سجلت دول عربية ارتفاعا كبيرا في أسعار السلع والخدمات في الآونة الأخيرة، فقد بلغ معدل التضخم 6% في تونسو30% في مصر و 35% في السودان، الأمر الذي أفضى إلى تدهور مستوى المعيشة.
وجاء هذا الارتفاع نتيجة قرارات رسمية مدعومة من قبل صندوق النقد الدولي تتعلق بهبوط سعر صرف العملة الوطنية وارتفاع العبء الضريبي وتقليص حجم الدعم الحكومي.
هبوط سعر الصرف
تلعب القيمة التعادلية للعملة الوطنية دورا بارزا في تحديد أسعار السلع والخدمات في الدول العربية. فكلما هبطت قيمتها مقابل العملات الرئيسة زاد التضخم، إذ يتعين على المستورد -وبالتالي على المستهلك- دفع مبالغ أكبر لشراء السلع المستوردة.
وتقدم مصر وتونس نموذجا للعلاقة الوطيدة بين سعر الصرف والتضخم. فقد كان الدولار يعادل 5.5 جنيهات في عام 2009 ليصبح 7.6 جنيهات في عام 2015 ويصل إلى 17.7 جنيها في منتصف يناير/كانون الثاني 2018. وانخفضت العملة المصرية خلال هذه الفترة بنسبة 219%.
وفي تونس انتقل سعر صرف الدولار من 1.3 دينار في بداية هذه الفترة إلى 2.4 دينار في نهايتها، أي تراجعت قيمة الدينار بنسبة 82%.
لكن تأثير قيمة العملة المحلية على التضخم يعتمد أيضا على أهمية الواردات في الاقتصاد، فكلما زادت هذه الأهمية مقترنة بهبوط القيمة التعادلية، تفاقم معدل التضخم.
في مصر تلعب الواردات دورا بارزا حيث تمثل 17.8% من الناتج المحلي الإجمالي، وبالتالي فإن أي هبوط في سعر صرف الجنيه ينعكس مباشرة على أسعار استهلاك قسط لا يستهان به من السلع والخدمات.
وفي تونس تمثل الواردات 9.4% من الناتج المحلي الإجمالي، وبالتالي فإن التضخم في تونس -وهو مرتفع- أضعف بكثير من التضخم في مصر.
”
جاء ارتفاع الأسعار في البلدان العربية نتيجة قرارات رسمية مدعومة من قبل صندوق النقد الدولي، تتعلق بهبوط سعر صرف العملة الوطنية وارتفاع العبء الضريبي وتقليص حجم الدعم الحكومي
”
كما يظهر تأثير أسعار الصرف على التضخم بصورة واضحة وخطيرة في السودان الذي يستورد أربعة أخماس حاجاته من القمح، ويدفع مقابل ذلك حوالي ملياري دولار في السنة. في حين لا يملك البنك المركزي أكثر من مليار دولار، لهذا السبب تم تخفيض القيمة التعادلية للجنيه.
فقد كان سعر صرف “الدولار الجمركي” 6.7 جنيهات في العام المنصرم فأصبح 18 جنيها في مطلع العام الجاري. كما قررت الحكومة تقليص الدعم الموجه للكهرباء والمنتجات النفطية، فانعكس الأمر على كلفة صناعة الخبز الذي ارتفع سعره أربعة أضعاف في فترة قصيرة جدا. وهذا لا يطاق في بلد فقير كالسودان، ويفسر الاحتجاجات الشعبية.
ولمعالجة هذا الوضع أقدمت تونس والسودان ومصر على تعديل أسعار الفائدة. ففي مصر شهدت الأشهر القليلة المنصرمة ارتفاعا لهذه الأسعار قدره مئتا نقطة (نقطتان مئويتان)، حيث بلغت الأسعار 19%.
ويفترض أن يقود هذا الإجراء إلى زيادة تحويلات العمال المقيمين بالخارج والاستثمارات الأجنبية والودائع المصرفية. عندئذ يتحسن الاحتياطي النقدي فيرتفع سعر صرف الجنيه ويهبط عندئذ التضخم.
ولكن لارتفاع أسعار الفائدة وجه آخر، تمثل بزيادة فوائد الديون بمبلغ أربعين مليار جنيه وهو ما أسهم في تدهور الوضع المالي المتردي أساسا. أضف إلى ذلك أن سعر الفائدة رغم ارتفاعه لن يشجع على زيادة التحويلات والاستثمارات والادخار، لأن نسبة التضخم بلغت 30% أي أعلى بكثير من سعر الفائدة.
لهذا السبب لن يقود هذا الإجراء إلى امتصاص السيولة من السوق، فهذا التأثير الذي تستهدفه الحكومة لا يتحقق إلا إذا كانت أسعار الفائدة الفعلية إيجابية، أي أن تحدد أسعار الفائدة الاسمية بنسبة تفوق معدل التضخم، وما يحدث هو العكس تماما.
أسعار السلع والخدمات ارتفعت في السودان 35% (رويترز-أرشيف)
الضريبة على القيمة المضافة
الضريبة على القيمة المضافة معروفة في المغرب والجزائر وتونس وموريتانيا ومصر والسودان والسعودية والإماراتولبنان، وتفرض على السلع والخدمات المنتجة محليا، وتخضع لها الواردات كذلك إضافة إلى الرسوم الجمركية.
ويتضح دورها الفاعل في التضخم من خلال مكانتها المالية في ميزانيات هذه الدول.
ففي تونس، قدرت حصيلتها بمبلغ 7140 مليون دينار في العام الحالي، أي 19.9% من إيرادات الدولة. وفي العام المنصرم كان السعر العام للضريبة التونسية 18%، ويطبق على جميع أنواع السلع والخدمات باستثناء تلك التي يحددها القانون لتخضع لسعر آخر منخفض: 6% على بعض الأنشطة كالخدمات الصحية والنقل والصناعات التقليدية، و12% على ميادين أخرى كالطاقة الكهربائية والخدمات الهندسية.
ونلاحظ أن السعر العام مرتفع ويعادل تقريبا نظيره الفرنسي والبريطاني، وهو أعلى بكثير من السعر في كندا والصينواليابان وأستراليا. أما السعران الآخران فهما أعلى من الأسعار المنخفضة في جميع هذه الدول.
وفي مطلع العام الجاري، قررت الدولة رفع السعر العام إلى 18%. كما ارتفع السعران الآخران إلى 7% و13%، وقدرت الزيادة في الإيرادات جراء هذا التعديل بمبلغ 313 مليون دينار.
أضف إلى ذلك أن تونس اتخذت في العام نفسه إجراءات ضريبية أخرى كرفع الضريبة على خدمات الهاتف وإنشاء ضريبة الإقامة وزيادة الضريبة على التأمين. وأدى هذا الوضع إلى ارتفاع الأسعار وما صاحبه من استياء شعبي واسع لنطاق.
وإلى جانب الضريبة على القيمة المضافة، هناك ضرائب أخرى تفرضها البلدان العربية على الاستهلاك وتقود إلى ارتفاع الأسعار. في مقدمة ذلك الرسوم الجمركية على السلع المستوردة، والضرائب النوعية التي تسري على بعض أنواع السلع كالمواد المضرة بالصحة (الضريبة الانتقائية في السعودية والبحرين والإمارات).
احتجاجات شعبية في تونس تطالب بفرص العمل وخفض أسعار السلع والخدمات (الجزيرة)
تقليص الدعم
لجأت بعض الدول العربية إلى تخفيض قيمة العملة وبعضها الآخر إلى زيادة العبء الضريبي، لكنها قامت جميعها بتقليص الدعم الحكومي الموجه لتعضيد أسعار السلع والخدمات.
ولا فرق في ذلك بين دولة غنية وأخرى فقيرة، وبين دولة منتجة وأخرى مستوردة للنفط. الفرق الوحيد في حجم التقليص وفي طبيعة السلع والخدمات المشمولة. هذا الوضع ساهم مساهمة فاعلة في التضخم وتردي مستوى معيشة عشرات الملايين من البشر.
ويعود تقليص الدعم إلى ثلاثة أسباب أساسية:
السبب الأول العجز المالي: يحتل الإنفاق العسكري والأمني في جميع الدول العربية المرتبة الأولى في المصروفات العامة. وبسبب تأزم الوضع السياسي يصعب الحد من هذا الإنفاق. وبالنظر إلى تراكم الديون الداخلية والخارجية وما يترتب عليها من هبوط التصنيف الائتماني، لم تجد السلطات المالية بدا من الضغط على نفقاتها غير العسكرية خاصة الدعم الحكومي.
السبب الثاني تحرير التجارة الخارجية: يعد الدعم الموجه للصناعات المحلية -كتوريد الوقود بأسعار زهيدة- صورة من صور المنافسة التجارية غير المشروعة التي تدينها بشدة الاتفاقات المتعددة الأطراف لمنظمة التجارة العالمية. ويتعين إذن إلغاء هذه المساعدات أو تقديم التعويضات للدول المتضررة منها. وبطبيعة الحال التزمت البلدان العربية الأعضاء في المنظمة بهذا التنظيم.
”
يظهر تأثير أسعار الصرف على التضخم بصورة واضحة وخطيرة في السودان الذي يستورد أربعة أخماس حاجاته من القمح، ويدفع مقابل ذلك حوالي ملياري دولار في السنة
”
وفي هذا السياق لا يوجد اتفاق عقدته دولة عربية مع الاتحاد الأوروبي بشأن إقامة منطقة تجارة حرة، إلا وركز على ضرورة حذف الدعم.
السبب الثالث شروط صندوق النقد الدولي: تتضمن جميع برامج الإصلاح الهيكلي المبرمة بين بعض الدول العربية والصندوق وكذلك مشاوراته معها في إطار المادة الرابعة، وترتبط فقرة أساسية منها بضرورة تقليص ثم إلغاء الدعم.
بمعنى أن الحصول على قروض جديدة وكذلك إعادة جدولة الديون القديمة وتقديم المساعدات الفنية، امتيازات مرهونة بحذف التشوهات الاقتصادية بحسب توصيف الصندوق، أي حذف الدعم.
وهكذا التزمت مصر -على سبيل المثال- بإلغاء الدعم الموجه للمواد النفطية بصورة كاملة اعتبارا من يونيو/حزيران من العام المقبل. وهذا أمر خطير في الظروف الحالية المتسمة بارتفاع أسعار الخام وتدهور سعر صرف الجنيه.
كما قلصت الحكومة العراقية مخصصات البطاقة التموينية من 4916 مليار دينار في عام 2013 إلى 1500 مليار دينار في العام الحالي، علما بأن عدد المعوزين العراقيين تضاعف عدة مرات خلال هذه الفترة بسبب الحرب الأهلية المدمرة والمستمرة.
وهكذا أصبح الاستهلاك في العراق يعتمد على أسعار السوق، ولا يقتصر على المواد الغذائية لهذه البطاقة بل شمل أيضا الوقود والكهرباء والماء والأدوية. وارتفعت الأسعار فتراجع مستوى المعيشة.
ارتفعت إذن أسعار السلع والخدمات الرئيسية في الدول العربية ارتفاعا كبيرا خلال فترة قصيرة، كما أن الإجراءات التي أدت إلى هذا الارتفاع -سواء كانت نقدية أم ضريبية أم مالية- ترتكز على قرارات حكومية، الأمر الذي يفسر توسع الاحتجاجات الشعبية ضدها والتي اتخذت في أغلب الأحيان بعدا سياسيا.
صباح نعوش
الجزيرة