تلخّص الأحداث الأخيرة في غزة والقدس، وبطريقة مركزة، «المسألة الفلسطينية»، باعتبارها استبدالا للإشكالية الأوروبية المريرة («المسألة اليهودية»)، التي أسست لظهور دولة إسرائيل، وللنكبة الفلسطينية، ولتداعيات الحدثين الإقليمية والعالمية اللاحقة، باعتبارها تحدّيا للدول العربية المستقلة حديثا، وللهويّة التاريخية العربية (والإسلامية إلى حد كبير) للمنطقة وشعوبها، وللشعب الذي بدأ باكتشاف هويته الوطنية مع انتقاله فجأة من مرحلة احتلال كولونيالي إلى احتلال استيطاني وكولونيالي معاً، وتهجير لقسم كبير منه.
جدير بالتذكر هنا أن الذين أسسوا الدولة العبرية كانوا محتارين في تسميتها: صهيون، أم أرض اليهود الخ… وقرّ رأي أحدهم (دافيد بن غوريون) بعد ذلك على اسم «إسرائيل» التي لا حدود جغرافية تحدّها والتي لا ذكر لله في بيان تأسيسها (رغم أن إسرائيل هو لقب يعقوب، سلف اليهود في التوراة)، وهذه الوقائع الثلاث تدل على حالة مستجدة وطارئة مسكونة بفكرة الزوال والحروب التي لا تنتهي والحيرة بين الديني واللادينيّ، وفعلاً فقد بدأت الحرب مع الدول العربية بعد أيام من التسمية الغريبة، لكن دولة اليهود، صهيون، إسرائيل الخ…، ولأسباب تاريخية وسياسية وعسكرية معقدة، تمكنت من هزيمة الجيوش العربية، ومن توطيد كيانها المستجد، وتهجير سبعمئة ألف فلسطيني، سيكونون نواة التغريبة الطويلة، المتعددة الفصول والمتكررة على دفعات ومجازر إسرائيلية وعربية كل بضع سنين، لمدة سبعين عاماً لاحقة.
ساهم تأسيس «إسرائيل» إذن في نموّ الوطنية الفلسطينية المأزومة والجريحة وفي صعود نسخ أولى من الشعبوية العسكرية ـ السياسية العربية التي تنطّعت، باسم مواجهة الخطر الصهيوني، إلى تهشيم البنى الأولى المؤسسة للدول العربية وبذور الديمقراطية والمدنية وصعود الأنظمة العسكرية ـ الأمنيّة العربية، وخلقت، رغم رطانتها العالية الصوت ضد إسرائيل، شروطا لاستمرار الكيان الناشئ والطارئ عبر نشوء الاستبداديات الجمهورية، وتصلّب الطغيانات الملكية الخائفة من الانقلابات ضدها، وفتحت المجال لمشهد الخراب الهائل الذي تعيشه الشعوب العربية حاليا.
جمعت المقاربة العربية تجاه الكيان العبري بين طريقتين متكاملتين في الباطن ومختلفتين في الظاهر: دعاية المواجهة التي تسعيرتها الاستئثار بالسلطات ومنع تداولها تحت وطأة الاتهام بالخيانة الوطنية والعمالة للأجنبي وإسرائيل، والتطبيع المجاني السرّي والعلني الذي يتجاهل الفلسطينيين والقضية الفلسطينية معتبرا أنها يمكن أن تختفي بالقمع الإسرائيلي ـ العربي المشترك.
يجب أن نعترف، مع ذلك، أن الانحطاط العربيّ ساهم في تغيير إسرائيل، فرغم حفاظها على أسس الديمقراطية الغربية المنشأ، واستئثارها بأسباب القوّة العلمية والعسكرية والمالية، فإن مسار الدولة العبرية السياسي انحدر خلال السبعين عاما الماضية لتصبح وجها فاقعاً لليمين الدينيّ المتطرّف والغطرسة الفائقة التي تجعلها حليفا لأشكال الفاشية السياسية والشعبوية اليمينية وتيارات العنصرية في كافة أنحاء العالم، والتي تجد ازدهارا كبيرا في هذه الحقبة، من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إلى نظيره الروسيّ فلاديمير بوتين، مرورا بهنغاريا والنمسا، اللتين يحكمهما اليمين المتطرّف.
الاحتفال بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس تم في يوم «تأسيس إسرائيل»، وقتل هذه الـ»إسرائيل» 62 فلسطينيا وجرح الآلاف في اليوم نفسه الذي هو يوم «نكبتهم»، حدثان متناظران ومتساويان يلد الواحد الآخر.
احتفال السفارة الأمريكية في القدس هو إذن احتفاء بالمجزرة الإسرائيلية ـ العربية المستمرة ضد الفلسطينيين.
ولكنّه، أيضاً، موعد جديد مع مشروع فلسطين العالمي لمناهضة الظلم، وهو قدرنا وقدر العالم.
القدس العربي