زلزال استقالة الرئيس سعد الحريري من رئاسة الحكومة اللبنانية لم تنته ترداداته اللبنانية بعد، فهذه الخطوة التي أثارت جدلا والتباسات بسبب المكان الذي أعلنت منه الاستقالة، أي المملكة العربية السعودية، إلا أنها رغم كل ذلك فرضت على لبنان أسئلة جوهرية لطالما ساهمت القوى السياسية -مختارة أو مرغمة- في تفاديها، وكان حزب الله دائماً هو من يدير عملية تهميشها وتجاوزها بالمواربة أو بالقوة، وهي أسئلة تتصل بدور لبنان العربي وبالعلاقة الأكثر التباساً بين الدولة اللبنانية ودويلة حزب الله، وهذا ما أعاد الرئيس الحريري طرحه في المقابلة التلفزيونية التي جرت معه مساء الأحد، حين قام بعملية شرح هادئ وموفق لنص استقالته النارية والمفاجئة في الرابع من الشهر الجاري.
في إطلالته التلفزيونية الهادئة والموضوعية، نزع الحريري من يد الأطراف السياسية الحليفة لحزب الله، أوراقاً عدة استثمرتها هذه الأطراف عبر الترويج لمقولة أن الرئيس الحريري أجبر على الاستقالة، وجرى تصويره بأنه مسير بل محتجز، ووصل الأمر برئيس الجمهورية العماد ميشال عون إلى القول بأنه معتقل، كما نقل عنه دبلوماسيون غربيون إثر لقائه قبل أيام مع أعضاء السلك الدبلوماسي.
ولا يخفى على المراقبين أن هذه المنهجية التي اعتمدها الرئيس عون كان جرى التوافق عليها مع حزب الله، والتي تقوم في جوهرها على إهمال المضمون السياسي لخطاب الاستقالة، عبر التركيز على وضعية الرئيس الحريري لجهة أنه محتجز وغير حر، وبالتالي اعتبار الاستقالة كأنها لم تكن. بحيث شهدنا في لبنان وبشكل مصطنع إلى حد كبير حفلة غرام غير مسبوقة بشخصية الحريري من قبل فريق حزب الله وحلفائه، من نفس الجهات التي طالما اتهمت هذا الرجل بأنه متآمر وأداة من أدوات المشروع السعودي الصهيوني الغربي، وما إلى ذلك من أوصاف يخجل المرء من إيرادها أمام أعين القراء.
ولكن هذا لا يجب أن يجعلنا نغيب أن حتى المقربين من الرئيس الحريري وخاصة قيادة تيار المستقبل بدت مرتبكة في التعامل مع هذه الاستقالة، وهو ما كشف إلى حد كبير أن تيار المستقبل نفسه كان ينكشف عن وجود تيارات في داخله، لا سيما من خلال انجرار بعض أركانه في سياق التشكيك بالاستقالة وصحتها فضلا عن الإيحاء بأنّه محتجز، وبدا أنّ جزءا من هذا التيار قد انساق إلى حملة الشائعات التي أفقدت هذا التيار في الأيام الأولى التوازن، وبرز ذلك من خلال وقوعه في فخ تغييب المضمون السياسي للاستقالة لصالح التشكيك بأنّه مسير وليس مخيراً في المملكة العربية السعودية.
خرج الحريري عبر الشاشة وطمأن الجميع بأنه سيعود خلال أيام إلى لبنان، وعلى طريقته التي تتسم بالعفوية والمسؤولية أعاد تسييل خطاب الاستقالة بكلمات واضحة وبسيطة ولا تحتمل التأويل، والأهم أنّها موضوعية ومقنعة، فهو كان لبنانيا ووطنيا حين أكد أن المصلحة اللبنانية هي أساس كل اتفاق، وأشاد برئيس الجمهورية، ولفت إلى أنه مطالب لبنانياً أولاً بأن لا يضر بمصالح الدولة والشعب، متسائلاً ماذا يفيد لبنان تورط حزب الله في معارك خارجية ولا سيما في اليمن؟ ولفت إلى أنّ النأي بالنفس الذي قامت عليه التسوية الرئاسية لم يحترم ويجب أن يحترم، لأن لا مصلحة لبنانية في ذلك بل هي أضرار تنال من لبنان بسبب خرق حزب الله هذه السياسة، ووضع الحريري باختصار شرط المشاركة في الحكومة بالتزام حزب الله بهذه السياسة.
خطاب الحريري كان لينا في التعبير وفي الهدوء ولكن شديد الصلابة في المضمون، خطاب تكمن قوته في أنه يقوم على قواعد الدولة، وعلى احترام نظام مصالحها. وكذا كان خطابا بعيدا عن التهويل لكنّه لا يستهين بالتحديات، خطابا لم تمسسه المذهبية ولا الطائفية ولا الحزبية، بل كان مسكوناً بهموم لبنانية تعني كل اللبنانيين.
الاستقالة أو الصدمة الإيجابية كما وصفها الحريري نفسه، حققت جملة أهداف قبل أن تستكمل خطواتها لا سيما خطوة العودة إلى لبنان ولقائه رئيس الجمهورية، فهي رغم الضوضاء التي تلت إعلان الاستقالة، جعلت كل القوى السياسية أمام حقيقة لا يمكن تجاوزها بعد اليوم، وهي كيف سيتعامل لبنان مع دور حزب الله في اليمن، بعدما صار من شبه المؤكد أن خروجه من سوريا والعراق صار واقعا، وهذه المرة من لسان الأمين العام لحزب الله الذي قالها في خطابه الأخير قبل أيام أن خروج مقاتليه من سوريا صار قيد البحث بعدما أنجز مهمته، علما أن الإدارة الروسية الأميركية للملف السوري باتت تفرض على حزب الله في الأشهر المقبلة الخروج الآمن بدل الخروج مرغما، وبالتالي فإن اللبنانيين مطالبون في المرحلة المقبلة ليس من السعودية فحسب بل من المجتمع الدولي الذي سيدفع باتجاه إعادة حزب الله إلى داخل الحدود، لا سيما وأنّ الوقوف في وجه هذا المسار سيكون مكلفاً إلى حدّ كبير على اللبنانيين ومن بينهم حزب الله.
فرض الحريري باستقالته الزلزال على خصومه، على حزب الله وحلفائه بما فيهم محور الممانعة الممتد إلى إيران، إعادة الاعتبار للتوازن الداخلي، إذ ليس خافيا أنّ حزب الله وخلال سنة من التسوية الرئاسية التي أتت بالعماد ميشال عون رئيسا وبالحريري رئيسا للحكومة، أخلّ بهذا التوازن بشكل مستفز وصارخ، وتجاوز كل الاعتبارات الداخلية وبعلاقات لبنان الخارجية وبسياسة النأي بالنفس، حيث عمل على فرض شروطه في إدارة الحياة السياسية وفي فرض العلاقة مع بشار الأسد على الحكومة، وفي ممارسة سطوته على القيادات السياسية إمّا بتطويعها مستفيداً من سطوة سلاحه، أو بعزلها وتهميشها بإدارة عملية الفساد وتوزيع الغنائم، بترسيخ دور سلاحه بحيث قال رئيس الجمهورية في الذكرى السنوية الأولى لوصوله إلى سدة الرئاسة، إنّ سلاح حزب الله مرتبط وجوده بأزمة الشرق الأوسط. وهذا وحده دليل كاف على المدى الذي وصلت إليه سطوة سلاح حزب الله في البلد.
استقالة الحريري أعطت لبنان فرصة، بأن أعادت ترتيب جدول الأعمال السياسي على قواعد الدولة، أمّا الدويلة فهي خيار لم يعد مجديا، وهي قوة إن لم تدمج نفسها في مشروع الدولة فهي مرشحة لتدمير نفسها وتدمير البلد. فاستقالة الحريري وما ترتب عليها وضعت الدويلة في الزاوية وأمام خيارات مصيرية، فإمّا الانتحار أو التكيف مع متطلبات الدولة والالتزام بشروطها وفي مرحلة أولى كف يد حزب الله الخارجية.
هذا ما حققته الاستقالة حتى الآن والأسلحة التي استخدمت في هذا السياق ليست إلا الخفيفة، فالمعادلة التي ستفرض نفسها في الأيام المقبلة هي التالية؛ كلما كان لبنان دولة فوق دويلة حزب الله فلن يتعرض للأذى وكلما تفوقت الدويلة التي يمثلها حزب الله على الدولة وأضرت بالدول العربية والخليجية على وجه التحديد، فإنّ لبنان كله سيكون عرضة للخطر.
هذه المعادلة فهمتها إيران كما فهمها حزب الله، والحريري في مقابلته التلفزيونية مد يد الحوار لحزب الله على قاعدة لبنان أولاً وهذا ما لا يستطيع أحد من اللبنانيين إلا أن يشجعه على الموقف أولا والحوار ثانيا ودائما نظام المصالح الوطنية هو المظلة والقاعدة.
سعد الحريري أحدث زلزالاً لبنانياً في استقالته، وعودته بالشروط التي قدمها كفيلة بأن تنقذ لبنان من مسار لا نهاية له إلا الجدار.