من النادر أن تشتهر شخصية في التاريخ كما اشتهر الكاتب جان جاك روسو (1712 ـ 1778)، فقد كان من أشهر فلاسفة عصر التنوير الأوروبي، وجميع المؤرخين يتكلمون عن مدى تأثيره على شخصيات ثقافية وسياسية خلدها التاريخ مثل أيمانويل كانت وفريدريك شيلر وكارل ماركس وتوماس جيفرسن وماكسيمليان روبسبير. وامتد تأثيره ليشمل أحداثا تاريخية غيرت التاريخ مثل الثورة الفرنسية، حيث كان تأثيره بالغا على اليعاقبة الذين قادوا الثورة. وكان روسو فيلسوفا وروائيا وموسيقيا وعالما في تربية الأطفال، ولكن حياته كانت مليئة بالمفاجآت والتناقضات.
ولد روسو في مدينة جنيف السويسرية عام 1712 وكانت المدينة آنذاك مختلفة جدا عما هي عليه في الوقت الحاضر، فقد كانت مدينة صغيرة لا يتجاوز عدد سكانها العشرين ألفا. وكانت حكومة المدينة على شكل مجلس مكون من العوائل الغنية، ولكن المستوى الاقتصادي بشكل عام كان سيئا، ولذلك كانت المدينة تعاني من هجرة واسعة لسكانها إلى مختلف أصقاع العالم.
الموسيقي البائس
أما الأيديولوجية السائدة فقد كانت المذهب المسيحي الكالفيني. وكان من أبرز الصناعات فيها صناعة الساعات، التي كانت قد انتقلت إلى المدينة مع هجرة الفرنسيين البروتستانت إليها من فرنسا، بسبب تعرضهم للاضطهاد الديني العنيف من قبل ملك فرنسا الكاثوليكي في القرن السادس عشر. ولكن صانعي الساعات في مدينة جنيف كانوا أكثر من مجرد حرفيين من الطبقة العاملة، حيث عرفوا بقراءتهم لأشهر كتاب عصرهم، الذين كانوا يميلون إلى مناصرة حقوق الطبقة العملة، وكانوا يمثلون نوعا من المعارضة ضد الطبقة الغنية التي تحكم المدينة.
كانت صناعة الساعات مهنة عائلة روسو، وكان جان جاك روسو فخورا بكونه من صناع الساعات في جنيف، وطالما كان يقول إن صانع ساعات من جنيف يستطيع الدخول في أي وسط اجتماعي، أما صانع ساعات من باريس فلم يكن قادرا على التكلم في أي موضوع سوى الساعات». وعندما غدا كاتبا كان يوقع بالشكل التالي «جان جاك روسو، مواطن من جنيف» ومع ذلك لم يجد روسو أي صعوبة في التخلي عن جنسيته ومذهبه ثم العودة إليهما، حسب مصلحته الشخصية.
توفيت والدته بعد عدة أيام من ولادته وكان لهذا أثر بالغ عليه، وقام بتربيته والده الذي شجعه على القراءة، ولكن روسو لم يتلق تعليما يذكر في مدرسة، وكان التدريب الوحيد الذي تلقاه هو فن صناعة الساعات. ولكنه تأثر بالجو السياسي السائد في المدينة، وغادر مدينة جنيف عندما كان في الخامسة عشرة من عمره، واستمر في التنقل من مدينة إلى أخرى ومن مهنة إلى أخرى بدون أن يتعلم شيئا يذكر حتى بلغ الخامسة والعشرين، عندما انكب على القراءة والدراسة.
من الممكن القول إن روسو كان شخصا بائسا جدا، وامتاز بشخصية بالغة الحساسية والتوتر، فقد عانى من هوس الأمراض الخيالية منذ صغره، وظل يعاني هذه المشكلة حتى أنه كتب عندما تقدم به السن بأنه مصاب بالجنون. وكان يجد صعوبة بالغة في الجلوس والانكباب على القراءة أو الكتابة. والأغرب من ذلك كان اعتقاده الدائم بأن هناك مؤامرة تحاك ضده، وبشكل خاص من قبل الأشخاص الذين كانوا يساعدونه، ومن غرائب شخصيته أيضا حبه لجذب انتباه الآخرين. ولذلك فإنه لم ينجح في أي شيء حتى بلغ الخامسة والعشرين من عمره، حيث أنه كان موسيقيا سيئا وسكرتيرا فاشلا وعجز عن تكوين صداقات مع الآخرين ولم يستطع إتقان أي لغة أجنبية، ولذلك باءت محاولاته للعمل كمترجم بالفشل. وكل هذه الصفات كانت تعطي انطباعا سيئا عنه. وعندما لحن أول عمل أوبرالي له لم يصدق الذين عرفوه بأنه كان قادرا على ذلك. ولكنه مع ذلك استطاع أن يجبر نفسه على القراءة عندما كان في أواسط العشرينيات، ونجح عندما كان في سن الثامنة والثلاثين في نشر كتاب ينتقد فيه الحضارة الإنسانية واتهمها بإفساد الإنسان وإن سقوط الإنسان الأخلاقي حدث بسبب ظهور المجتمع.
وعندما بلغ روسو الخمسين من عمره نشر ثلاثة كتب وأشهرها «أيميل» الذي كان عن تربية الأطفال والقيم العائلية وأهمية العائلة في المجتمع، وهو الذي لم يتزوج عشيقته وأنجب منها. وكان أغرب ما فعله هو التخلي عن جميع أولاده الخمسة لدار الأيتام فور ولادتهم. وكانت حججه واهية، فقد ادعى أنه أقنع والدتهم بالقبول للحفاظ على سمعتها لأنه لم يتزوجها، ولكن إذا كان ادعاؤه صحيحا فلماذا لم يتزوجها. وقد يكون سبب عدم زواجه منها نرجسيته التي طغت على أفكاره، فقد كانت عشيقته عبارة عن خادمة في البيوت، ما جعل زواجهما إهانة له، وهو نفسه كان والده من الطبقة العاملة، وهو أيضا من أشهر من دافعوا عن حقوق الطبقات العاملة. وأدعى في كتابات أخرى أنه لم يكن قادرا من الناحية المادية على إعالة الأطفال. وكتب في مناسبة أخرى أنه قام بذلك لأن تربية الأطفال كانت ستأخذ من وقته الكثير، ما كان سيمنعه من التأليف. وادعى أيضا أن التعليم البسيط الذي قد يوفره دار الأيتام كان أفضل للأطفال. ولكننا لن نعلم أبدا أيا من الأسباب المذكورة أعلاه كان السبب الحقيقي، وقد شكك أحد المؤرخين بالقصة بأكملها وذكر احتمال أن هؤلاء الأطفال لم يكونوا موجودين أصلا، وأن القصة من نسج خيال روسو نفسه، وقد تكون خدعة منه لجذب الانتباه. وكانت حكاية أطفال روسو خير وسيلة لتوجيه النقد اللاذع له من قبل أعدائه، خاصة فولتير الذي سرعان ما انقلب عليه. وادعى روسو أيضا انه ندم على فعلته بعد عشر سنوات من تخليه عن ابنه البكر، فعاد إلى دار الأيتام للبحث عنه ولكنه لم يستطع العثور على أي وثائق تدله عليه. ومما هو جدير بالذكر أنه حسب الإحصائيات حول نسبة وفيات الأطفال في تلك الملاجئ بسبب سوء الظروف المعيشية في ذلك الوقت، كانت 75٪، أي أن ما فعله روسو بأطفاله كان في الواقع حكما بإعدامهم.
والغريب في الأمر أن روسو كان قد نشر أحد أشهر الكتب عن تربية الأطفال في القرن الثامن عشر، وقال في أحد كتبه إن حقوق الأم الأهم في الحياة وإن العصيان المستمر لأوامرها يعد خطيئة، ومن الواضح أن كلامه لم يشمل والدة أطفاله.
وفي عام 1760 نشر قصة «جولي» (1761) وكانت من 800 صفحة وأحداثها مأخوذة من علاقاته الغرامية، وأصبحت هذه القصة الأكثر مبيعا في أوروبا القرن الثامن عشر. ويدعي بعض النقاد أن سبب نجاحها كان وصفه الرائع للريف السويسري، ولكن آخرين يؤكدون أن السبب الحقيقي كان تلك اللمحات الجنسية الواضحة بمعايير ذلك العصر. وتلى ذلك كتاب «العقد الاجتماعي» (1762) الذي ذاع صيته ويعتبر أكثر الكتب تأثيرا على الثقافة السياسية الغربية في القرن الثامن عشر. وفكرة «العقد الاجتماعي» في الواقع لم تكن جديدة، حيث كانت قد ظهرت في كتابات بعض الفلاسفة الإغريق ثم أسهب في التعمق فيها الفيلسوف البريطاني توماس هوبز، ولكن روسو كان أول من أعطاها ذلك الاسم. وتعتمد هذه الفكرة على مفهوم تخلي المواطنين عن بعض حقوقهم لصالح الحاكم مقابل حمايته لحقوقهم الأخرى. وقال روسو في كتابه هذا أن الحاكم في الحقيقة هو الشعب الذي يتكون من مواطنين متساويين وأن الدين ليس سوى نوع من الطغيان. وأدى ذلك إلى حملة حكومية ضد روسو وشجبه البرلمان الفرنسي وأصدرت الحكومة الفرنسية أمرا بالقبض عليه، ونتيجة لذلك هرب روسو من فرنسا ولم يستطع العودة إلى جنيف لأن السلطات هناك كانت قد أمرت بالقبض عليه أيضا وحرق كل كتبه. وقد زاد ذلك من عقدة الاضطهاد التي لازمته طوال حياته. وللأسف فإن عدم قابليته على التفاهم مع الآخرين أوقعته في مشاكل في بريطانيا أيضا، خاصة مع الذين أرادوا مساعدته حيث سبب سوء تفاهم مع كل من أيده مثل الفيلسوف الأسكوتلندي ديفيد هيوم، ولذلك ترك روسو بريطانيا. ولم يستطع أن يتعامل مع المجتمع وعلى ما يبدو أنه كان يستمتع بعقدة الشعور بالاضطهاد، حتى انه قال «إن الاضطهاد يرفع روحي»! ولذلك فإنه كان يعتقد أن اضطهاد الآخرين له، سواء أكان مفتعلا أم حقيقيا، فإنه يعطيه نوعا من الأهمية الاجتماعية. وإذا لم يكن ذلك الاضطهاد موجودا فعليه اختلاقه. ومع ذلك فقد كان روسو يعلم جيدا كيف يستغل الآخرين والكثير من أفكاره مبنية على أفكار فلاسفة كانوا مرموقين في عهده.
الحب العظيم
بعد وفاة روسو عام 1778 نشر أحد أشهر كتبه على الإطلاق وهو كتاب «اعترافات» الذي كان في الواقع قصة حياته. ولذلك يعتبر أحد أوائل من نشروا قصة حياتهم في العالم. ويبين الكتاب صورة تراجيدية ورومانسية بشكل مبالغ به لحياته، فهو يقول بأنه كاد أن يموت عند ولادته وأن والدته توفيت بعد ذلك بأيام، ما سبب له ألما شديدا بقية حياته. وقد كتب روسو الكثير عن الأم وقدسيتها. ولا نعلم إن كان ما كتبه في هذا السياق تعبيرا عن شعوره أو محاولة منه لاستجداء عطف الآخرين. وكان هو نفسه من كتب في كتب أخرى أن الطفل لا يعي أهمية الموت، ولذلك فإنه لا يشعر بألمه. وقد يكون سبب اهتمام روسو بوالدته أنها كانت تنتمي إلى أسرة مرموقة، على عكس والده. ونعود إلى كتابه «اعترافات»، الذي ذكر فيه الكثير من التفاصيل الخيالية عن أسرته وأجداده، وكيف التقى والداه لأول مرة والحب العظيم الذي جمعهما، وفي الواقع أن والدته تعرضت لتحقيق السلطات بتهمة إقامة علاقة مع رجل متزوج قبل زواجها من والده.
توفي روسو عام 1778 ودفن إلى جانب فولتير في مقبرة البانثيون الشهيرة في باريس، وتحوي هذه المقبرة رفات أشهر شخصيات فرنسا الثقافية مثل ديدرو وبيكو. وبذلك أصبح روسو مصاحبا إلى الأبد لمن أثار المشاكل معهم، فقد انتقده فولتير بقسوة، أما ديدرو فقد قال عن روسو إنه « مزيف ومغرور كالشيطان وجاحد ومولع بالنقد وشرير ويمتص الأفكار مني ثم يستعملها بنفسه ضدي». وبالطبع لن يثير روسو هذه المرة أي مشاكل معهم في البانثيون.
لقد ألف روسو واحدا وعشرين كتابا ولحن خمس قطع موسيقية، ويقال إن الموسيقار الألماني بتهوفن» قد اقتبس من إحداها.
ولكن لماذا روسو بهذه الشهرة وهو الذي أاتّهِمَ بكتابة الهراء؟ لقد كتب روسو أشياء أثارت حماس الطبقات المتعلمة المضادة للكنيسة والطبقات الحاكمة الأوروبية في عهده، وكان موقف السلطات الفرنسية ضده وانتقاد الفلاسفة الكبار له سببا آخر لشهرته. ولكن أكثر ما دعم شهرته كان تبني قادة الثورة الفرنسية لأفكاره.
زيد خلدون جميل
القدس العربي