بعد إعلان القوات المسلحة التركية سيطرتها الكاملة على منطقة عفرين؛ تتجه الأنظار إلى الخطوة التركية المقبلة: إما منبج غرب نهر الفرات في سوريا أو سنجار شمال غربي العراق. وفي انتظار رد واشنطن على مطالب أنقرة بالتنسيق بخصوص منبج؛ يبدو أن سنجار باتت لها الأولوية في قائمة الأهداف التركية.
حرب التصريحات
تتواتر التصريحات الرسمية التركية التي تفيد بأن عملية “غصن الزيتون” ليست الأخيرة من نوعها، وأن أنقرة مصرة على ملاحقة “المنظمات الإرهابية” في كل أماكن وجودها.
وتحيل تلك التصريحات إلى أن وجهة أنقرة بعد “غصن الزيتون” ستكون إما منبج السورية أو سنجار العراقية، ثم لاحقاً مناطق شرق الفرات وجبال قنديل التي هي المعقل الرئيسي لحزب العمال الكردستانيالتركي.
فبخصوص سنجار؛ أكد رئيس الوزراء التركي بن علي يلدرم أن بلاده تتواصل مع حكومة بغدادلإخراج عناصر حزب العمال الكردستاني من المدينة أو التعاون مع أنقرة في ذلك، حتى لا تضطر الأخيرة لفعل ذلك بنفسها.
“تصريحات أردوغان -بما تضمنته من تهديد معلن وإصرار واضح- سرّعت عملية انسحاب عناصر الكردستاني من سنجار نحو جبال قنديل والحدود السورية، وهو ما أيدته مصادر عراقية قالت إن الانسحاب أتى بعد اجتماع وفد عسكري مع قيادات الكردستاني، لتجنيب المنطقة عملية عسكرية تركية أو عراقية”
وبعد ساعات فقط من تهديدها تركيا بأن دخولها إلى سنجار سيواجه بمقاومة شديدة؛ أعلنت قيادة حزب العمال الكردستاني في 23 مارس/آذار الحالي سحب قواتها من سنجار “بعد أن أدت مهمتها” على مدى السنين الأربع الفائتة.
وفي 25 مارس/آذار؛ قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إن “عمليات عسكرية” تركية بدأت في سنجار وإن بلاده مصممة على إخراج الحزب الكردستاني منها، مضيفاً أن “غصن الزيتون” ستحقق أهدافها بعد السيطرة على بلدة تل رفعت شرق عفرين.
لكن وزارة الدفاع العراقية سرعان ما نفت وجود عملية عسكرية في سنجار، مؤكدة أنها “لن تقف مكتوفة الأيدي أمام أي تدخل عسكري خارجي”.
وفي الحقيقة؛ فإن كلام أردوغان لم يتضمن إشارة إلى “عملية عسكرية” في سنجار مماثلة لـ”غصن الزيتون”، وإنما ذكر “عمليات عسكرية” تنفذها بلاده منذ أيام في شمال العراق لمكافحة حزب العمال الكردستاني.
حيث كانت القوات المسلحة التركية قد بدأت -في 10 من الشهر الجاري- عمليةً عسكرية على مواقع حزب العمال الكردستاني، تعتمد بشكل رئيسي على الطلعات الجوية، وأعلنت تحييد 38 مسلحاً حتى الآن (25 مارس/آذار).
ويبدو أن تصريحات أردوغان -بما تضمنته من تهديد معلن وإصرار واضح- سرّعت عملية انسحاب عناصر الكردستاني من سنجار نحو جبال قنديل والحدود السورية، وهو ما أيدته مصادر عراقية قالت إن الانسحاب أتى بعد اجتماع وفد عسكري مع قيادات الكردستاني، لتجنيب المنطقة عملية عسكرية تركية أو عراقية.
عملياً؛ لا يبدو أن خبر الانسحاب قد طمأن أنقرة كثيراً، حيث نقلت وسائل إعلام تركية عن مسؤولين حكوميين أتراك أن انسحاب الكردستاني مجرد مناورة أو خدعة، وأنه سيبقى في المنطقة تحت مسمى “قوات مقاومة شنكال” (الاسم الكردي لسنجار).
أهمية سنجار
يعدّ قضاء سنجار منطقة إستراتيجية وجبلية قريبة من الحدود العراقية السورية، ويسكنه ما يقارب 90 ألفاً (وفق تعداد 2014) معظمهم من اليزيديين، مع أقليات عربية وتركمانية وغيرها.
وبعد سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على الموصل في 10 يونيو/حزيران 2014؛ هاجم التنظيم سنجار في 3 أغسطس/آب الموالي وسيطر عليها، قبل أن تطرده منها قوات البشمركة في 19 ديسمبر/كانون الأول من نفس العام، بدعم من طيران التحالف الدولي.
وقد شارك حزب العمال الكردستاني في معركة استعادة سنجار إلى جانب قوات البشمركة التابعة للبارزاني، باسمه بشكل مباشر وكذلك تحت مسمى وحدات مقاومة شنكال، أحد تنظيماته الفرعية التي أسسها عام 2007 في منطقة سنجار.
“ترى أنقرة أن نجاحها في مكافحة الحزب وتمظهراته التنظيمية المختلفة منوط بإخراجه من منبج ومناطق شرق الفرات بسوريا، وسنجار وجبال قنديل في العراق، وفق أولويات تصوغها الإمكانات والمعدلات السياسية والعسكرية لكل حالة على حدة”
وفي إطار ردها على تنظيم استفتاء كردستان العراق؛ أعادت القوات الحكومية العراقية السيطرة على المدينة في 17 أكتوبر/تشرين الأول 2017 إثر “انسحاب البشمركة منها بشكل سلمي”. لكن حزب العمال الكردستاني احتفظ بنحو 2000 من مقاتليه في قرى سنجار، وهي المناطق التي تطالب أنقرة بخروجه أو إخراجه منها، ضمن رؤيتها “للمواجهة الاستباقية على أرض العدو”.
ويعتبر حزب العمال الكردستاني المنظمة الأم لعدة منظمات فرعية تنشط في المنطقة، مثل حزب الاتحاد الديمقراطي في سوريا، وقوات مقاومة شنكال في العراق؛ ولذا ترى أنقرة أن مكافحته تتم عبر إستراتيجية شاملة ضد كل فروعه في تركيا والعراق وسوريا.
وفي هذا الإطار؛ نفذت تركيا عمليتيْ “درع الفرات” التي منعت التواصل الجغرافي بين كانتوناته، و”غصن الزيتون” التي أخرجت وحدات حماية الشعب الكردية من عفرين ومنعت وصولها إلى البحر الأبيض المتوسط.
وترى أنقرة أن نجاحها في مكافحة الحزب وتمظهراته التنظيمية المختلفة منوط بإخراجه من منبج ومناطق شرق الفرات بسوريا، وسنجار وجبال قنديل في العراق، وفق أولويات تصوغها الإمكانات والمعدلات السياسية والعسكرية لكل حالة على حدة.
ليس مرجحاً أن تقوم تركيا بعملية عسكرية برية موسعة في سنجار على غرار عملية “غصن الزيتون” في عفرين، إذ ثمة اختلافات جوهرية بين المنطقتين والبلدين.
فالعراق دولة مستقرة نسبياً وحكومته تسيطر على الأوضاع فيه إلى حد بعيد، وتستعد لتنظيم انتخاباتها البرلمانية بعد أقل من شهرين، وتربط بين الحكومتين التركية والعراقية علاقات طيبة نسجتاها مؤخراً بعد التعاون الوثيق بينهما في مواجهة استفتاء كردستان العراق، وبعد أن طوتا إلى حين الخلاف بشأن معسكربعشيقة التركي شمالي العراق.
المقاربة التركية
ميدانياً وعسكرياً؛ تبعد سنجار حوالي 100 كلم عن الحدود التركية، وحوالي 80 كلم من معسكر بعشيقة الذي توجد فيه قوات تركية محدودة شمال الموصل.
ويعني ذلك أن أي عملية عسكرية برية ستكون بالغة التعقيد وتحتاج للتنسيق والتعاون مع حكومتيْ أربيلوبغداد، حيث يفترض أن تقطع تلك القوات مساحات واسعة بأراضي الطرفين، خصوصاً كردستان العراق. وتضيف تضاريس المنطقة تعقيدا بسبب وعورتها وقربها من جبل سنجار، ومحاذاتها للحدود السورية ومناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية.
ما يطمئن تركيا جزئياً بخصوص سنجار هو أن كلاً من حكومتيْ بغداد وأربيل تشاركانها رفض وجود العمال الكردستاني فيها، ولذا فخيار أنقرة الأول الذي تحاول إقناع بغداد به هو أن تتكفل هي بإخراج الكردستاني دون أي تدخل تركي مباشر. وتشير الأنباء عن انسحاب الكردستاني -وتسلم القوات العراقية سنجار بشكل تام ونهائي بعد زيارة وفد عسكري عراقي للمدينة- إلى أن هذا الخيار مقبول ومرحب به من بغداد.
“ليس مرجحا أن تقوم تركيا بعملية عسكرية تقليدية وواسعة في سنجار، خصوصاً أن عدم موافقة بغداد عليها سيحرمها -إلى حد كبير- من المسوغات والتبريرات السياسية والقانونية التي حظيت بها في عمليتيْ “درع الفرات” و”غصن الزيتون”. لكن أنقرة قد تكتفي بعملية محدودة عمادها الرئيسي القصف الجوي كما تفعل مع معسكرات الكردستاني في جبال قنديل”
بديل أنقرة -إذا لم يتم ذلك- هو أن تتعاون الحكومتان في عملية عسكرية مشتركة، تؤمّن السيادة العراقية التامة على المنطقة وتريح تركيا من إحدى قواعد الكردستاني التي تسميها “قنديل الثانية”. وأما الخيار الثالث -إذا رفضت بغداد وأربيل التعاون- فهو اعتماد تركيا على نفسها لإخراج المقاتلين من المدينة.
بيد أنه ليس مرجحا أن تقوم تركيا بعملية عسكرية تقليدية وواسعة في سنجار، خصوصاً أن عدم موافقة بغداد عليها سيحرمها -إلى حد كبير- من المسوغات والتبريرات السياسية والقانونية التي حظيت بها في عمليتيْ “درع الفرات” و”غصن الزيتون”.
لكن أنقرة قد تكتفي بعملية محدودة عمادها الرئيسي القصف الجوي كما تفعل مع معسكرات الكردستاني في جبال قنديل، ويكون مسوغها الرئيسي فيها حق الدفاع عن النفس المعترَف به للدول وفق المادة 51 من الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
إذن، فالمرجح هو أن تعمد الحكومة المركزية في بغداد إلى تجنب عملية عسكرية تركية في سنجار، عبر إخراجها مقاتلي حزب العمال الكردستاني منها وضبطها الأمن فيها، وطمأنتها للهواجس التركية.
أما إن رفضت بغداد ذلك أو فشلت فيه أو رأته تركيا غير كافٍ؛ فإن أي عمل عسكري مشترك بينهما سيعتمد على تقدير فرص نجاح تلك العملية المفترضة، وجدولها الزمني، ومدى تأثيرها على الانتخابات البرلمانية المقبلة، بحيث يصار إلى إنهائها قبل الانتخابات للاستفادة من نتائجها، أو إطلاقها بعدها لتجنب ارتداداتها على الحكومة ورئيسها حيدر العبادي.
وأما احتمال قيام تركيا بعملية عسكرية واسعة في العراق، بشكل أحادي ومنفرد ورغم رفض حكومة بغداد؛ فيبقى أمراً مستبعداً جداً وفق المعادلات الحالية، ولا يبدو أن أنقرة ستحتاج إليه في ظل الإشارات التي صدرت عن بغداد.
سعيد الحاج
الجزيرة