تقول الفكرة الشائعة اليوم داخل إدارة ترامب وفي أوساط خبراء الشأن السوري على حد سواء إنه لا يمكن تدمير تنظيم “داعش” في سورية ما لم تتم الإطاحة ببشار الأسد من سدة السلطة؛ والحد من تواجد ونفوذ إيران بشكل قطعي. وفي عالم مثالي، ستكون هذه في الحقيقة أفضل محصلة ممكنة لمنع “داعش” وغيره من المجموعات الجهادية، بما فيها القاعدة، من تحصين نفسها هناك. ولكن، غني عن القول إن الشرق الأوسط ليس بالعالم الكامل. وسوف يكون الرد الأميركي على أي هجوم آخر بالأسلحة الكيميائية، كما هدد بذلك البيت الأبيض مؤخراً، شأناً ضرورياً ومبرراً على حد سواء. (قال بيان البيت الأبيض أن الأسد وجيشه سوف يدفعون ثمناً باهظاً لمثل ذلك). لكن متابعة مهمة طموحة ضد إيران والأسد والروس في سورية سوف تكون مهمة محفوفة بالمخاطر وطائشة وغير ضرورية لحماية مصالح الأمن القومي الأميركي الحيوية. وفيما يلي خمسة مسوغات مقنعة لذلك:
الولايات المتحدة لا تستطيع محو “داعش في سورية
في خطاب تنصيبه، تحدث الرئيس ترامب عن محو الإرهاب الإسلامي المتطرف عن وجه البسيطة. لكن ذلك غير ممكن التحقيق. سوف تظل سورية وحدها حاضنة للجهاديين والسلفيين من كل الشرائح بسبب الخليط السمي من الحكم البائس، والفرص الاقتصادية القاتمة، والكراهية الطائفية، والمظالم بين السكان السنة الحاصرين. كما أن أيديولوجية الإسلام المتطرف ودعايته ستظل قادرة على تغذية مشاعر السخط والإحساس بدور الضحية والمعاناة في أوساط المواطنين السنة. ويبقى الذين يدعون إلى تبني سياسة أكثر حزماً في سورية محقين بقول إنه ما لم تتم معالجة هذه المشاكل، فإن “داعش” وغيره من المجموعات الجهادية سيستمرون في الازدهار، حتى من دون شبه دولة الخلافة. ولكن، لا يستطيع حتى الأكثر ميلاً إلى المخاطرة في إدارة ترامب استشراف ذلك النوع من الالتزام الأميركي في سورية، والذي سينطوي على ضرورة التزام الولايات المتحدة وحلفائها بإرسال آلاف الجنود وإنفاق مليارات الدولارات من أجل إلحاق الهزيمة العسكرية بكل أعدائهم في سورية، واحتلال البلد وإعادة الاستقرار إليه وإعماره مجدداً. وفي الحقيقة، حاجج الرئيس نفسه بقوة ضد فكرة بناء الدول. وهكذا، فإن احتواء الجهاديين هو هدف واقعي؛ أما تخليص سورية منهم فحلم واهم.
لا نهاية منظورة لدولة مستقرة في سورية
إن فكرة مواجهة إيران، أو محاولة إضعاف نظام الأسد في جهد لإزاحته عن السلطة أو لإجباره على الدخول في انتقال سياسي متفاوض عليه، هي فكرة خيالية. وكان هذا واضحاً منذ عدة أعوام. وحتى لو التزمت الولايات المتحدة بخلع الأسد، فسوف يفضي ذلك إلى مزيد من الفوضى العارمة، حيث لا توجد قوة منظمة مصطفة مع الغرب لتحل محله. وثمة صراع مجنون يدور بين كل أنواع المجموعات -الجهاديين السنة مثل “داعش”، والقاعدة والمليشيات الشيعية الموالية لإيران، والعلويين والأكراد- من أجل تأكيد سيطرتها على مناطقها، وهو ما يجعل الحالة أسوأ. ولم يكن الأسد مستعداً لقبول انتقال سياسي متفاوض عليه قبل أن يساعد تدخل روسيا في العام 2015 في قلب الموازين لصالحه. ومن المؤكد أنه لن يوافق أبداً على هذه المحصلة الآن، بعد أن أصبحت معظم المدن والمناطق الرئيسية في سورية تحت سيطرته. وبالإضافة إلى ذلك، لا يبدو الروس، الذين قد يريدون في نهاية المطاف حلاً سياسياً كاستراتيجية خروج، في عجلة من أمرهم للوصول إلى محصلة من هذا القبيل -كما لا يمكن الضغط على موسكو أو تخويفها للقبول بواحدة، في ضوء ما استثمرته في سورية. وهكذا، وحتى لو عنى التخلص من “داعش” نظرياً تخليص سورية من نفوذ الأسد وهيمنة العلويين وخفض حجم معاناة السنة ولجم نفوذ إيران، فإن ذلك ببساطة ليس متاحاً بكلفة يرغب الجمهور والكونغرس الأميركي في دفعها. وإذا لم تكن هناك دولة مستقرة يمكن تحقيقها في نهاية المطاف، فإن تحركات إدارة ترامب لتعميق الانخراط العسكري والمدني في سورية يجب أن يوزن بحذر، ويقيَّم وفق الأهداف الدقيقة التي يهدف الالتزام المتصاعد إلى إنجازها. وأولئك الذين يدفعون نحو لعب دور أكثر حزماً في سورية لم يتعرفوا أبداً على العلاقة بين المزيد من الانخراط الأميركي وبين أي دولة نهائية يمكن تصورها.
نحن لا نريد حرباً مع إيران
يدير إيران نظام قمعي. وهو يسيء إلى حقوق الإنسان وله أهداف توسعية، ويرعى الأعمال الإرهابية في عموم منطقة الشرق الأوسط. لكن محاولة دحر نفوذ إيران في سورية تبدو أسهل من الناحية النظرية منها من الناحية العملية، وعلى أولئك الذين يدفعون نحو طرد إيران من جنوب شرق سورية وإحباط جهودها للسيطرة على المعابر الحدودية بين العراق وسورية -بهدف خلق جسر بري إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط- أن يظهروا كيف يمكن لأي من هذه الأمور الإسهام في هزيمة “داعش”. كما أنهم ليسوا على دراية بحجم القوات التي تحتاجها العملية لتحقيق هذه الأهداف وإدامة السيطرة على المنطقة. وكان أحد مسئولي البيت الأبيض الأميركي قد أشار مؤخراً إلى إنشاء فرقة على غرار تلك التي عرضت في برنامج تلفزيوني في الستينيات من القرن الماضي، والتي تحكي عن مجموعة من الجنود الأميركيين شديدي البأس كانوا يسيرون دوريات في سيارات جيب ويتحرشون بالجنود الألمان في صحراء شمال إفريقيا. وتخطط الإدارة أيضاً إلى إرسال فريق من سبعة أعضاء لتقديم مساعدات إنسانية لمناطق في جنوب شرقي سورية تم تحريرها من قبضة “داعش”. ولا يتعدى هذا كله مجرد ألاعيب تكتيكية مقدر لها الفشل، وليس استراتيجية. وليست سياسات الإدارة الخاصة بسورية متحررة من أي مجموعة أهداف أوسع لمقاتلة “داعش” وغيره من المجموعات الجهادية -وهو هدف تشترك فيه إيران الآن بشكل أكثر إلحاحاً في ضوء الهجوم الإرهابي الأخير في طهران. وبالإضافة إلى ذلك، فإن من شأن النهوض بسياسة أكثر عدوانية وتصعيدية ضد إيران الإخلال بالاتفاق النووي. صحيح أن ذلك الاتفاق أبعد من أن يكون كاملاً، لكنه يخفض بشكل كبير سير إيران نحو قدرة تصنيع أسلحة نووية للأعوام العشرة أو الخمسة عشر المقبلة. وفي الحقيقة، ولأن الملف النووي الكوري الشمالي مفتوح بشكل كبير الآن، فإن آخر شيء تحتاجه الولايات المتحدة هو صنع دولة أخرى معزولة تنضم إلى النادي النووي.
الولايات المتحدة لا تستطيع تحييد روسيا
تبقى المخاوف من احتمال انزلاق الولايات المتحدة وروسيا إلى حرب شاملة بينهما بسبب سورية مبالغاً فيها، لأنهما تعرفان تماماً التداعيات الكارثية المحتملة التي ستنجم عن هذه الحرب. لكن التصعيد المستمر للحوادث العسكرية التي تشترك فيها القوات الأميركية والروسية ستجعل من المستحيل على البلدين التوصل إلى أي نوع من التسوية المؤقتة لإضفاء الاستقرار على البلد بعد سقوط الرقة في أيدي القوات الأميركية وقوات الائتلاف. وفي الأثناء، تواجه روسيا واشنطن بحقائق عديدة غير مواتية: أولاً، أنها في موقف عسكري ودبلوماسي أقوى بكثير من الولايات المتحدة. ثانياً، ولأن بوتين يمتلك اليد العليا، فإن من الصعب تصور أن يكون (أو نظام الأسد) لينين أمام فرض أي قيود ذات معنى على حرية العمل. كما أن من غير المرجح أن يقبل بوتين بأي نوع من التواجد الدولي في سورية، سواء كان ذلك بذريعة حفظ السلام وإضفاء الاستقرار أو إعادة الإعمار، لأن ذلك سيضعف سيطرته. ثالثاً، سوف تكون موسكو حاسمة لتأسيس الترتيبات السياسية والاقتصادية التي ستمس الحاجة إليها لإضفاءالاستقرار وإعادة الإعمار. وباختصار، فإن أي نوع من تعاون بعد الصراع مع موسكو في سورية سوف لن يكون ممكناً إذا حاولت الولايات المتحدة ممارسة الضغط على روسيا. ويتجاهل أولئك الذين يقولون إن الضغط على موسكو هو الطريقة الوحيدة لتغيير حسابات بوتين عدم رغبة الرئيس الظاهرة في التصادم معه، وعدم رغبة الولايات المتحدة في ممارسة ضغط جاد، ورغبة بوتين في الدفع ضد ذلك إذا كان ذلك ضرورياً.
مصالح أميركا في سورية ليست حيوية مثل مصالح منافسيها
بغض النظر عن مدى أهمية سورية بالنسبة للولايات المتحدة (وتمكن إقامة الحجة على أنها لا تحظى بكل تلك الأهمية)، يجب على واشنطن تقرير كم هي قادرة على التضحية، وما إذا كانت مستعدة للبقاء على المسار عندما تدفع إيران وروسيا في الاتجاه المعاكس. وثمة انقسام ابتدائي بين الطريقة التي تنظر بها الولايات المتحدة إلى المسألة، وبين أولئك الذين يعيشون في المنطقة أو بالقرب منها؛ فسواء كانت إيران أو تركيا أو إسرائيل أو الأردن أو دول الخليج العربية، تبدو هذه الدول كلها مستعدة للتضحية أكثر بكثير من الولايات المتحدة. وهذه البلدان تعرف جوارها بشكل أفضل وتعطيها الجغرافيا والديمغرافيا مزايا رئيسية، وبالنسبة للعديد منها، تعتبر المخاطر وجودية بطريقة لن تختبرها الولايات المتحدة أبداً. ولا يبدو هذا الواقع أكثر وضوحاً منه في سورية؛ فالأسد يقاتل من أجل ديمومته، وقد لا تكون سورية مهمة لإيران بنفس أهمية العراق، لكن طهران ضحت أصلاً بموارد ضخمة من الرجال والمال في القتال؛ ولم يستعرض بوتين قوة روسيا العسكرية في سورية ليطوى ذلك تحت الضغط الأميركي. وتقول الحقيقة والواقع أن التحالف بين سورية وإيران وروسيا هو ائتلاف راغبين أكثر بكثير من الائتلاف الذي استطاعت الولايات المتحدة تجميعه، والذي يبدو أنه ائتلاف شبه الراغب والمهتم بمصلحته الذاتية. والحجة القائلة بأن الطريقة الوحيدة لتغيير الحسابات الروسية أو الإيرانية هي تصعيد الضغط هي حجة هي لعبة خطيرة، على ضوء التباين في الإرادة والمصالح والحلفاء بين الجانبين. فمن سيرمش أولاً على ضوء غياب دعم الكونغرس والدعم الشعبي لمغامرة عسكرية أخرى في دولة لا نهاية منظورة لها (انظر إلى أفغانستان والعراق)؟
مثل أفغانستان، حيث أصبحت الولايات المتحدة عالقة الآن أيضاً، يرجح أن واشنطن سوف تحتاج إلى نتيجة جيدة بما يكفي، وليس انتصاراً بكل تأكيد. ومن المستحيل تحديد ما يعنيه ذلك الآن. فبعد كل شيء، ما تزال الولايات المتحدة متواجدة في أفغانستان لعقد ونصف العقد، وما تزال لا تعرف ما إذا كان هناك شيء ما يشبه النجاح في أوراق اللعبة.
مع ذلك، يجب مواصلة العمل على الهدف الرئيسي في سورية، والكامن في إضعاف واحتواء الجماعات الجهادية، وإبقائها في حالة هرب لمنع شن هجمات على الولايات المتحدة وأوروبا والحلفاء الإقليميين. وليست هذه هي المحصلة المنشودة، لكنها أفضل من السعي إلى أهداف غير واقعية ولا يمكن تحقيقها، والتي يمكن أن تقود الولايات المتحدة إلى أتون حروب مشتتة لا نهاية لها، ولا تستطيع كسبها أمام خصوم أكثر التزاماً وتصميماً بكثير. وليست إدارة التهديد الجهادي في سورية بدلاً من محوه استراتيجية جيدة ولا بطولية، وبالتأكيد لن تصلح سورية أو توجه لإيران صفعة استراتيجية. لكنها تظل بالنسبة لأميركا الطريقة الصحيحة، خاصة عند التفكير في مخاطير ومحاذير الانقضاض على سورية وإيران في هذه المناطق التي يجري التنافس عليها. وثمة امارات مشجعة على أن البنتاغون يعي تماماً هذه المخاطر على الأقل.
أرون ديفيد ميلر؛ وريتشارد سوكولسكاي
صحيفة الغد