ما بين السادس والعاشر من حزيران /يونيو الجاري شهدت الحياة السياسية في العراق تطورات سياسية وقضائية وأمنية فيما يتعلق بتصحيح نتائج الانتخابات العراقية التي شابها الكثير من التزوير. فما بين هذين التاريخين، ففي السادس من هذا الشهر، أصدر مجلس النواب العراقي قرار يقضي إعادة تجميد عمل مفوضية الانتخابات، وتسمية تسعة قضاة للإشراف على العد والفرز لأكثر من عشرة ملايين صوت بشكل يدوي، بعدما أكدت الحكومة وكتل سياسية إن الانتخابات رافقتها “خروق جسيمة”. وفي العاشر من هذا الشهر، أصدر مجلس القضاء الأعلى قرار تعيين قضاة للقيام بصلاحيات مجلس المفوضين الذين أوقفوا عن العمل في المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، والإشراف على عمليات العد والفرز اليدوي. وبما أن هذين القرارين بمثابة آخر فرصة لكشف التزوير والتلاعب بالأصوات التي تعبر عن إرادة العراقيين في الانتخابات النيابية التي جرت في 12 أيار/مايو الماضي، قضت جهات سياسية متنفذة في العراق ترى في هذين القرارين ضربة موجعة في التصدي لطموحهم السياسي غير مشروع والمزور في الوصول إلى قبة مجلس النواب العراقي. لذلك قرروا في -في الأمس- بإضرام النار في أكبر مخازن صناديق الاقتراع الواقعة في الرصافة بالجانب الشرقي من مدينة بغداد قبل البدء بإعادة الفرز اليدوي.
من جانبه اعتبر رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي حرق موقع لتخزين صناديق الاقتراع في بغداد “مخططا لضرب البلد ونهجه الديمقراطي”، وهدم لكل المنجزات التي تحققت خلال الأعوام الماضية وفي مقدمتها دحر تنظيم داعش الإرهابي في العراق، لذلك أمر الأجهزة الأمنية بفتح تحقيق، وأمر الأجهزة الأمنية بتشديد الحراسة على مخازن حفظ صناديق الاقتراع، متوعدا بملاحقة ما وصفها بـ”العصابات الإرهابية التي تحاول العبث بالأمن والانتخابات”. وأكد وزير الداخلية العراقي قاسم الأعرجي أن الحريق الذي اندلع بأكبر مخازن صناديق اقتراع الانتخابات “متعمد”. يبنما دعا رئيس مجلس النواب سليم الجبوري إلى إعادة الانتخابات. من جانبه، جدد إياد علاوي رئيس ائتلاف الوطنية الانتخابي ونائب رئيس الجمهورية دعوته الأطراف السياسية العراقية لتشكيل حكومة تصريف أعمال تعمل على إجراء انتخابات تشريعية جديدة بعيدة عن التزوير. من جهته، قال القيادي في تحالف الوطنية، كاظم الشمري، إن “الصناديق لم تحترق إلا بعد إقرار العد والفرز اليدوي وبعد ساعات من إجراءات مجلس القضاء”، وتابع “هذا يؤكد حقيقة أن الانتخابات مزورة وفيها تلاعب خطير ويجب على رئيس الوزراء حيدر العبادي أن يتعامل مع الحدث بجدية بالغة الخطورة”.بدوره، قال رئيس الهيئة السياسية للتيار الصدري ضياء الأسدي إن “حريق مخازن بغداد عبث بمقدرات العراق”. بدوره، قال رئيس الهيئة السياسية للتيار الصدري ضياء الأسدي إن من عمد إلى إحراق أجهزة التحقق وأماكن تواجد بيانات الانتخابات يهدف إلى أمرين: إما إلغاء الانتخابات، أو إتلاف بطاقات الحشو التي عدت ضمن نتائج الانتخابات، والتي كان رئيس مفوضية الانتخابات المعزولة من قبل البرلمان قد حذّر من وجود مئات آلاف منها قبل يومين. وحذر زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، اليوم الاثنين، من نشوب حرب أهلية، وقال إن “العراق في خطر”.
بدوره، أعلن عضو مجلس محافظة بغداد محمد الربيعي عن “احتراق جميع صناديق الانتخابات البرلمانية لجانب الرصافة” وسط تأكيد مصادر أن “المخازن التي احترقت تحوي على أكثر من 3 ملايين استمارة ناخب”. وقال في تسجيل صوتي له نقلته وسائل إعلام عراقية إن “مخازن وزارة التجارة التي تحتوي على صناديق المفوضية العليا للانتخابات في جانب الرصافة احترقت بالكامل”، وأضاف أن “فرق الدفاع المدني توجهت إلى المخازن لإخماد الحريق وإخراج صناديق الاقتراع السالمة منها”. ومن جهته، قال عضو لجنة تقصي الحقائق المكلفة بالتحقيق في التلاعب بنتائج الانتخابات، عادل النوري، إن “الحريق مفتعل ومن فعله أعضاء من داخل المفوضية التي تم تجميد عملها”. ولفت إلى أن “المجرمين والمزورين أحرقوا آثار جريمتهم، جريمة تزويرهم لأننا نعلم والله يعلم قبلنا أن النتائج غير واقعية ومزورة، لذا قاموا بحرق الصناديق”، مؤكدا أن “هذه الجريمة ليست جريمة عابرة بل فضيحة ويجب ملاحقتها ونطلب من رئيس الوزراء والقضاء التعامل مع الموضوع كملف سيادي ومهدد للأمن الوطني والعملية السياسية بالعراق ككل”.
وفي غضون ذلك، لم تستبعد اللجنة القانونية بمجلس النواب العراقي الحالي ذهاب القضاء الى إلغاء العملية الانتخابية في عموم البلاد بسبب الحريق. وقال عضو اللجنة، زانا سعيد، إن القضاء يمتلك صلاحية إلغاء نتائج الصناديق المتعرضة لعملية الحريق في بغداد أو إلغاء نتائج محافظة كاملة، مرجحا إلغاء العملية الانتخابية بشكل كامل في حال نشوب حريق ثان في أحد مخازن المفوضية بعد حريق الكيلاني وسط بغداد. ولفت إلى أن “مجلس النواب لديه خيار جديد بعد تعديل قانون الانتخابات بدمج الانتخابات النيابية وإعادتها مع مجالس المحافظات نهاية العام الحالي”. وأوضح في بيان صحافي أن عملية العد والفرز اليدوي ستكشف زيف الكثير من الكتل السياسية المشاركة في التنافس الانتخابي.
وفتحت الحكومة العراقية تحقيقا في حادثة الحرق “المتعمدة” لصناديق الاقتراع ووعدت بكشف الضالعين فيها، وذلك في ظل اتهامات هنا وهناك تطال أكثر من جهة في ظل توقعات أن يؤدي الحادث إلى مزيد من تعقيد الوضع السياسي ويباعد بين الفرقاء السياسيين في العراق.وتتجه أصابع الاتهام في حادثة الحريق -وفقا للمتابعين للشأن العراقي إلى الذين تدور بشأنهم شبهات تزوير، خصوصا بعد مضي مجلس الوزراء في إجراءات كشف حالات التزوير بما فيها الخروقات التي حدثت في تصويت الخارج، وكذلك التصويت الخاص، تصويت النازحين، وفي بعض المراكز ببغداد وسط وجنوب العراق وحتى في بعض المحافظات بغربي العراق. ويضيفون أن ما سبق يبين بما لا يدع مجالا للشك أن هذه الجهات باتت تخشى من إعادة العد والفرز، خصوصا بعد انتداب تسعة قضاة للمباشرة. ويخلص إلى أنها محاولة لخلط الأوراق، وسعي إلى تعطيل مساعي كشف الحجم الحقيقي لهذه الجهات السياسية وما حصلت عليه من خلال عمليات التزوير التي رافقت الانتخابات.
واتهم آخرون من وصفوهم بلصوص السياسة، ووصف مدون الأمر بأنه “تماس ديمقراطي ينهي صناديق الاقتراع ويقضي على العد والفرز ويخفي آثار المزورين وينعش طموح الخاسرين”.واختار المدون عمر الجنابي التأكيد على أن حريق المفوضية ليس أول حرائق العراق، فقبله احترقت الأرواح والأنفس “العالم لا يدرك حتى الآن أن العراق وشعبه تتحكم بهم مافيات وعصابات ترتدي عباءة السياسية والدين والعلمانية والديمقراطية وكل ما من شأنه إيصالهم إلى مقاليد السلطة والحكم وخزانة الأموال، أصوات العراقيين كأرواحهم وأموالهم تم إحراقها وتزويرها من قبل ذلك”. ورأت أخرى أن “النيران الصديقة في العراق دائما هي الحل لكل مشاكل المزورين والمرتشين والمختلسين حقوق هذا الشعب”.واعتبروا احتراق صناديق اقتراع الرصافة عملية مدبرة وبفعل فاعل، الهدف منها إخفاء عمليات التزوير والتلاعب الكبيرة في نتائج الانتخابات. وحمّلوا مفوضية الانتخابات «مسؤولية هذا الحريق، فهي الجهة المعنية بالحفاظ على صناديق الاقتراع. ووصفوا أن الذي أحرق صناديق الاقتراع في الرصافة ليس مفوضية الانتخابات المجمدة، فهي لا تملك هكذا قدرة»، متهماً «الذي ثأَرَ لتفجير الحسينية في مدينة الصدر». وقال: «إننا أمام معركة شرسة لمن يمتلكون السلطة والمال والسلاح خارج الدولة.
يحبس العراقيون أنفاسهم في انتظار معرفة الجهة التي حاولت إضرام النيران في صناديق الاقتراع، خصوصا أنها المرة الأولى التي يتم فيها إحراق الصناديق الانتخابية خلال المواسم الانتخابية التي ارتبطت في أذهان العراقيين بارتفاع أعمال العنف وتفاقم الاضطرابات.ورغم تعدد التكهنات والتحليلات ما زالت كلمة الفصل في انتظار ظهور النتائج الرسمية، خصوصا مع تأكيد وزير الداخلية العراقي قاسم الأعرجي أن الحريق “متعمد” وتم بفعل فاعل، وأنه يتابع التحقيق شخصيا مع فريق الأدلة الجنائية واللجنة التحقيقية الخاصة بالحادث.وفي انتظار انجلاء الصورة تبقى قصة بغداد مع الحرائق كتاب حزن لا ينتهي دائم الفيضان كدموع دجلة، ومع ألسنة اللهيب وغمائم الدخان ترتفع قامات وعمائم وتبرز وجوه سياسية ويتشكل مشهد سياسي سرعان ما تحرقه أزمة أو يغرقه فيضان سياسي في عراق دائم السعي نحو استقرار يأبى أن يولد.
ودعا الائتلاف إلى “إجراء استفتاء شعبي لتحديد المضي باعتماد الانتخابات المطعون بها، أو تبني انتخابات جديدة في ظروف طبيعية تحت إشراف الأمم المتحدة، وبإدارة القضاء العراقي، والقبول بالنتائج التي تتمخض عنها كيفما كانت”.وعلى الرغم من التداعيات الخطيرة لأزمة الانتخابات، والتي تنعطف بشكل خطير نحو أزمة مستعصية، خاصة بعد إحراق صناديق الاقتراع في أحد مخازن مفوضية الانتخابات، والتي يراد إعادة عدها وفرزها من جديد، إلّا أنّ المليشيات تتمسك بنتائج الانتخابات الحالية. وحذر المتحدث باسم “عصائب أهل الحق“، المنضوية ضمن “تحالف الفتح“، نعيم العبودي، من دعوات الإلغاء قائلا إنه “لا يمكن القبول بإعادة إجراء الانتخابات، بسبب الإجراءات القانونية والدستورية، وكذلك لا يمكن إضاعة إرادة الناخبين وأصواتهم”، مؤكداً: “إلغاء الانتخابات أمر مستحيل، ولن نقبل به، فهناك أخطاء يجب أن تعالج من دون الذهاب إلى الإلغاء”.
وأمام هذا التطور الخطير الذي يعد ضربة لمجلس النواب العراقي لمواجهة عمليات التزوير الذي شابت العملية الانتخابية نتساءل: هل من الممكن إعادة الانتخابات برمتها وهي خطوة ستكون محفوفة بالمخاطر في بلد لا يزال يئن من الانقسامات منذ 15 عاما؟ وهل ستقبل واشنطن وطهران بذلك؟ ومتى سيتحرر العراق من المفسدون الذين عتوا وعاثوا فيه خرابا؟
وحدة الدراسات العراقية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية