أموالهم وسُفكت دماؤهم، فكانت التكلفة باهظة وكبيرة في حقهم.
حاتم كريم الفلاحي
المصدر : الجزيرة