أمر لطيف أن تجعل المصادفات الزمنية (لا الاتفاقات السياسية أو الدينية) العراقيين من سنّة وشيعة يصومون في يوم واحد، فالمعتاد في «أرض السواد» (كما أطلق المسلمون على بلاد الرافدين عند فتحها) أن يختلف أصحاب المذهبين خلافا شديدا لم تفلح مئات السنين، ولا إنشاء الدولة الوطنية الحديثة، أو تأسيس الأحزاب السياسية القومية والأيديولوجية، في تخفيف جذوته ولو إلى درجة الاتفاق البسيط على يوم موحد للصوم أو العيد كما هو الأمر مع «أعياد» تولّي الحاكم للحكم وتأسيس الجيش والاستقلال عن الأجنبي وغيرها من أعياد.
ولو أن الأمر اقتصر على أولياء وأتباع المذهبين الكبيرين في الإسلام لهان الأمر، فحتى الدول الإسلامية التي تسود فيها أغلبية مذهبية، لا تتفق بالضرورة على يوم واحد للصوم، رغم أنها تمتلك قدرات علميّة فلكيّة لتحديد أول أيّام رمضان لكنها تختلف، في أغلب السنين، على ذلك اليوم بسبب الخلافات السياسية فيما بينها، التي تتخفى بدعوى عدم رؤية مسؤوليها الشرعيين هلال الشهر، مع أن «رؤية» أحد المسؤولين الدينيين (أو الفلكيين) في أي بلد عربيّ للهلال مبرّر عقليّ وشرعيّ كاف لالتزام باقي البلدان بتلك الرؤية وإراحة الخليقة من الأمور المشتبهات والمناطق الرمادية التي لا تليق بأنظمة تلك البلدان وأولياء أمورها.
وربّما يعتبر كثير من المسلمين هذه الأمور من النوافل ويريحون نفوسهم من جدل التخمين بالتزام ما يقترحه مسؤولوهم الشرعيون، فما يشغل المسلمين، في كافّة بقاع المعمورة، أهم وهو أحوال بلدانهم المبتلاة بالفساد والطغيان، وأحوال معاشاتهم وأرزاقهم التي يكدون في تحصيلها، ومستقبل أطفالهم، وبعد ذلك يتفكرون في أحوال إخوانهم في البلدان الأخرى الذين يعانون الأمرّين، فدماء الفلسطينيين، الذين قتلهم جيش الاحتلال الإسرائيلي، ما تزال تخضّب أراضي البلد المقدس لدى أديان ثلاثة، وأحوال إخوانهم العرب في سوريا واليمن وليبيا والعراق رهيبة في فظاعتها ووحشيتها، وكذلك حال المسلمين في ميانمار الذين هجّر قرابة مليون منهم، وتعرّضوا لأشكال القتل والحرق والاغتصاب، وفي أفغانستان التي ما زالت مضطربة والاستقرار والأمان حلمان بعيدان على مواطنيها.
يمكن مدّ سلسلة المعاناة إلى بلدان أخرى كثيرة تعرّضت لمصائب وكوارث ومؤامرات غيّرت مصائر شعوبها المسلمة، كما هو حال البوسنة والشيشان، ويحضر في هذا السياق أيضاً التجاهل العالمي لأحوال مسلمي الصين الذين اعتقل الآلاف منهم قبل فترة قصيرة، وتفتّقت مخيّلة مسؤولي البلد الأمنيين عن زرع جاسوس في كل بيت، يعيش على حساب الأسرة الصينية المسلمة ويجعلها مناط تحقيق واستجواب دائمين.
من الطبيعي أن تساهم هذه الوقائع كلّها في نشر شعور عامّ لدى الشعوب الإسلامية بأن المسلمين والإسلام مستهدفون، وهو أمر يمكن توظيفه في استنهاض همّة المسلمين ودفعهم لتحسين أحوالهم، واجتماعهم على رفض الظلم والاستبداد والاحتلال، لكن فيه مضارّ أيضاً حين يتلبّس المسلمون دور الضحيّة ويستسلمون لأقدارهم ويحاولون التكيّف والاقتناع بأنهم أقل من الآخرين، وبأن دينهم (وليس الأنظمة الفاسدة وأنواع الاحتلال والاستبداد) هو المسؤول عن تخلفهم وتراجعهم بين الأمم، أو برفض التحالف مع أصدقائهم في العالم واتخاذ موقف مضاد للبشرية بمجموعها، وهو أحد أسباب ظهور تنظيمات الإرهاب وتحليل قتل المدنيين تحت مزعم حماية الإسلام والمسلمين.
جعله الله رمضانا كريما على الجميع.
صحيفة القدس العربي