شهد العشرون من آذار (مارس) ذكرى بالغة الأهمية. وسوف يُغفر لك إذا لم تكن تعرف ذلك. فبعد خمسة عشر عاماً من غزونا العراق، يتحدث القليلون هنا في الولايات المتحدة عن الإرث الذي تركناه هناك. لكن من الجدير تذكر أننا حطمنا ذلك البلد.
لقد جعل غزونا من العراق نقطة ساخنة للإرهابيين، كما كان متوقعاً. وكانت المخابرات الأميركية والبريطانية قد تنبأت في الأشهر التي سبقت الغزو، بأن هجوم بوش المزمع سوف يؤدي إلى تنشيط تنظيم القاعدة. وسوف “تجد (المجموعة) فرصة لتسريع إيقاعها العملياتي وزيادة الهجمات الإرهابية”، وخاصة “في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة”، كما حذرت التقديرات. وهو المسار المناسب لخوض “الحرب على الإرهاب”.
ثم أكدت تقارير المتابعة هذه التوقعات. وكما فسر محلل في واشنطن في العام 2006، فإن “الصراع العراقي أصبح ‘قضية جذب’ للجهاديين؛ حيث خلف استياءً عميقاً من تورط الولايات المتحدة في العالم المسلم وشكل استثماراً للحركة الجهادية العالمية”.
يحدد فواز جرجس مجموعتين أنتجتهما هذه البيئة: تنظيم القاعدة في العراق، “وهو مخلوق أنجبه غزو العراق بقيادة أميركية في العام 2003″، و”داعش”، و”هو امتداد لتنظيم القاعدة في العراق”. وكانت هناك أسباب وجيهة ليشعر الجميع -وليس الجهاديون فقط- بالاستياء من التدخل الأميركي. ولنفكر في الطائفية. فكما أكد سامي رمضاني، فإن “أكثر التوترات الطائفية والعرقية خطورة في تاريخ العراق الحديث جاءت في أعقاب الاحتلال بقيادة أميركية في العام 2003”. ويتفق معه نبيل التكريتي، الذي يشير إلى سياسات الولايات المتحدة التي “أفضت إلى زيادة مطردة ومتواصلة في التوترات الطائفية”. وكانت فرق الموت الشيعية “التي نظمها ناشطون أميركيون” واحداً من قرارات هذه السياسة.
يشكل مدى النجاح الذي أحرزته هذه الفرق، في جزء منه، ما يناقشه الباحثون عندما يحسبون حصيلة القتلى في الحرب في العراق. وتضع التقديرات الدنيا، مثل تقديرات “إحصاء قتلى العراق”، عدد المدنيين القتلى عند 200.000 فقط. ويحدد أحد فرق البحث نحو “نصف مليون وفاة في العراق يمكن أن تعزى إلى الحرب”. وخلصت منظمة “أطباء للمسؤولية الاجتماعية” إلى أن “الحرب قتلت، بشكل مباشر أو غير مباشر نحو مليون شخص في العراق”، بالإضافة إلى 300.000 آخرين في أفغانستان وباكستان.
كما واجه العراقيون الذين نجوا من الجحيم طائفة من الكوابيس. وعلى سبيل المثال، “أبلغت الأمم المتحدة أن أكثر من 4.4 ملايين عراقي أصبحوا مشردين داخلياً، وأن 246.100 أصبحوا لاجئين في الخارج”. وقد تعاملت القوات الأميركية مع المعتقلين العراقيين -الذين كان ما بين 70 إلى 90 في المائة منهم قد اعتقلوا عن طريق الخطأ- بطريقة “ترتيب المعتقلين وهم عراة في أكوام ثم القفز فوقهم”، و”كسر المصابيح الكيماوية وصب السائل الفوسفوري على أجساد المعتلقين”، و”إجبار مجموعة من المعتقلين الذكور على تصرفات جنسية شاذة”، وهذا مجرد ذكر لبعض الطرق التي تنكَّرنا بها للمبادئ الديمقراطية، بموافقة كبار مسؤولي إدارة بوش.
ثم هناك أجيال العراقيين المستقبليين في المدن التي مزقتها القنابل: الفلوجة والبصرة. وفي الأولى، فإن “الزيادات المبلغ عنها في حالات الإصابة بالسرطان ووفاة المواليد… مرتفعة بشكل مثير للقلق” -ربما “أسوأ من هيروشيما” في حين أن “العيوب الخلقية للمواليد.. وصلت في العام 2010 إلى أعداد غير مسبوقة” وبالطريقة نفسها”، فإن “نمطاً من الزيادة في العيوب الخلقية للمواليد” يصيب البصرة، و”يشتبه الكثيرون بأن التلوث الذي صعنه قصف المدن العراقية قد تسبب بأزمة العيوب الولادية الحالية في ذلك البلد”.
من الضروري إيضاح أن هذا القصف كان قد بدأ قبل عقود من العام 2003. ونستطيع أن نتذكر بعثة مساعد الأمين العام للأمم المتحدة، ماتي أهتيساري، إلى بغداد بعد عملية عاصفة الصحراء. وكان هو وفريقه على دراية بالأدبيات التي تكتب عن القصف، كما كتب في آذار (مارس) من العام 1991، “نحن واعون تماماً بالتقارير التي تنشرها وسائل الإعلام وتتعلق بالوضع في العراق”، لكنه أدرك لدى وصوله أنه “لا شيء مما كنا قد رأيناه أو قرأناه هيئَنا بشكل جيد لاستيعاب هذا الشكل الخاص من الدمار” -“القريب من يوم القيامة”- “الذي أصاب البلد الآن”، والذي أعاده إلى “العصر ما قبل الصناعي” بحيث سيبقى كذلك في المستقبل المنظور. هكذا كان حجم الدمار في العراق عندما فرض مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة عقوبات عليه. وكانت الإجراءات “عند كل منعطف من صياغة الولايات المتحدة”، التي كانت “سياستها الثابتة هي إيقاع أقصى قدر ممكن من الدمار الاقتصادي بالعراق”.
حققت السياسة، بهذا المعنى، نجاحاً باهراً. وقدرت الأمم المتحدة في العام 1955 أن العقوبات قتلت أكثر من نصف مليون طفل عراقي -وقالت مادلين أولبرايت: “الأمر يستحق ذلك”- وكان ذلك أحد العوامل التي دفعت اثنين من منسقي مساعدات الأمم المتحدة إلى الاستقالة على التوالي. ورأى دينيس هوليداي أن العقوبات “معيبة بطريقة إجرامية، ولها طبيعة الإبادة الجماعية”؛ واتفق معه هانز فون سبونيك، الذي استشهد بأدلة على “انتهاكٍ واعٍ لحقون الإنسان والقانون الإنساني من جانب حكومات ممثلة في مجلس الأمن، وأولاً وقبل كل شيء تلك التي ارتكبتها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة”.
كان القضاء على مئات الآلاف من الأطفال الذين يتضورون جوعاً مجرد استهلال للاحتلال، والذي وصفه أحد الكتاب بأنه “أكبر كارثة ثقافية منذ دمر أحفاد جنكيز خان بغداد في العام 1258”. ولكن، دعونا نحاول العثور على أكثر من مجرد حفنة صغيرة من المعلقين الذين يتأملون أياً من هذه القضايا في هذه الذكرى المظلمة. وبدلاً من ذلك، يكشف الصمت المطلق السائد في هذا البلد قدرة الولايات المتحدة الهائلة على النسيان.
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
نِك ألكسانداروف