شذى خليل *
تعمل العولمة الاقتصادية على تكامل الاقتصادات الوطنية والإقليمية والمحلية، وترابطها؛ بتكثيف الحركة عبر الحدود للسلع، والخدمات، والتقنيات ورأس المال.
لم تطبق العولمة بشكل كامل الا في سبعينيات القرن الماضي عندما بدأت الحكومات بالتشديد على فوائد التجارة الدولية، مستفيدة، بشكل أساس، من التطورات المتتابعة على صعيد التكنولوجيا والاتصالات، وبذلك حوّلت الحكومات اقتصاداتها من الاقتصاد المبني على التخطيط المركزي إلى اقتصاد السوق، اذ اسهمت الإصلاحات الداخلية للشركات على التكيّف بسرعة أكبر، واستغلال الفرص التي أوجدتها التطورات التكنولوجية الكبيرة.
وشجعت العولمة الشركات متعددة الجنسيات على تنظيم العملية الإنتاجية للاستفادة من الفرص، مما أدى إلى هجرات متزايدة للأيدي العاملة ورؤوس الأموال إلى مناطق تتميّز بانخفاض تكاليف العمالة.
واثارت العولمة جدلا واسعا في أواخر التسعينيات، فاختلف الآراء حول اعتبارها ظاهرة اجتماعية كونية، او حالة، او حقبة تاريخية وموصولة بقاطرة النظام العالمي الجديد، وتبشر بتنامي شكل جديد في العلاقات الاقتصادية بين الدول.
ونمت العولمة الاقتصادية بمعدلات مرتفعة، نتيجة اندماج الاقتصادات المتقدمة مع الاقتصادات الأقل نمواً، وذلك من خلال الاستثمار الأجنبي المباشر، وخفض الحواجز التجارية.
وكان ذلك خلال ترتيبات بين الدول في إطار “الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة” (GATT)، التي وقعت عام 1947، وتطورت لتصبح “منظمة التجارة العالمية” (WTO)، الأمر الذي جعل هذه الدول تُخفّض الحواجز التجارية بينها، وتفرض تعرفة جمركية منخفضة، وتكبح الدعم الحكومي للسلع المصنّعة محلياً.
يرى بعض الاقتصاديين ان التقدم التكنولوجي والاتصالات والنقل إلى جانب إرساء أيديولوجيا السوق الحرة، أعطى حرية غير مسبوقة لتنقل السلع والخدمات ورأس المال عبر الحدود، فبلدان الشمال الغنية تريد فتح الأسواق العالمية؛ للاستفادة من وفرة اليد العاملة الرخيصة في الجنوب، ولتحقيق ذلك، تستخدم الدول الغنية المؤسسات المالية الدولية والاتفاقات التجارية الإقليمية لإرغام الدول الفقيرة على “الاندماج” في السوق العالمية من خلال خفضها للرسوم الجمركية، وخصخصة الشركات المملوكة للدولة، وتخفيف المعايير المرتبطة بالبيئة والعمل، مما أدى إلى تعظيم أرباحها على حساب العمال وقوتهم، مسببة، بذلك، ردود فعل قوية من المجتمعات المدنية.
وتهدف العولمة استراتيجيا؛ الى خلق سوق عالمي، تذلل فيه كل الموانع والحواجز، مما يساعد على تحقيق فكرة “نهاية التاريخ” التي روج لها “فوكوياما” الأميركي الجنسية الياباني الأصل، والتي ترى ان العولمة الاقتصادية نذير لخلع العباءة الوطنية، وإلباس الجميع زيا موحدا.
كما أنها تؤدي ( بوتقة العالم) بجعله قرية صغيرة عابرة للحدود من خلال تقليص ظل الدولة و توسيع عمل الشركات متعددة الجنسيات ، وشبكات الإنتاج والتمويل، حيث يصير بوسع قوى السوق العالمية تمرير أجندتها كسلطة اقتصادية، مما يعني تراجع دور الدول حيث ستتولى مؤسسات جديدة إدارة اقتصاد العالم، وإعادة ترتيب النشاط البشري برمته.
و عرف عالم الأنثروبولوجيا “ديفيد هيلد”، العولمة بأنها : “منظومة التحول في شبكة العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، الذي يحدث بدوره تحولات هيكلية وبنيوية تشمل كل جوانب الحياة”، ويرى ان مظاهر العولمة تتركز في عدة محددات، ومنها: ثورة الاتصالات وتقنية المعلوماتية، والشركات العابرة للقارات، ومنظمة التجارة الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية.
ويرى الصندوق الدولي العولمة الاقتصادية ، بأنها “التعاون الاقتصادي المتنامي لمجموع دول العالم والذي يحتّمه ازدياد حجم التعامل بالسلع والخدمات وتنوعها عبر الحدود بالإضافة لرؤوس الأموال الدولية والانتشار المتسارع للتقنية في أرجاء العالم كله”.
وفيما يعطي البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة الدولية؛ أهمية كبرى للعولمة عاملا أساسا وفاعلا في مكافحة الفقر؛ لأنها ترى أن العولمة والتحرير المالي والتجاري التام وغير المقيد هو الطريقة المثلى للنمو الاقتصادي والقضاء على الفقر، يشكك كثيرين بتلك المقولة التي تلقى رواجاً لدى دول الغرب بشكل خاص؛ لأن توزيع الثروة يتسم بعدم المساواة، فالطبقات الفقيرة في الدول التي شهدت فترات نهضة ونمو اقتصادي، لا تتمتع بكثير من مغانم النمو، في حين أنها تدفع الثمن في فترات التراجع، وليس أدل على ذلك مما تعرضت له الطبقات الفقيرة من مصاعب في الأحداث التي شهدها انهيار النظام المالي العالمي، خاصة في عام 1997م حين نشبت الأزمة المالية في جنوبي آسيا، اذ برزت العولمة بانها شكل جديد من أشكال الاستعمار، وفرض التبعية الاقتصادية على دول العالم الثالث من خلال تكريس الفقر وعدم المساواة.
ومن ابرز سمات العولمة الاقتصادية: تفعيل الحرية الاقتصادية، وتدفق المعلومات، وإزالة العوائق أمام حركة التجارة السلعية والخدمية والاستثمارات الخارجية، والاتجاه نحو إقامة التكتلات الاقتصادية الدولية في ظل سوق تنافسية عالمية واسعة.
وقد خلق هذا الواقع تحدياً أمام دول العالم كافة، خاصة النامية منها؛ فبدأت بانتهاج سياسات جديدة للتنمية الاقتصادية، واعتماد آليات السوق، وتدعيم هياكل الميزانيات الحكومية، وتحسين القدرة على اجتذاب التمويل الداخلي والتمويل الخارجي، ودعم وإصلاح الإدارة الاقتصادية والنظم القانونية، والتوجه نحو خصخصة المؤسسات العامة.
ومن المؤكد أن عالم اليوم يمر بمتغيرات عدة في مختلف النواحي الاقتصادية والسياسية والثقافية، و ينتقل من عصر الرأسمالية التقليدية إلى عصر العولمة المتميز بالأسواق المفتوحة والتدفق الحر للموارد.
وهذه المتغيرات الدولية التي تواكب عولمة الاقتصاد لها انعكاساتها على الدول النامية بصفة عامة، وعلى الدول العربية بصفة خاصة؛ نتيجة للتطور الواضح في السياسات الاقتصادية والتجارية للدول النامية المتميزة بالاتجاه نحو تطوير الكفاءات الاقتصادية لديها من خلال تحرير أسواقها الوطنية وفتحها للتجارة والاستثمارات العالمية، وارتفع عدد الدول التي أزالت القيود أمام التبادل التجاري من 35 دولة إلى 135 دولة خلال الفترة 1970 – 1998م، كما انخفضت التعريفات الجمركية في العالم إثر إنشاء منظمة التجارة العالمية من 6٫3 ٪ إلى 3٫8 ٪ في الدول الصناعية، ومن 15٫3 ٪ إلى 12٫3 ٪ في الدول النامية.
إن التطورات التي حدثت في الصناعات الثلاث الكبرى: الحاسب الآلي، والاتصالات، وتكنولوجيا المعلومات؛ أحدثت ثورة جديدة ساعدت على ربط العالم والتقريب بين الأسواق فيه وتحريرها إلى زيادة الرفاهية العالمية؛ فزاد الإنتاج العالمي بنحو عشرة أضعاف من 3 تريليونات دولار إلى 30 تريليون دولار خلال السنوات الماضية، إضافة إلى تضاعف متوسط دخل الفرد في الكرة الأرضية مرتين ونصف المرة تقريباً، إلا أن توزيع هذه الرفاهية لم يكن متساوياً بين مناطق العالم ودوله، فالدول المتقدمة حققت نجاحات تفوق الدول النامية، مما أدى ذلك إلى زيادة الفوارق بين أكثر الدول تقدماً وأقلها نمواً.
وافرزت العولمة بعض المشاكل، ومنها: تصاعد البطالة وضياع فرص العمل ، وازدياد حدة المنافسة، وتكثيف استخدام التكنولوجيا الجديدة، وخاصة ان طرق الإنتاج الجديدة، والسلع المتطورة، وأشكال التنظيم الصناعي الحديثة؛ ستؤدي إلى الاقتصاد في الوظائف.
وستعمل العولمة من خلال سياسات الانفتاح الاقتصادي، وتطور تقنيات المعلوماتية، والتقدم في مجال تكنولوجيا الاتصال؛ على تنامي ظاهرة الفقر؛ لأنه مثلما سبق أن أوضحنا قد ترتب على النهضة الصناعية التي تشهدها الدول المتقدمة أن ازدادت الفوارق بينها وبين الدول الأقل نهضة، نتيجة للازدياد الهائل في حجم التدفقات المالية عبر الحدود وتحريك رؤوس الأموال بين الدول وهجرتها إلى الدول المتقدمة.
والخطورة الواضحة في فكرة العولمة إزاء الفكر العربي أنها تتمركز حول الغرب وحضارته، حيث أفادت تجارب الماضي في العلاقات الغربية – الشرقية بأن نزعة التمركز حول الذات هي التي تشكل العقلية الغربية، كما أن الماضي يشير أيضاً إلى تاريخ مُحبط للحضارة الغربية تجاه تاريخ الشرق وحضارته، ويشير مفهوم العولمة إلى أن الغرب لا يزال يسير على المنهج “التدميري” للثقافات الأخرى وأنه لم يغير من أنماط سلوكه تجاه الشعوب الشرقية، وقد ظهرت في الغرب دعوات واضحة إلى تدمير الثقافة العالمية، وتنصيب الحضارة الغربية حضارة واحدة ووحيدة للعالم، وهذه الدعوات على اختلاف أشكالها واتجاهاتها تثير مخاوف الفكر العربي من العولمة، وما ارتبط بها من دعوات لا تصلح لإقامة علاقة متكافئة بين الغرب والشرق، وذلك بالانتصار للحضارة الغربية على الحضارات الأخرى، وبالقضاء على الثقافات الوطنية والإقليمية والتبعية العامة للنموذج الغربي ثقافياً واقتصادياً.
والعالم العربي يقف محتارا امام العولمة، فهي شأن عالمي يؤدي إلى ربط البلاد بنظام عالمي موحد، وهذا الربط إن لم تتوافر له المؤهلات اللازمة يمكن أن يصبح مجرد تبعية مطلقة للنظام الغربي المسيطر على العولمة والمحرك للنظام العالمي الجديد. والحقيقة أن معظم الأقطار العربية لا تملك مؤهلات الدخول إلى عالم العولمة، ولأنها مضطرة اضطراراً لدخوله فهي معرضة لفقدان حريتها الاقتصادية بحيث تصبح دولا تابعة اقتصادياً للدول العظمى، وغير قادرة على الانتفاع بالنظام العالمي الجديد على قدم المساواة مع الدول الغربية؛ لأن العولمة ليست إلا غزواً اقتصادياً للعالم يقوده الغرب بزعامة أمريكية خالصة، تقصد من ورائها انتصار النمط الأمريكي للسيطرة على وسائل الإنتاج، والعمل على اندماج الآخر في هذا النمط الاقتصادي الغربي الأمريكي، وهي احتواء للعالم على المستوى الاقتصادي يؤدي إلى احتوائه ثقافياً.
وهنا نتسأل كيف يمكن أن تواجه الدول العربية الآثار السلبية المترتبة على العولمة؟
يتطلب ذلك تطويراً جوهرياً للنظام العربي الراهن يقوم على التزام حقيقي غير زائف من قبل الدول العربية لبلورة أسس جديدة تبنى على التكافل والتعاون فيما بينها لتحقيق المصلحة المشتركة، والسعي الحثيث للتغلب على مصالحها الآنية لمصلحة الوطن العربي كله، وأثبتت التجارب مرات عدة أنه ليس من الصعب جداً أن تقوم أغلبية الدول بالتوافق على جهد مشترك، وأن تعمل معاً، وأن توفر التمويل اللازم للتغلب على خطر ما.
مما يجعلها أكثر تحدياً ومواكبة للتطورات العالمية التي تفرضها العولمة، و أكثر أماناً ورفاهية وأقل عوزاً وعنفاً، ويؤسس به أرضية صلبة لنظام يوازن بين مصالح الجميع، ويضمن الاستقرار الاقتصادي والسياسي في جميع دوله الغنية والفقيرة على حد سواء، فلا بد من أن تتبنّى المجموعة العربية نهجاً جديداً مبنياً على إدارة أفضل لمواجهة العولمة، يهدف إلى مكافحة الفقر، وعدم المساواة، والبطالة.
كما يجب عليهم فتح حوار بين الحضارة العربية والحضارات الأخرى، وبصفة خاصة الحضارة الأوروبية العلمية والتكنولوجية، وهذا الحوار مع الحفاظ على الخصوصيات الثقافية للحضارة العربية، وليس لتكريس التبعية الاقتصادية والتقنية للعالم الغربي المتقدم، والانفتاح على ميادين العلم والتكنولوجيا الحديثة لتحقيق تنمية بشرية متكاملة، وفي الوقت نفسه نحافظ على الإقليمية والمحلية والخصوصية العربية، دون الانغلاق ؛ فالعولمة من خلال السياسات الليبرالية الحديثة التي تعتمد عليها، إنما ترسم لنا صورة المستقبل بالعودة إلى الماضي السحيق المتوحش للرأسمالية، فالزعم بأن العولمة أدت إلى انصهار مختلف الاقتصاديات الوطنية والإقليمية في اقتصاد عالمي موحد بعد أن صار العالم سوقاً واحدة؛ قول غير صحيح تماماً؛ لأن الاقتصاديات الوطنية والإقليمية سيكون لها دورها الكبير في مواجهة التزايد المطرد في الحرية الاقتصادية، وإزالة العوائق أمام حركة التجارة السلعية والخدمية والاستثمارات الخارجية في ظل سوق تنافسية عالمية واسعة.
الوحدة الاقتصادية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية