الموت المفاجئ في /3 نوفمبر 2015 لرئيس اللجنة المالية في البرلمان العراقي، أحمد الجلبي، يثير الكثير من التساؤلات والشكوك حول ملابسات وفاته وما كان بصدد نشره من تفاصيل وملفات تكشف شبكات الفساد في البلاد.
الجلبي الذي منذ ترؤسه اللجنة المالية في البرلمان العراقي ركز بصورة ملفتة للنظر على قضايا الفساد المالي في الدولة العراقية، وتحديداً فساد البنك المركزي، وسياساته المالية التي وصفها بأنها كارثية على الاقتصاد العراقي، وعلى الاحتياطي من العملة الصعبة، وبخاصة في الفترة من عام 2006 حتى أواخر عام 2014، حتى انه رفع قضية على البنك المركزي العراقي، وقال في إحدى جلساتها ان البنك المركزي باع من خلال مزاد العملة في الفترة بين 2006- 2014 ما قيمته 312 ملياراً و750 مليوناً و598 ألف دولار أي ما يعادل 57%، من مجموع واردات النفط البالغة 551 ملياراً و749 مليوناً و957 ألفاً و142 دولاراً.
كما كشف الجلبي(1) عن صفقة فساد كبيرة ، وهدر لأموال الدولة ، وهي صفقة مع جمهورية التشيك لشراء طائرات نوع L159 للتدريب، والقتال الخفيف ، التي تم تصنيعها منذ 1992، اي كان عمرها 22 عاما عند شرائها، وكانت موجودة في المخازن ولم يتم بيعها ، لا نها لم تكن كفؤه بعملها، وحتى التشيك نفسها لم تعتمدها في القتال او التدريب ، واعتبرتها غير صالحة .
واوضع الجلبي انه تم التعاقد، بين التشيك ووزارة الدفاع العراقية بموافقة مجلس الوزراء آنذاك، بخصوص شراء تلك الطائرات في 2/2014، رغم كل تلك الملاحظات من عدم كفاءة الطائرات، وعدم صلاحيتها حتى للتدريب، وتم فتح اعتماد وتخصيصات مالية لشراء الطائرات في نهاية 2014 ، معتبرا ذلك دليلا واضحا على فساد الصفقة المشبوهة.
وتم شراء 10 طائرات، و اثنتين قطع غيار لان المصنع تم أقفاله ولم يكن هناك قطع غيار، وفعلا تم الشراء بمبلغ 166 مليون دولار، مما يعني ان سعر الطائرة الواحدة بلغ 13 مليون دولار.
في حين هناك شركة امريكية اشترت الطائرة ذاتها، بسعر 900 الف دولار للطائرة الواحدة ، هذا دليل واضح على ان الصفقة فاسدة، والسؤال هنا: من يقف خلف هذه الصفقة ، ومن المستفيد منها، ولم تهدر اموال العراق ولصالح من تسرق اموال حزينة البلد؟
واشار الجلبي ايضا، لوجه فساد اخر، وهو اقرار قانون رقم 301 ، وهو الانفاق من دون موازنة، وهذا مخالف للدستور ولكل القوانين، موازنة الدولة والدين العام ، اذ لا يجوز صرف اي مبلغ من الخزينة المالية للدولة، من دون اقراره بالموازنة، باستثناء 1/ 12 من كل شهر من الموازنة التشغيلية.
ومن جهة اخرى، شدد آنذاك الجلبي على فساد مزاد العملة، وان على الدولة كبح عصابات الدولار، واعادة تفاوض سريع للتراخيص مع الشركات ، والا سيكون العراق في مواجهة مشاكل مالية كبيرة لا تحمد عقباها، وهذا ما يثبت حاليا .
وفي السياق ذاته فجر الجلبي قنبلة من الوزن الثقيل، تتعلق بملف أثار لغطاً سياسياً واسع النطاق، بشأن تهريب العملة الأجنبية، اذ صرح بأن مسؤولين عراقيين أقدموا على تبييض أموال وتهريبها إلى مصارف خارج البلد ، وطالب بفتح تحقيق في البرلمان، وأعلن مجلس القضاء الأعلى، في بيان له الثلاثاء 10 نوفمبر 2015، عن فتح تحقيق بالملفات التي كان الجلبي أودعها لدى رئيس مؤسسة “المدى” فخري كريم(2).
وأضاف انه “تم تداول ملف تهريب العملة بين رئيس مجلس القضاء الأعلى ورئيس محكمة التمييز الاتحادية ورئيس الادعاء العام ورئيس هيئة الإشراف القضائي ورئيس محكمة استئناف بغداد، وتقرر تشكيل هيئة تحقيق قضائية، للنظر في تلك الوثائق التي تبلغ عدد صفحاتها 41 صفحة.
وحسب المصدر (3)، أودع الجلبي هذا الملف لدى جهات وشخصيات عدة قبيل وفاته ، من بينها المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني، إضافة إلى آخرين، طالباً منهم تحريكها والكشف عن خفاياها، فيما لو حصل له مكروه لانه كان يتعرض للتهديد.
ومن الوثائق المهمة المتلفزة مع الجلبي، انه اشار الى ضغوط خارجية من قبل ايران، وحتى امريكا التي عارضت، وضغطت على الحكومة العراقية بعدم سحب الثقة من رئيس الوزراء حينها ، لسوء ادارته والفوضى في البلد، والنقطة المهمة، التي طرحها رئيس الوزراء في الاجتماع في مقر السفارة الامريكية، ان تشكل الحكومة دون وزير دفاع وداخلية ، وتوليهما هو بالوكالة ، لقى موافقة من الجانب الامريكي، واوضح الجلبي بان ايران وأمريكا ترغب بتثبيت رئيس الوزراء في السلطة حينها .
واوضح، ان الادارة الامريكية ليس لديها التزام بإرادة الشعب العراقي، لان الشعب قبل بالفساد، وبأزمة الكهرباء وبكل المشاكل، موضحا ان امريكا تهتم بالطرف الذي يهتم بحفظ مصالحها فقط.
واوضح الجلبي في لقاء متلفز اخر،(4) ان هناك ملفات فساد تكمن في تلكؤ عمل الدولة العراقية على جميع الاصعدة، ففي قطاع الكهرباء مثلا ، ما اعلن عن صرفه سنة 2009 هو مجرد اكاذيب، اذ بلغ 27 مليار دولار وكان من المفترض تشغيل 20 الف ميغا واط، وتم شراء 56 مولد كهرباء بطاقة انتاجية 125 ميغاواط ، ودفع المبلغ نقدا، بسعر الواحد 44 مليون دولار، مؤكدا ان المولدات كلها لا تعمل، وارجعت الحكومة ذلك الى عدم توفر السيولة الكافية لديها للتعاقد مع شراكات لبناء محطات، وابرامها عقودا مع شركة كندية بمليار دولار، وهي شركة ليس لها وجود اصلا، واخرى مع المانية بـ 650 مليون دولار .
واوضح الجلبي ان هناك فسادا في المادة 36 من الموازنة( العقود بالأجل)، وقيمتها 18 تريليونا ، ولا تنفق بالشكل الصحيح .
فساد كبير في مزاد العملة ..
كشف الجلبي عن بعض الوثائق التي تؤكد الفساد في هذا الجانب، ومنها أن تجاراً حصلوا على ملايين الدولارات من مزاد العملة باستخدام أسماء متوفين.
وفي تصريحات سابقة كشف الجلبي أن “أطرافاً سياسية تضغط على البنك المركزي لزيادة مخصصات البنوك في المزاد، لقاء مبالغ”، مضيفاً أن “هناك مذكرات داخل البنك المركزي بأسماء هؤلاء السياسيين من مجلس النواب ومن الحكومة”.
واكد ما قاله الجلبي تصريح لرئيس هيئة النزاهة الأسبق القاضي رحيم العكيلي في 9/8/2015،
(الجزيرة) (5) ، اذ قال: “هناك تقارير للرقابة المالية في 2010 عن فساد غسيل الاموال في العراق، ولكن النفوذ السياسي السلطوي للفاسدين لا يسمح بملاحقة وكشف الحقائق للذين يعبثون بأموال الدولة”.
واكدت اللجنة المالية في البرلمان العراقي من جهتها في تقرير لها، عن وجود فساد مالي كبير، (في الفترة البرلمانية السابقة )، مشيرة الى ان رموز الفساد في فترة 2006-2014 كانت مكونه بنوك، ومصارف، وشركات، وشخصيات زورت وثائق لتهرب مبالغ مالية ضخمة نحو عدة بلدان.
وأشار العكيلي الى ان “رئيس الوزراء حينها، ازاح سنان الشبيبي عن إدارة البنك المركزي العراقي واستولى على الثروة أو الكنز الهائل داخل هذه المؤسسة؛ للتحكم بالنقد العراقي وهذا ما حصل لاحقا”، اذ :”بعد إزاحة الشبيبي عن البنك المركزي العراقي زاد التلاعب بسعر الصرف، واكد هذا الكلام رئيس اللجنة المالية النيابية في البرلمان العراقي في عام 2013 الدكتور أحمد الجلبي، اذ تحدث عن التلاعب بأسعار الصرف في البنك المركزي العراقي وأزمة تتعلق بانخفاض مستوى الدينار العراقي وصعود سعر الدولار، نتيجة تحكم جهة سياسية بالبنك المركزي بالفرق بسعر الصرف، مما حقق لها ربح مليارات الدولارات”.
واوضح الجلبي ، ان الفساد موجود في العقود الطويلة الاجل ، وهناك عدم فهم للأساليب المالية المطروحة .
موت مفاجئ ..
هناك تكهنات في خبر موته في 3 نوفمبر 2015 الذي شكل وقتئذ صدمة كبيرة للأوساط السياسية العراقية، ولعائلته التي أعلنت منذ اللحظة الأولى أن موته عملية اغتيال مدبرة ومخططة، لكونه لم يكن يعاني من أية أمراض أو عوارض صحية، ولذا سارعت العائلة إلى تكليف المعهد الطبي الأمريكي في نيويورك بتشخيص سبب الوفاة خاصة بعد أن سارعت الحكومة العراقية للقول في بيان رسمي إن سبب الوفاة هو نوبة قلبية .
التقرير الأمريكي، (6) الذي سلم لابنته تمارا الجلبي، أشار إلى أن سبب الوفاة هو تناوله جرعة من السم دست له في القهوة قبل وفاته بست ساعات والتي أدت إلى مضاعفات وتخثر الدم الشديد ثم السكتة الدماغية ثم السكتة القلبية والوفاة مباشرة .
الجلبي (71 عاما) عثر عليه ميتا في مزرعته شمالي بغداد، الثلاثاء، ودفن صباح الجمعة في المدينة المقدسة الكاظمية، شمالي العاصمة، قال مسؤولون ونواب عراقيون انه توفي اثر اصابته بنوبة قلبية، أثار موته، ولكن موته أثار عاصفة من الأسئلة والتكهنات بأنه قد قتل بسبب القضايا البارزة التي كان يتناولها بالأعلام، والتي عرفها خلال رئاسته اللجنة البرلمانية المالية، التي تراقب سياسات وآليات منافذ الصرف الحكومة المالية، والميزانية السنوية بين القوانين المالية الأخرى ذات الصلة.
وقال عدد من النواب العراقيين كان الجلبي، يجمع معلومات ويتحقق في قضايا الكسب غير المشروع المالي الذي يؤثر على العديد من الشخصيات السياسية والحكومة العراقية والأجنبية البارزة.
وقالت مصادر قريبة من الجلبي انه “تحقق في أنشطة المصارف الخاصة في العراق”، ويشتبه في تورطهم في هذه البنوك بعمليات غسل الأموال طويلة الأجل التي تم تمويل الجماعات الإرهابية العاملة في العراق.
واضافت ان الجلبي كان على وشك الكشف عن أسماء هذه البنوك، جنبا إلى جنب مع المسؤولين والسياسيين الأجانب والعراقيين البارزين الذين شاركوا في العملية، وكان الجلبي، قد هدّد، قبل وفاته، بكشف تفاصيل ووثائق سريّة عن تهريب النفط العراقي إلى إيران. (7)
أما العراقيون، فلم يكن بمقدورهم، الكثير سوى الربط بين وفاته المفاجئ و ما كان يوشك كشفه من تفاصيل حول “عصابات الدولار” التي حذر من مغبة التغاضي عن نشاطاتها في آخر لقاءاته المتلفزة.
وفي المقابلة التي أجراها قبل شهر من وفاته، قال الجلبي إن الحملة الإعلامية ضده والتهديدات التي تعرض لها لن تمنعه من “الوصول إلى مكامن الفساد وفضح العصابات” التي استأثرت بثروات الشعب، خاصاً بالذكر “عصابات الدولار”، أي بعض المتنفذين في البنك المركزي العراقي وبعض البنوك الأهلية، الذين ربحوا أموالاً طائلة من خلال شرائهم الدولار بأسعار زهيدة وتهريب مئات المليارات من الدولارات خارج البلاد، اذ جنوا خلال ثلاثة أعوام 10 تريليونات و880 مليار دينار عراقي على اقل تقدير.
واكدر الجلبي ان عمليات الاختلاس هي البذرة السامة التي نمت منها شجرة فساد فارعة استظل بها بعض ذوي الثراء الفاحش والنفوذ السياسي الواسع، وجنى ثمارها الرديئة المواطن العراقي البسيط الذي لا يجد لقمة تسد جوعه أو سقفاً يستتر به. وأضاف الجلبي لاشي يحمي البلاد من السقوط في هاوية اقتصادية واجتماعية ما لم تتخذ إجراءات “حقيقية فعالة بحكمة وبسرعة” لاستئصال جذور الفساد المالي والإداري8).)
مات الجلبي او قتل ، ولكن ملفات كشف الفساد ووثائقه ما زالت موجودة، والعراقيون ما زالوا ينتظرون كشفها ممن اوصاهم الجلبي بنشرها اذا حصل له مكروه…. ام سيبقون على خنقها؛ خوفا من ان تلحقهم عصابات الدولار بموت مفاجئ ؟
شذى خليل
وحدة الدراسات الاقتصادية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية
المصادر: