عقب تفكك الاتحاد السوفييتي في عام ،1991 بدأت مراكز صناعة النظريات السياسية في صياغة نظريات وإطلاقها لتنتشر عبر وسائل إعلامها واسعة الانتشار في العالم، وهذه المراكز تمثل في الغرب، وعلى وجه الخصوص في الولايات المتحدة، جزءاً من أدوات الباب الخلفي للسياسة الخارجية . فهي تطلق النظريات لتدور حولها في أرجاء العالم مناقشات وجدل، فالبعض يرفضها، والبعض الآخر يتقبلها، ويروج لها، اقتناعاً منه بها كحقائق للتطور التاريخي وللعلاقات الدولية .
ويكون زرع النظريات، مثل بذرة تغرس في الأرض، وينتظرها صانع القرار السياسي، حتى تنمو وتترعرع، إلى أن يحين الوقت المناسب لتحويلها إلى سياسات على أرض الواقع .
هناك نظريات عدة تحولت إلى سياسات فعلية وأخرى لم يحالفها النجاح، مثل نظرية نهاية التاريخ للمفكر الأمريكي فوكوياما . والمثير للاهتمام أن هناك نظريتين طرحتا، وامتدت آثارهما إلى العالم، خاصة في دولنا العربية، وهما: نظرية “نهاية عصر الدولة القومية”، ثم ما أعقبها من طرح نظرية أطراف ليست دولاً، ستلعب دوراً مؤثراً في العلاقات الدولية .
كان الترويج لفكرة نهاية عصر الدولة القومية، مصحوباً بالكشف عن سياسات موجودة بالفعل، لتفتيت المجتمعات داخل حدود الدولة الواحدة، وما يترتب على ذلك من تقسيم المجتمعات إلى طوائف متناحرة، وتجزئة الكيانات التاريخية الجامعة لسكانها، إلى كيانات صغيرة ضعيفة .
ومن المعروف أن الدولة القومية، بتكوينها السكاني المتنوع الذي يضم جماعات من قوميات ذات أصول متنوعة، في بعض الأحيان قد استقرت مع إعلان معاهدة وستفاليا عام 1648 التي أقرت مبدأ سيادة الدولة، وأن الدولة ذات السيادة، تمثلها حكومة مركزية واحدة، فوق منطقة جغرافية محددة، وفيها سكان دائمون وحكومة واحدة، وإمكانات الدخول في علاقات مع دول أخرى ذات سيادة، وأصبح مفهوماً أن أي دولة ذات سيادة لا تكون معتمدة أو خاضعة لدولة أخرى . وطوال السنين التي تلت معاهدة وستفاليا، وتطور مفهوم السيادة مع تطور العصر تأكدت مفاهيم السيادة واكتمال كيان الدولة القومية خاصة وفق ما نص عليه ميثاق الأمم المتحدة، ومواثيق المنظمات الدولية والإقليمية .
وعقب انتهاء الحرب الباردة عام 1989 انتشرت موجات التقسيم الداخلي في دول موجودة وتضم سكاناً ذوي أصول قومية متعددة، مثل الاتحاد السوفييتي ويوغسلافيا . لكن الاندفاع المدمر نحو التفتيت تصاعد مع انتشار تيار المنظمات الإرهابية التي تصدر التقسيم مبادئها، والعداء المعلق لقوميات بعينها كانت تاريخياً جزءاً من نسيج دولتها، ودعوتها لحدود جديدة، بما يهدد الكيانات السياسية القائمة التي جمعت الشعوب من مختلف التوجهات في بوتقة قومية واحدة، وهو ما ينتهي بها إلى صناع صورة الدولة .
ولم تكن النظرية الثانية التي وصفت بأطراف ليست دولاً كلاعب مؤثر في العلاقات الدولية منقطعة الصلة بالنظرية الأولى، فالمنظمات هي أطراف لا تنتمي إلى دولة معترف بها، بل هي في حقيقتها مناوئة للدولة القائمة ولسيادتها ووحدة أراضيها، ولا تخفي نواياها بشأن تقويض قوة الدولة وسيادتها، وأركان وجودها وتستند في نشاطها إلى تحالفات مع منظمات تحمل فكرها وعقيدتها نفسيهما وتتساند مع بعضها بعضاً من خلال تحركاتها عبر حدود الدول .
إن التطورات التي جعلت النظريتين تفرزان في عالمنا العربي، وفي العالم أجمع نتائجها السلبية، تجعلنا نتساءل هل كان طرح هذه النظريات عفوياً، لمجرد وصف حقائق جديدة طرأت على العالم، أم أنه كان تمهيداً مقصوداً لحقائق يجري الترتيب لوجودها كأمر واقع، بحيث تلعب دورها، وكأن لها قوة دفع ذاتية، مع أن سلوكها في النهاية يخدم مبادئ أساسية في استراتيجيات القوى الكبرى، وكانت تحمل دائماً مبادئ وأفكار التقسيم والتفتيت داخل مجتمع الدولة الواحدة؟
ولا يغيب عن الملاحظة الدور الذي تلعبه المنظمات الإرهابية في هذا الاتجاه، والتي تصاعد وجودها ونشاطها، كلاعب ينتمي إلى دولة، وعداؤها لمفهوم الدولة القومية .
وكانت البداية العملية لهذه العقيدة، ظهرت أكثر مع ظهور تنظيم “القاعدة”، والمنظمات التابعة لها، والمرتبطة تنظيمياً بها، وكذلك المنظمات المتفقة معها فكراً وعقيدة .
ثم بدأ ذلك يظهر بوضوح مع بروز تنظيم “داعش”، وتحديه للسلطة التقليدية للدولة، والتكامل القومي للسكان . ومنذ الوقت الذي تجاوز فيه خطر “داعش” حدود الدول الإقليمية، وانتقال ممارسات العنف إلى دول الغرب، أخذت الدول الغربية تشهد مناقشات، صدرت عنها آراء توجه اللوم لقادة هذه الدول، وتتهمهم بالتراخي، في مواجهة هذه الظاهرة . وهنا استوقفتني إحداها، وهي دراسة نشرتها مجلة New Statesman التي قالت: إن من المثير للدهشة، أن يأتي تمدد “داعش” كأنه مفاجأة للمخابرات الغربية . فما كان لها أن تفاجأ لأسباب عدة .
أولها، ما جرى في العام الماضي من تغيير “داعش” لاسمها، من القاعدة في العراق، إلى الدولة الإسلامية في العراق والشام . وهو ما كان ينبئ بنمو متزايد لطموحات هذا التنظيم . والسبب الثاني، أنه كان ينبغي على الغرب أن يكون مستعداً ل”داعش” منذ اللحظة التي راحت فيها صفوف هذا التنظيم تتضخم بالمنضمين إليه، خاصة من شباب من دول غربية، خلال 18 شهراً مضت .
والسبب الثالث، هو ما جاء في التقرير الموثق الذي أذاعته مؤسسة “راند” الأمريكية المشهورة بدقة معلوماتها، من أن أعداد منظمات الإرهاب تضاعفت بنسبة 58%، منذ عام 2010 . وأن الأعداد خلال هذه الفترة القصيرة، قفزت من 31 منظمة إلى أكثر من 40 منظمة .
إن خطورة هذه المنظمات ليست في تحديها وحدة أراضي الدولة، ووحدة سكانها، وسيادتها وحدودها فقط، بل يضاف إلى ذلك انعزالها تماماً عن العصر، وهي لا تعي أن العالم بعد نهاية عصر الثورة الصناعية في أوائل التسعينات، قد دخل عصر المعرفة، والاعتماد المتبادل بين الدول والشعوب، وأن المعرفة أصبحت مفتاح حياة البشر، للتقدم، والنهوض، والأمان، بينما أفكار هذه المنظمات جعلتها تفصل نفسها عن العصر، وقواعده، ولو قدر لها أن تحكم، لكان ذلك الانزلاق في منحدر من التدهور والانهيار، للدولة ومجتمعها .
عاطف الغمري
الخليج