قبل الإجابة عن هذا السؤال، يجب أن نسأل: ما هو “داعش”؟ هل يستطيع الجمهور التغلب على فقدان الذاكرة المزمن لديه ويعود بعقله وراء ليتذكر الظهور المفاجئ لـ”داعش” وأعضائه الذين يرتدون أزياء رسمية سوداء بماركة جديدة وينتعلون أحذية “نايك” بيضاء ويقودون شاحنات تويوتا؟ لقد بدوا وأنهم يأتون من المجهول في العام 2014. وبدا “داعش” وكأنه سراب عندما ظهر، أو بدا أكثر تقمصاً وشبهاً بمشهد مسرحي لوكالة المخابرات المركزية الأميركية (السي أي أيه) من هوليوود.
ما إن ظهر “داعش” حتى أعمل سيفه في مسلسل قطع الرؤوس، وهو ما أثار اشمئزاز الشعب الأميركي وأرعبه. وقد قرع المسؤولون في واشنطن، ومن بينهم وزير الخارجية، جون كيري، جرس الإنذار من أن هذا القطيع من المجانين الإسلامويين يريدون غزو الولايات المتحدة و”قتلنا جميعاً”. وقد ابتلع إعلام الاتجاه السائد المطواع نسخة واشنطن وتقيأها ليرعب الجمهور الأميركي. وأعطى الجمهور موافقته الصامتة على المزيد من الحرب التي تستهدف بشار الأسد في واقع الأمر.
السؤال التالي هو، من الذي صنع “داعش”؟ وفق أخبار هيئة الإذاعة البريطانية (البي. بي. سي.)، فإنه يمكن تعقب جذور التنظيم “إلى الراحل أبو مصعب الزرقاوي، الأردني. في العام 2004. فبعد عام من عملية غزو العراق بقيادة أميركية، أعلن الزرقاوي ولاءه لأسامة بن لادن وشكَّل تنظيم القاعدة في العراق”. وهكذا، لم يكن تنظيم القاعدة في العراق موجوداً إلا بعد الغزو الأميركي الذي قامت به إدارة بوش-تشيني.
وكان الغزو الأميركي للعراق مستنداً إلى أكاذيب صرفة وافتراءات محضة عن دعم صدام حسين لتنظيم القاعدة، والزعم بأنه كان متورطاً في هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 على الولايات المتحدة، وبأنه كان يمتلك أسلحة للدمار الشامل. وكان نشوء تنظيم القاعدة في العراق ضربة ارتدادية يمكن توقعها، ومقاومة للغزو الأميركي غير المشروع للعراق. وكانت لدى بوش، الذي اعترف بأنه يختلق واقعه الخاص، هلوسات عن شعب عراقي مليء بالامتنان، والذي تم قصفه تواً لإعادته إلى العصر الحجري بعملية الصدمة والرعب، والذي يرمي القبلات وينثر الورود على القوات الأميركية الاستكشافية باعتبار أنها قوات تحرير.
ثم جاءت زيادة عديد القوات الأميركية في العام 2007، عندما تحالفت الولايات المتحدة مع العراقيين السُنة من أجل هزيمة بقايا حزب البعث العراقي الذي كان حزباً قومياً عربياً -لا سُنياً ولا شيعياً. وتعود الرعاية القاتمة للإسلام المتطرف والاصطفاف معه وراء إلى “اللعبة الكبيرة” البريطانية في أوائل القرن العشرين. وكانت تقوم على التعامل المزدوج مع كل من السنة والشيعة لاستئصال الإمبراطورية العثمانية، ولتأليب السنة على الشيعة لتقسيم واحتلال جنوب غرب آسيا. إنها قصة لورنس العرب وونستون تشرشل والحرب العالمية الأولى.
يستطيع المرء بعدئذٍ التقاط قصة ما بعد الحرب العالمية الثانية، عندما كانت الولايات المتحدة تعارض القومية العربية المعادية للاستعمار والشيوعية خلال حقبة الحرب الباردة. وكان استراتيجي “رقعة الشطرنج الكبيرة”، زبغنيو بريجنسكي، هو الذي أقنع جيمي كارتر في ثمانينيات القرن العشرين بدعم المرتزقة من المجاهدين الإسلاميين المتطرفين وتدمير أفغانستان من أجل الاتحاد السوفياتي إلى مصيدة على غرار فيتنام. وكان بريجنسكي فخوراً جداً بنجاحه إلى أنه تساءل في وقت لاحق بطريقته الشائنة: أيهما أهم “بعض المسلمين المستثارين” أم كسب الحرب الباردة.
لو كان بريجنسكي ذكياً جداً، لكان قد تعلم من غيرترود بيل، الجاسوسة البريطانية البارعة في جنوب شرق آسيا في أوائل القرن العشرين. وكما قالت في وقت لاحق، فقد أفضى تشجيع ورعاية الإمبراطورية البريطانية للإسلام المتطرف إلى نتائج عكسية سيئة وفشل ذريع. لكن الولايات المتحدة لا تعرف التاريخ، حتى تاريخها الخاص من التخبط المتكرر المتمثل في تشجيع ورعاية الإسلام المتطرف ضد القومية العربية المعادية للكولنيالية.
وهكذا، وبدلاً عن ذلك، جندت الولايات المتحدة أكثر النظم اليمينية تطرفاً في تاريخ العالم، لتمويل السنة ضد القومية العربية. وقد مول هؤلاء بسعادة المشاريع الأميركية لتغيير النظام ضد الدول العربية العلمانية. ومضت الولايات المتحدة المكتنزة بالمال من العرب المتطرفين قدماً في تشجيع وتدريب المرتزقة ودفع رواتبهم للإطاحة بالنظام في سورية. ولم يكن النظام هناك يشارك الدور الأميركي بوصفها الزعيم العالمية للعولمة الرأسمالية. وقد استخدم ثروة البلد بما يعود بالنفع على مواطنيه، تماماً مثل صدام حسين ومعمر القذافي. وهتف أوباما وكلينتون وكيري والعرب اليمينيون بضرورة إسقاط النظام. ولم تعبأ الولايات المتحدة بعدد السوريين أو الليبيين أو العراقيين الذين قتلوا. وكما كانت (وزيرة الخارجية الأميركية السابقة) مادلين أولبرايت قد قالت في وقت سابق: “الأمر يستحق 500.000 طفل عراقي قتيل”.
كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها في المنطقة هم الذين صنعوا “داعش”. وتم تجنيد مرتزقة من جميع أنحاء العالم الإسلامي، بل ودعمهم بالقوة الجوية الأميركية. ومنح إعلام الاتجاه السائد الولايات المتحدة قصة الغلاف، باعتبار أنها تدعم “إسلاميين معتدلين تم تدقيق ملفاتهم (ديمقراطيين جيفرسونيين فعلياً). وكان الإعلام السائد متواطئاً جنائياً في نشر دعاية الحرب، وكانت صحيفة الغارديان البريطانية واحدة من المشاكسين، مع استثناءات قليلة نادرة مثل تغطية “تريفور تيم”.
والآن، مع قدوم السنة الجديدة، 2018، نستطيع توقع أن تمتدح الولايات المتحدة نفسها وترتب على أكتافها اعتداداً بهزيمة “داعش” في السنة الماضية، 2017. لكن القصة الحقيقية هي أن الأسد وروسيا وحزب الله وإيران هم الذين ألحقوا الهزيمة بمجموعة “داعش” (حتى الآن). وبالنسبة لأولئك الذين يعانون من فقدان الذاكرة، فإنهم قد يتذكرون عندما أفرجت روسيا عن أشرطة فيديو عن قوافل لا نهاية لها من شاحنات نفط “داعش” الذي يباع في السوق السوداء وهي تتجه نحو تركيا. وكان “داعش” يمول نفسه، جزئياً، من خلال النفط المسروق، بينما يثري مسوقو السوق السوداء لرجب طيب أردوغان.
لم تستطع الولايات المتحدة، بكل ما تتوافر علية من تكنولوجيا وآلاف مهمات القصف في سورية، أن تشاهد أبداً، ويا للعجب، كل تلك الشاحنات. كما أنهم لم يجدوا مقاتلي “داعش”، ولذلك قصفوا بدلهم عنهم الجيش السوري. لقد شاهدت الولايات المتحدة ما أرادت مشاهدته وما أرادت أن تقصفه فقط. ولم يكن “داعش”. وهناك أشرطة الفيديو التي تُظهر قيام الطائرات الحربية الروسية وهي تدمر شاحنات نفط “داعش”.
تعترف بعض وسائل إعلام الاتجاه السائد على مضض بأن لروسيا يداً في تقهقر “داعش”. وحتى مع ذلك، يقلل إعلام الاتجاه السائد من قدر الإسهام الروسي ويصوره على أنه ثانوي وليس رئيسياً. وبدلاً من ذلك، يسند إعلام الاتجاه السائد الفضل لـ”الولايات المتحدة والدول الـ67 الأخرى من حول العالم”. كانت الولايات المتحدة، كما يقول هذا الإعلام، هي التي “دربت ودعمت ووفرت الدعم الجوي” لأولئك الأولاد من الثوار السوريين الخيّرين المحليين، المعتدلين والديمقراطيين الأسطوريين، وأن الولايات المتحدة كانت تدعم الذين هزموا “داعش”. مدينة بعد مدينة، وقرية بعد قرية دمرها “داعش”، والقصف الأميركي وقوة أميركية غير مرئية من الثوار المعتدلين التي خلفت مئات الآلاف من الإصابات واللاجئين السوريين.
ووفقاً لإعلام الاتجاه السائد، تدخل الروس في وقت متأخر “لتوفير الدعم الجوي للحكومة السورية” ودعم نظام الرئيس بشار الأسد ضد الثوار الذين يهددون حكمه، وإنما استهدفوا أيضاً بعض أراضي داعش”. ولم يذكر هذا الإعلام أن حكومة سورية شرعية هي التي “دعت” بشكل قانوني وشرعي روسيا للتدخل، بينما ترتكب الولايات المتحدة وائتلافها جريمة حرب عدوانية ضد بلد زميل عضو في الأمم المتحدة.
والآن، نسمع أن عاماً واحداً من حكم ترامب استطاع إنجاز ما عجزت ثمانية أعوام من حكم باراك عن إنجازه. ونحن بصدد الاستماع إلى المزيد عن كيفية “تحول ‘داعش’ من اجتذاب آلاف المقاتلين الأجانب لقضيته المعادية للغرب والتآمر لشن هجمات إرهابية كارثية في كل أنحاء العالم، إلى الاستسلام بصورة جماعية”. وكانت حملة القصف تحت القيادة الأميركية والقوات المدعومة والمدربة أميركياً” هي التي ألحقت الهزيمة بـ”داعش”، كما يُفترَض.
نعم، بعد ستة أعوام وأكثر، استطاعت أكبر قوة عسكرية في العالم، والتي تتوافر على معظم الأسلحة المتطورة التي تم اختراعها حتى الآن، التي تصل ميزانيتها إلى تريليون دولار، أن تلحق الهزيمة بمقاتلين شبه عسكريين مرتزقة مجمعين من هنا وهناك، عددهم نحو 30.000.
يبدو أن كل القصة عن الحرب الأميركية على الإرهاب هي مجرد حكاية سخيفة وغير معقولة ولا تصدق، والتي كانت واشنطن ومن يكررون روايتها في إعلام الاتجاه السائد يغذون بها الشعب الأميركي منذ 11/9. شيء مقزز.