كان البيان الذي صدر عن قمة كيم-ترامب يدور حول التطلعات وليس الإنجازات. ولم تلتزم كوريا الشمالية إلا “بالعمل نحو نزع السلاح النووي من شبه الجزيرة الكورية بالكامل”. ولكن غاب عن الأمر أي تعريف لما قد ينطوي عليه نزع السلاح النووي، أو أي جدول زمني للتنفيذ، أو أي إشارة إلى كيفية التحقق من أي إجراءات. ولم تُذكَر حتى قضايا أخرى متعلقة بالأسلحة النووية، بما في ذلك الصواريخ الباليستية. وحتى الآن على الأقل، لا يرقى الاتفاق مع كوريا الشمالية حتى إلى الاتفاق النووي مع إيران الذي استنكره ترامب -ثم تبرأ منه قبل شهر من مقابلة كيم.
* * *
نيويورك – عاد الرئيس الأميركي دونالد ترامب من اجتماع القمة القصير الذي انعقد في سنغافورة مع الزعيم الكوري الشمالي كيم جونج أون في حالة من الابتهاج الشديد. حتى أن ترامب عَلَّق على موقع تويتر، فكتب: “الآن يستطيع كل إنسان أن يشعر بقدر من الأمان أكثر بكثير من اليوم الذي توليت فيه منصبي. لم يعد هناك تهديد نووي من جانب كوريا الشمالية”. وفي وقت لاحق قال للمراسلين: “لقد حللت هذه المشكلة”.
لكن هناك مشكلة واحدة، هي أن كل ما ادعاه ترامب غير صحيح. ما يزال التهديد النووي الذي تفرضه كوريا الشمالية باقياً على حاله. وكان البيان المشترك الصادر عن الزعيمين مقتضباً -391 كلمة فقط- كما كان غامضاً أيضاً.
كان البيان يدور حول التطلعات وليس حول الإنجازات. فلم تلتزم كوريا الشمالية إلا “بالعمل نحو نزع السلاح النووي من شبه الجزيرة الكورية بالكامل”. ولكن غاب عن الأمر أي تعريف لما قد ينطوي عليه نزع السلاح النووي، أو أي جدول زمني للتنفيذ، أو أي إشارة إلى كيفية التحقق من أي إجراءات. ولم تُذكَر حتى قضايا أخرى متعلقة بالأسلحة النووية، بما في ذلك الصواريخ الباليستية. وحتى الآن على الأقل، لا يرقى الاتفاق مع كوريا الشمالية حتى إلى الاتفاق النووي مع إيران الذي استنكره ترامب -ثم تبرأ منه قبل شهر من مقابلة كيم.
لكن هذا لا يعني أن قمة سنغافورة كانت بلا قيمة. ففي الوقت الحالي على الأقل، أصبحت العلاقات الثنائية في حال أفضل مما كانت عليه قبل عام واحد، عندما كانت كوريا الشمالية تجري تجارب نووية وصاروخية، وكان المراقبون (وأنا منهم) مشغولين بحساب احتمالات دخول الدولتين في حرب وليس انخراطهما في صنع السلام. وبالنظر إلى المستقبل، يمكننا أن نتبين من حيث المبدأ احتمال تمكن الولايات المتحدة وكوريا الشمالية من التوصل إلى اتفاق بشأن العديد من القضايا والتفاصيل المهمة التي أغفلتها قمة سنغافورة.
لكن تحويل هذا الاحتمال إلى حقيقة واقعة أمر صعب للغاية. فهناك العديد من الأسباب التي تدعونا إلى الشك في تخلي كوريا الشمالية في أي وقت في المستقبل عن الأسلحة، والتي تفسر أكثر من أي شيء آخر رغبة أميركا في التعامل معها بجدية ونداً لند. وبالإضافة إلى ذلك، لم تكن تجربة أوكرانيا؛ الدولة التي تخلت عن أسلحتها النووية، وعلى الرغم من ذلك لم يحرك العالَم ساكناً عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم، لتقدم لكيم جونغ أون أي سبب يحمله على أن يحذو حذوها. وبوسعنا أن نقول الشيء نفسه عن ليبيا، بالنظر إلى المصير الذي انتهى إليه العقيد معمر القذافي.
هناك أيضاً سبب وجيه للشك في إقدام كوريا الشمالية؛ الدولة الأكثر انغلاقاً وسرية، على السماح بذلك النوع من عمليات التفتيش الدولية المتطفلة التي ستكون لازمة للتحقق من امتثالها للتعهدات المنصوص عيها في أي اتفاقية في المستقبل.
يبدو أن ترامب يعتقد أن بالإمكان حمل كيم على الامتثال -ليس ببساطة من خلال التهديد والضغوط فحسب، بل وأيضاً من خلال الإطراء والوعود. وقد أذاع البيت الأبيض مقطع فيديو من أربع دقائق أظهر كيم على أنه رجل قد يتحول إلى شخصية تاريخية عظيمة إذا تغير بشكل جوهري. كما كان الفيديو حريصاً كل الحرص على إظهار ما قد تجنيه كوريا الشمالية اقتصادياً إذا لبت المطالب الأميركية. بل إن الرئيس تحدث عن الإمكانات التي يتمتع بها الشمال كموقع للتطوير العقاري والسياحة.
ولكن، لم يخطر في ذهن ترامب كما يبدو أن مثل هذا المستقبل يحمل من المخاطر أكثر مما يحمل من وعود من منظور شخص حكمت أسرته بقبضة من حديد لثلاثة أجيال. فربما تجد كوريا الشمالية المفتوحة على رجال الأعمال من الغرب نفسها قريباً مخترقة بالأفكار الغربية. ومن المؤكد أن الاضطرابات الشعبية ستتبع ذلك.
يؤكد ترامب أهمية العلاقات الشخصية، وقد ادعى أنه أنشأ علاقة شخصية مع كيم في غضون ساعات. وتحدث أكثر من مرة عن الثقة التي يكنها لزعيم يحمل سجلاً من قتل الذين يراهم على أنهم أعداؤه (ومنهم عمه وشقيقه). وكل هذا يقلب رأساً على عقب مقولة رونالد ريغان “ثِق، ولكن تحقق”، لكي تتحول إلى “لا تتحقق، ولكن ثِق”.
الواقع أن بعض تعليقات ترامب بعد القمة أضعفت في الحقيقة إمكانية تحقيق أهدافه. ذلك أن تصويره للقمة على أنها نجاح عظيم أسهم في تمكين حل المشكلة النووية من شأنه أن يزيد إلى حد كبير من صعوبة الحفاظ على الدعم الدولي للعقوبات الاقتصادية التي ما تزال مطلوبة للضغط على كوريا الشمالية. كما أساء ترامب لنفسه عندما أعلن من جانب واحد أن الولايات المتحدة لم تعد تقوم بما وصفه بأنه ألعاب حرب “استفزازية”، والمعروفة أيضاً بمسمى التدريبات العسكرية التي كان الهدف منها ضمان الاستعداد وتعزيز الردع. وبهذا فإنه لم يزعج العديد من حلفاء الولايات المتحدة فحسب، بل وتنازل أيضاً عن ما كان بوسعه أن يقايض عليه في مقابل تنازل من جانب كوريا الشمالية.
مكمن الخطر بطبيعة الحال هو أن تفشل المفاوضات اللاحقة، لكل هذه الأسباب، في تحقيق نزع السلاح النووي الكامل القابل للتحقق في كوريا الشمالية، وهو ما قالت الولايات المتحدة إنه لا بد أن يحدث قريباً. ومن المرجح أن يبادر ترامب آنئذ إلى اتهام كيم بخيانة الثقة.
في هذه الحالة، ستجد الولايات المتحدة نفسها أمام ثلاثة خيارات. فهي ربما تقبل بما هو أقل من النزع الكامل للسلاح، وهي النتيجة التي قال ترامب وكبار مساعديه إنهم سيرفضونها. وقد تفرض حتى عقوبات أكثر صرامة، والتي من غير المرجح أن تتقبلها الصين وروسيا. أو ربما تعيد تقديم التهديد باستخدام القوة العسكرية، وهو ما ستقاومه كوريا الجنوبية بشكل خاص.
ولكن، إذا استنتج ترامب أن الدبلوماسية فشلت، فربما يختار على الرغم من ذلك العمل العسكري، وهو المسار الذي اقترحه جون بولتون قبل أن يصبح مستشاراً للأمن القومي. وهذا ليس الإرث الذي تصوره ترامب من قمة سنغافورة، لكنه يظل أكثر احتمالاً من الإرث الذي قد تحملنا التغريدات المتفائلة على تصوره.