مباشرة، وفي يوم المجزرة، خرج علينا الناطق باسم البيت الأبيض، شون سبايسر، ليخبرنا أن إزاحة الأسد من موقعه ليست أولوية لإدارته، بل إنه وصف ذلك بأنها “فكرة سخيفة”. ثمّ تبعه وزير الخارجية، ريك تيلرسون، في السادس من الشهر نفسه، ساعات، بتوقيت الساحل الشرقي الأميركي، بعد قصف مطار الشعيرات السوري العسكري بصواريخ توماهاك، ليؤكد أن الأولوية المركزية لإدارته هي هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). وحسب تيلرسون، حينئذ، فإن هزيمة “داعش” ستقود إلى استقرار لاحق في كل مناطق سورية، عبر اتفاقات وقف إطلاق النار بين قوات النظام وقوات المعارضة، وبالتالي عودة اللاجئين إلى مناطق آمنة، بعد أن تشكل المعارضة إدارات محلية وقوات أمن، وهو ما سيؤدي إلى انطلاق عملية سياسية على أساس اتفاقات جنيف، ستؤدي، في نهاية المطاف، إلى رحيل الأسد. ولكن تصريح تيلرسون هذا لم يلبث أن نقضته السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة، نيكي هيلي، والتي صرحت، في التاسع من إبريل/ نيسان الجاري، بأن الولايات المتحدة “لا ترى سورية سلمية مع بقاء الأسد”. وهو موقف أكده مستشار الأمن القومي الأميركي، إتش. آر. ماكماستر، في اليوم نفسه، عندما قال: “نظن أن مسألة تغيير النظام أمر سيقع.. لا يوجد حل سياسي يمكن تصوره مع بقاء الأسد في القيادة”. ولكن ماكماستر لم يتوقف عند ذلك الحد، إذ أضاف أن إحداث ذلك التغيير ليس من مسؤولية الولايات المتحدة. وعلى الرغم من أن تيلرسون عاد وعدل موقفه قليلا بتصريح له، يوم الثلاثاء الماضي، على هامش قمة “مجموعة السبع” التي انعقدت في إيطاليا، عندما قال: “من الواضح أن عهد عائلة الأسد شارف على نهايته”، إلا أن ترامب، الذي نعت الأسد بـ”الحيوان” الذي يقتل شعبه، في مقابلة بثت يوم الأربعاء الماضي، أكد أنه لن يتورّط عسكريا في سورية. بمعنى آخر، فإنه لا جواب بعد كيف يمكن إزاحة الأسد من موقعه، إذا استمرت روسيا، حليفه الأبرز، بدعم بقائه.
لا تقف تعقيدات هذه الفوضى في مقاربة إدارة ترامب موضوع الأسد عند هذا الحد، وذلك إذا
ما أخذنا في الاعتبار مواقف ترامب من المسألة، حينما كان مرشحا، ومواقف أركان إدارته قبل مجزرة خان شيخون، والتي أشرت إليها في مقالي في “العربي الجديد” الأسبوع الماضي، وكان مفادها أن إطاحة الأسد ليست أولوية أميركية. وبسبب هذه الفوضى والتناقضات وغياب الانسجام والتماسك في مواقف شخصيات هذه الإدارة، بل وفي مواقف الواحد منهم، حسب التوقيت والمعطيات، فإن وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، لم يتمكّن من كتم غيظه خلال استقباله وزير الخارجية الأميركي، تيلرسون، في موسكو، يوم الأربعاء، حيث قال: “سأكون صريحا، لدينا تساؤلات كثيرة بشأن أفكار غامضة ومتناقضة كثيرة تصدر من واشنطن حيال كثير من الأجندة الثنائية والدولية”.
إذن، من نصدّق في إدارة ترامب حيال الموقف من الأسد؟ بل متى نصدق الفرد الواحد في تلك الإدارة، عندما يتحدث عن الأسد في أوقات مختلفة؟ الجواب ببساطة أنه لا يمكن الجزم بذلك أبدا، ذلك أن تخمينا في هذا السياق يصبح أقرب إلى من يقطف بَتَلاتِ زهرة، كما يفعل الرومانسيون، وهم يتساءلون: “تحبني .. لا تحبني”، متمنين أن تكون آخر بَتْلَةٍ: “تحبني”. أضف إلى كل ما سبق أن القصف الذي قامت به الولايات المتحدة لمطار الشعيرات بتسعة وخمسين صاروخ توماهاك، وقالت إنه دمر 20% من طائرات النظام العسكرية العاملة، لا يبدو أنه آتى أكله العسكرية، فطائرات النظام عادت لتقلع منه في اليوم التالي للقصف زارعة الموت بين أبناء الشعب السوري، ما حدا بعضو مجلس الشيوخ الأميركي، الجمهوري، ليندسي غراهام، ليقول إن الأسد، بذلك، يقول لترامب: “اللعنة عليك”. وبالمناسبة، فإنه استخدم تعبيرا سوقيا لا يمكن ذكره هنا، وخففت الترجمة إلى لغة أكثر ذوقا.
يدفعنا كل ما سبق إلى التساؤل، هل فعلا، ثارت ثائرة ترامب بسبب المشاهد المروّعة لضحايا قصف النظام الهمجي بغاز السارين في خان شيخون؟
لا أصدق ذلك، وأعتقد أن دوافع ترامب مختلطة، كما أشار تقدير موقف للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، نشر قبل أيام، وتتلخص بين اعتباراتٍ داخلية لحرف الجدل المتصاعد حول العلاقات المزعومة التي جمعت حملته الانتخابية بروسيا، وفشله المتراكم في قضايا كثيرة، كنقض برنامج الرعاية الصحية الذي وضعه الرئيس السابق، باراك أوباما، وتراجع شعبيته إلى مستويات تاريخية، مقارنة بأي رئيس في أول مائة يوم من حكمه. دع عنك أنه قد يكون أراد إرسال رسالة في هذه الضربة لخصوم أميركا، ككوريا الشمالية وإيران، ومن يدعمهما، كروسيا والصين، بأنه على عكس أوباما مستعدٌّ لاستخدام القوة إن لزم الأمر.
أمام ذلك كله، قد نكون أمام “ضربة تحريكية” لإعادة فرض الدور الأميركي في السياق السوري، بعد أن تراجع بشكل كبير في الأشهر الأخيرة من عمر إدارة أوباما. وبتأكيد المسؤولين الأميركيين أنهم لا يريدون تورّطا عسكريا في سورية، فإن حسابات إدارة ترامب قد تكون منحصرةً في اجتراح صفقةٍ مع الروس، تقصي الأسد ضمن معادلات تحفظ مصالح الطرفين في سورية، وتمنع انهيارا داخليا للدولة وأجهزتها. المشكلة، أن إدارة أوباما جرّبت هذا الطريق من قبل، فكان أن انتهت سورية إلى حيث هي اليوم.
كهاوٍ لصيد السمك، فإنك أحيانا كثيرة تصطاد سمكاً صغيرا فَتَغْرِسُ في عموده الفقري، حَياًّ،
كَلَّابَ الصنارة المعدني (Hook)، أو أنك تُقَطِّعُهُ مباشرة إلى نصفين أو إلى ثلاث قطع، وهو حَيٌّ كذلك، وتضعه على عدة كَلَّاباتٍ من صنارتك لتصطاد به سمكا كبيرا ومرغوبا. تداعى إلى خاطري هذا التشبيه، على الرغم من توحشه، وأنا أصيد سمكا في الأمس في نهر الباتوميك في واشنطن، وقلت في نفسي هذا هو بالضبط ما تفعله أميركا وروسيا في سورية. الأسد وسورية ما هما إلا سمكتان صغيرتان يستخدمهما الأميركان والروس، ولاعبون آخرون، طُعْماً للظفر بمغانم استراتيجية أكبر، وكله على حساب دمائنا. ألم يقل الناطق باسم البيت الأبيض، سبايسر، يوم الاثنين الماضي، إن ترامب سيرد عسكريا إن استخدم الأسد البراميل المتفجرة ضد شعبه، قبل أن يتراجع البيت الأبيض عن هذا التصريح. بمعنى آخر، رسالة الولايات المتحدة إلى الأسد، اقتل من شئت من شعبك، ودمر ما شئت من بلدك، ولكن إياك والسلاح الكيماوي، الذي هو سلاح استراتيجي، يمكن أن يستخدم ضد الأعداء أيضا، كإسرائيل. بالمناسبة، حصدت البراميل المتفجرة، وتحصد، من أرواح السوريين أكثر من الأسلحة الكيماوية. وبالمناسبة أيضا، الولايات المتحدة هي من تضع “فيتو” على تسليح المعارضة السورية بالصواريخ المحمولة على الكتف، أرض- جو، بهدف حماية المدنيين السوريين من بربرية مقاتلات الأسد، وروسيا كذلك. أن نُقْتَلَ ونباد على أيدي الجميع.. هذا هو حصاد عقود طويلة من أنظمة الطغيان والتخلف العربية.