دشنت نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة بداية عهد بوتيني سادس في روسيا. ثلاثة من العهود الخمسة الماضية قضتها روسيا وفلاديمير بوتين رئيساً لجمهوريتها وعهدان منها احتل فيهما منصب رئيس الوزراء. لا شك عندي أو عند كثيرين من متابعي التطور السياسي لروسيا منذ نهاية الحرب الباردة في أن الرئيس بوتين هيمن هيمنة مباشرة على إدارة السياسة الخارجية الروسية خلال العهود الخمسة وسيكون المهيمن عليها في العهد السادس الذي ينتهي في منتصف عام 2024. كذلك لن أتردد في هذه الآونة المضطربة في وضعنا الإقليمي والوضع الدولي، ولمناسبة تدشين عهد بوتيني جديد، أن أعلن توقعي أننا سنشهد تصعيداً في المواجهة المحتدمة حالياً بين روسيا والغرب بعامة. أتوقع في الوقت نفسه زيادة في شعبية وانتشار نموذج وفلسفة نظام بوتين في حكم روسيا في أنحاء أكثر من العالم. أتوقع أيضاً مشاهد غير مألوفة في العلاقات بين الصين في العهد الثاني للرئيس شي وروسيا في عهدها البوتيني الجديد وأميركا في عهد أو عهدي الرئيس دونالد ترامب. أتصور في الوقت نفسه أن سباقاً حامي الوطيس على مناطق نفوذ ونشاط اقتصادي وممرات مائية سينشب في إفريقيا بخاصة وكذلك في آسيا وأميركا اللاتينية، وهو السباق الذي ستحدد نتيجته الشكل الأولي لنظام دولي متعدد الأقطاب والمراتب. هذا الأخير بدأ فعلاً.
بوتين لا يبدأ من فراغ. رأيناه في بداية عهده الأول يجرب الاقتراب من الغرب، وبكلمات أكثر دقة، جرب الاستمرار في السياسة الخارجية التي سار عليها عهد ما بعد سقوط الشيوعية. ننحّي النية جانباً لنعترف بأن هذه المحاولات الروسية المبكرة قوبلت من الغرب باستهانة بالغة واستعلاء منفّر. نقدّر بأن الغرب أخطأ حين أراد أن يفرض على روسيا غير الشيوعية مكانة دنيا في المجتمع الغربي وموقعاً في الصف الثاني للدول الأعضاء في حلف الناتو. أراد أن يتعامل معها كما تتعامل الدول المنتصرة مع الدول المنهزمة. نقدر أيضاً بأن الغرب أخطأ مرة ثانية عندما تجاهل مشاعر جماعة الحكم الجديدة في الكرملين والمؤسسة العسكرية الروسية والكنيسة الأرثوذكسية وراح يتمدد بحلف الأطلسي في دول شرق أوروبا حتى صارت أعلام الحلف تطل مباشرة على حدود روسيا. نعترف ثالثاً بأنه أخطأ حين اندفع بطاقة إعلامية وديبلوماسية هائلة ليدعم الثورات الملونة التي نشبت في بعض دول أوروبا الشرقية. وقتها شعر حكام روسيا وعلى رأسهم فلاديمير بوتين بأن الغرب يعد نفسه لفرض حصار على روسيا شبيه بالحصار الذي فرضه من قبل على الاتحاد السوفياتي.
ربما لو سلك الغرب، والولايات المتحدة بخاصة، سلوكاً مختلفاً مع روسيا في ذلك الحين ولم يرتكب هذه الأخطاء الجسام لكان ممكناً أن يضع فلاديمير بوتين سياسة خارجية غير تلك التي انتهجها حتى الآن. ومع ذلك يرفض خبراء في شؤون الكرملين اتهام الغرب بارتكاب أخطاء مع روسيا. يقولون إن بوتين في الأحوال كافة؛ ما كان يقدر على انتهاج سياسة مختلفة إن هو أراد لنفسه شعبية ولروسيا مكانة تستحقها تاريخياً وجيوإستراتيجياً، وإن هو لم يتجاهل ضغوطاً داخلية تزداد قوة بمرور الوقت واستمرار تصاعد الغطرسة الغربية.
بوتين، رجل روسيا القوي، هو الذي يصنع السياسة الخارجية الروسية، بمعنى أنه هو الذي يقرر لمن يستمع في جهاز الكرملين من المحيطين به. ولكنه أيضاً يقرأ تقارير أجهزة الاستخبارات ويحترمها باعتبار فضلها على تكوينه السياسي والوطني ولكونها سنده الأهم. وفي رأي بعض المطلعين على بعض خفايا الكرملين تعتبر الاستخبارات الروسية بأفرعها كافة جماعة الضغط الأقوى تأثيراً في صنع السياسة الخارجية في روسيا. يليها على الأرجح مجمع صناعة السلاح. ليس خافياً على أحد أن الرئيس بوتين قرر مبكراً جداً الدخول في سباق تسلح مع الولايات المتحدة فور استعادة الجيش الروسي قوته وعافيته ومكانته. في ظني أن بوتين تدخل في أوكرانيا وجورجيا ثم في سورية؛ مستجيباً لضغط من قادة المؤسسة العسكرية ولحاجته الماسة إلى رفع معنويات جيشه وتدريبه على قتال في أرض أجنبية وتجربة كل سلاح جديد تنتجه بلاده. يصعب تصور بوتين يتخذ قراراً بالاستيلاء على شبه جزيرة القرم والتدخل في سورية من دون ضغط من العسكريين الذين يريدون تأمين ميناء سيفاستيبول وأسطول البحر الأسود، وفي الوقت نفسه تأمين التسهيلات الروسية في ميناء طرطوس على الساحل السوري القريب من مضيق البوسفور. بالإضافة إلى وكالات الاستخبارات والأمن الداخلي وصناعة الارتزاق العسكري المزدهرة والمؤسسة العسكرية الرسمية والمصالح المالية والتكنولوجية المرتبطة بصناعة السلاح؛ يلعب الشعب الروسي دوراً غير مألوف عادة في معظم الدول الغربية. الروس شعب مسيس وعالي الحس الوطني، وبخاصة بعد أن عاد يمتزج لديه الإحساسان، الديني والوطني. كان واضحاً الدور الذي لعبه هذا المزيج أثناء حروب البلقان والأثر الذي خلّفه في مسيرة العلاقات بين روسيا ودول الناتو في مرحلة لاحقة. كان بوتين، ولايزال، واعياً لأهمية مراعاة المشاعر القومية للشعب الروسي. حول هذا الشأن يعتقد باحثون غربيون وروس أن وراء شعبية الرئيس بوتين الجارفة رضا غالبية شعب روسيا عن جهوده لتستعيد بلادهم مكانتها بين الأمم العظمى.
يبقى عنصر كان يضغط طويلاً في عهود سابقة وسيظل يضغط طالما استمر اعتماد روسيا على مداخيل النفط والغاز لتسيير الحياة الاقتصادية. لا شيء يجعل الرئيس الروسي يغير اتجاهاً في سياسته الخارجية إلا أن ظهرت مؤشرات على قرب وقوع أزمة اقتصادية أو نقص في المواد الضرورية. مرة أخرى تظهر أهمية العلاقة التي تربط بين بوتين ونسبة كبيرة من شعب روسيا. لا ننسى أيضاً أنه في نظر الشعب الروسي كان الزعيم الذي حارب الإرهاب في الشيشان وداغستان حتى قضى عليه وحقق درجة لا بأس بها من الأمن الداخلي، وطمأن شعوب روسيا إلى أن لا خوف يمكن توقعه من عدو خارجي بفضل سياسته الخارجية مع دول الجوار، وبخاصة الجوار الآسيوي.
أستطيع القول في عجالة إن الرئيس فلاديمير بوتين التزم خلال عهود حكمه الدفاع عن أولويات السياسة الخارجية الروسية. تبدأ قائمة الأولويات بالعلاقات مع كومنولث الدول المستقلة، أي مع دول الجوار. يعود هذا البند في الحقيقة إلى عهود القياصرة؛ تارة يتمدد حتى جنوب أواسط آسيا وتارة ينكمش إلى حدوده الدنيا. إنه الخوف المركب والمعقد عند شعوب روسيا من تهديد متخيل أو حقيقي من غزوات تشنها جحافل أعداء روسيا القادمة من وسط أوروبا ووسط آسيا؛ إذ إن معظم هذه الحدود مفتوحة ومسطحة لا تحميها دفاعات طبيعية. البند الثاني في أولويات اهتمام السياسة الخارجية لروسيا هي المعارضة القوية لمحاولات الناتو التوسع شرقاً، وبخاصة منذ نهاية حرب الخليج حين راح الحلف يقصف صربيا ويغزو أفغانستان ثم احتل العراق وبعدها ليبيا. وفق الالتزام بهذا المبدأ كان لابد أن يتصدى بوتين بالقوة؛ لأنه لو خضعت أوكرانيا للناتو لأصبح لروسيا حدود مشتركة مع الناتو بطول ألفي كيلومتر. من الأولويات أيضاً التمسك باستعادة وتثبيت مكانة روسيا دولة عظمى، ومنها كذلك السعي الدائم إلى إقامة نظام دولي متعدد الأقطاب.
فاز الرئيس بوتين بولاية جديدة من دون منافسة جادة ولم يكن لدى العواصم الغربية شك في أن استمراره في قمة السلطة في موسكو ينذر بمرحلة شديدة التوتر في علاقات روسيا بالغرب. وواشنطن الراهنة جزءان؛ أحدهما يغص بمختلف القوى المشاركة في صنع السياسة الخارجية الأميركية، منها مراكز البحوث وقيادات البنتاغون والإعلام وشركات صنع السلاح والكونغرس بمجلسيه، كلها مع غيرها تتوقع مرحلة من السياسات الخارجية الروسية العدوانية وسباق تسلح رهيباً قد لا يصل خيال إنسان عادي إلى تصوره. الجزء الثاني ويمثله الرئيس دونالد ترامب الذي لا يزال واثقاً من أن الرئيسين وحدهما قادران على صنع سلام عالمي.
هذا السلام؛ عالمياً كان أم إقليمياً، أو بين الدولتين الأميركية والروسية، يظل وهماً كبيراً لو لم يأخذ الرئيسان، بوتين وترامب، في اعتبارهما المعنى الحقيقي لانتهاء المرحلة الانتقالية التي اختارت القيادة الصينية أن تمر فيها قبل أن تستأذن في التربع على القمة الدولية منفردة أو مشاركة. أعتقد في النهاية أن حسابات الدولتين، الأعظم سابقاً، واستعداداتهما العسكرية والتكنولوجية لن تعني الكثير من دون الدراية العميقة بحقيقة وتفاصيل رؤية الرئيس الصيني شي لموقع بلاده في القمة الدولية وأهدافها وخططها المرسومة فعلاً وفهمها لدورها وحدود طموحاتها كقوة أعظم.