قبل وقت طويل من عبور فرق الفدائيين الفلسطينيين الحدود من غزة، لتشن في كثير من الأحيان هجمات عنيفة ضد قوات الأمن الإسرائيلية والمدنيين، كان رئيس الوزراء ديفيد بن غوريون قد أمر الجيش بأن يطلق النار -بهدف القتل- على “المتسللين” الفلسطينيين –ومعظمهم لاجئون عبروا الحدود المنشأة حديثا من أجل استعادة مواشيهم، وأدواتهم، أو من أجل العمل في أراضيهم.
* * *
في يوم ربيعي دافئ من أواخر نيسان (أبريل) 1965، ألقى موشيه دايان، الذي كان في ذلك الحين رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي وبطل الحرب البارز في إسرائيل، خطابا سوف يصبح جزءا مركزيا من روح إسرائيل الوطنية. وكان دايان قد وصل إلى كيبوتز ناحال عوز من أجل تكريم ذكرى روي روتبيرغ، أحد حراس الأمن في الكيبوتز، والذي وقع في كمين نصبه له ضابط شرطة مصري وفلاح فلسطيني واختطفاه إلى قطاع غزة وقتلاه. وكان رئيس هيئة الأركان قد التقى روتبرغ في اليوم السابق خلال زيارة روتينية إلى كيبوتز ناحال عوز، حيث كان المجتمع هناك يحضر لإقامة عدد من حفلات الزفاف المقبلة. وقد استغرقته كتابة الرثاء نصف ساعة فقط.
كان مقتل روتبرغ مروعا بشكل خاص، وتسبب بالصدمة لدولة كانت قد شهدت مسبقا قدرا هائلا من إراقة الدماء والكوارث في فترة قصيرة من الزمن، وهو ما أضفى على رثائه صبغة شاكية من النوع الذي يمكن أن يسمعه المرء من قادة اليوم.
في ذلك اليوم، قال دايان للحشد: “لن تكون لأبنائنا حياة يعيشونها إذا لم نقم بحفر الملاجئ؛ ومن دون وجود نصب سياج من الأسلاك الشائكة وبندقية رشاشة، لن نستطيع أن نعبد طريقاً أو نحفر بئر ماء. إن ملايين اليهود، الذين قضوا من دون أن تكون لهم أرض، يتطلعون إلينا من رماد التاريخ الإسرائيلي ويأمروننا بالاستيطان وإعادة بناء أرض لشعبنا”.
في ذلك الحين، وصف البعض خطاب دايان بأنه النسخة الإسرائيلية من خطاب غيتيسبرغ، باعتباره بيانا رصينا عن الغاية، والموجه إلى أولئك تحملوا عبء مواصلة مهمة الأمة. لكن الرثاء حمل أيضا رسالة ثانوية مثيرة للانتباه: كان ذلك أول خطاب عام يصدر عن عضو رفيع المستوى من ضباط الجيش الإسرائيليين، ليعترف –من دون أي تحفظات- بالمعاناة التي تعرض لها الفلسطينيون خلال تأسيس دولة إسرائيل، وكذلك مصدر غضبهم. قال دايان:
“دعونا لا نكيل اللوم للقتلة. لماذا يجب أن نشكو من كراهيتهم لنا؟ طوال ثماني سنوات جلسوا في مخيمات اللاجئين في غزة، وشاهدوا، بأم أعينهم، كيف جعلنا لنا وطناً من ترابهم وقراهم التي عاشوا فيها هم وأسلافهم ذات مرة.
“ليس العرب في غزة هم الذين يجب أن نطالبهم بدم روي، وإنما يجب أن نطلبه من أنفسنا. كيف نغلق أعيننا عن حقيقة قسمتنا، ونعجز عن رؤية قدر جيلنا بقسوته الكاملة. لقد نسينا أن هذه المجموعة الصغيرة من الرجال، التي استقرت في ناحال عوز، تحمل على أكتافها بوابات غزة الثقيلة، والتي تنظر من ورائها مئات الآلاف من الأعين والأذرع التي تتجمع معا وتصلي من أجل أن تشهد بداية ضعفنا حتى تمزقنا إربا –هل نُسي هذا؟ لأننا نعلم أنه إذا كان هذا الأمل في دمارنا لينتهي، فإن علينا أن نكون –صباحا ومساء- مسلحين وجاهزين”.
اليوم، بعد مرور نحو سبعة عقود، وبينما ينظم الفلسطينيون في غزة –ومعظمهم من نسل لاجئي حرب العام 1948 الذين فروا أو طردوا من ديارهم- مسيرات احتجاجية نحو الحدود مع إسرائيل، تتردد أصداء كلمات موشيه دايان أكثر قوة من أي وقت مضى. فقبل نتنياهو، وقبل القوانين العنصرية، وقبل الانتفاضتين، وقبل الدكتاتورية العسكرية في الضفة الغربية وغزة، كانت سياسة إسرائيل الأصلية القائمة على منع الفلسطينيين من العودة إلى قراهم وبلداتهم ومدنهم.
قبل وقت طويل من عبور فرق الفدائيين الفلسطينيين الحدود من غزة، لتشن في كثير من الأحيان هجمات عنيفة ضد قوات الأمن الإسرائيلية والمدنيين، كان رئيس الوزراء ديفيد بن غوريون قد أمر الجيش بأن يطلق النار -بهدف القتل- على “المتسللين” الفلسطينيين –ومعظمهم لاجئون عبروا الحدود المنشأة حديثاً من أجل استعادة مواشيهم، وأدواتهم، أو من أجل العمل في أراضيهم.
كان الغرض من خطاب دايان واضحا: لقد شردنا هؤلاء الناس، ولذلك، فإن غضبهم أكثر من مبرر –لكننا لا نسمح لهم بالعودة إلى وطنهم. وكان حرمانهم من العودة هو الذي قدح شرارة الحركة الوطنية الفلسطينية، التي قادها أولئك الذين يعيشون في المنفى حتى الثمانينيات، عندما اجتاحت الانتفاضة الأولى كامل الأراضي المحتلة. وقبل تلك الانتفاضة، كان يقود الثورة الفلسطينية أناس حرموا من وطنهم، والذين عملوا في أغلب الأحيان من الدول العربية التي عانت من قضايا اللاجئين المقيمة، في حين استغلتها في الوقت نفسه من أجل تحقيق مكاسب سياسية.
للاحتجاجات الجارية في غزة الآن أهداف مختلفة: وضع نهاية للحصار المضروب منذ 11 عاماً على القطاع؛ وجلب الانتباه العالمي إلى الظروف الإنسانية السيئة التي تعصف بالسكان هناك؛ وطلب الحرية لما يوصف دائما بأنه أكبر سجن مفتوح في العالم. لكن هناك سببا يجعل الاحتجاجات في غزة تقام تحت شعار “مسيرة العودة الكبرى” والتي تتوج بيوم النكبة، عندما يحيي الفلسطينيون ذكرى طردهم من وطنهم: إنها تعيد قضية اللاجئين الفلسطينيين إلى مركز النقاش الدولي.
حتى الآن، يبدو أن تداعيات المسيرات الفلسطينية على الإسرائيليين وأنصارهم، في الوقت الحاضر على الأقل، قليلة لا تُذكر. كما أن للمذبحة التي تجري على الحدود مع غزة –مع مقتل أكثر من 45 فلسطينيا وجرح الآلاف على يد القناصة الإسرائيليين حتى كتابة هذه السطور- القليل من التأثير على جمهور إسرائيلي لا يتقبل أي شكل من أشكال الاحتجاج الفلسطيني، وخاصة تلك التي تضع قضية اللاجئين الفلسطينيين، الذين يُنظر إليهم على أنهم التهديد النهائي لوجود الدولة، في المقدمة. وبروح دايان، أصبح الإسرائيليون –بل وحتى الكثيرون من اليسار السائد- مقتنعين بأن الطريقة الوحيدة لضمان الحياة اليهودية في هذه الأرض هو استخدام السيف- حتى ولو أن هناك بعض الحركة في اتجاه القبول بالعودة الفلسطينية تحت شروط معينة”.
الآن، سوف يكون أعضاء المجتمع الدولي، وخاصة الناشطون في الخارج، مجبرين على التعامل مع سؤال مختلف. سيكون على المنظمات التي تدعم العدالة في إسرائيل/ فلسطين أن لا تقرر ما إذا كانت ستدعم حق الغزيين في المسيرات الاحتجاجية (وهو ما تدعمه بشكل ساحق)، وإنما يجب أن تقرر إذا ما كانت ستدعم الرسالة المركزية التي تقع في القلب من هذه المسيرات: أن الفلسطينيين يجب أن يكونوا قادرين على العودة إلى قراهم وبلداتهم ومدنهم.
لقد بُذلت العديد من محاولات التوسط في التوصل إلى سلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين إيجاد حلول قابلة للتطبيق لمشكلة اللاجئين. ولكن، ومع الموت الحقيقي لعملية السلام، لم يعد اللاجئون الفلسطينيون ينتظرون القادة لكي يقرروا لهم مصيرهم، إنهم يستعيدون بنشاط مكانهم المستحق على الطاولة، وسوف يُطلب من الناشطين من كل الأطياف والشرائح، وبشكل حتمي، أن يقرروا أن يقفوا.