بعد مُضيّ ما يقرب من شهرين على اندلاع حرب “عاصفة الحزم” في اليمن فجر يوم الخميس 26 مارس 2015 بات في مقدورنا أن نقول:إن هذه الحرب تفجرت بسبب حدوث اختلال شديد في توازن القوى الإقليمي وبصفة خاصة على محور “طهران- الرياض”، وأن هذه الحرب سوف تنتهي حتمًا بفرض معادلة توازن قوى جديدة أو بديلة عن تلك التي دفعت السعودية لخوض هذه الحرب بتحالف عربي تشارك فيه مصر والسودان وباقي دول مجلس التعاون الخليجي، فأي معادلة توازن قوى سوف تفرضها هذه الحرب؟
هذا هو السؤال المحوري الذي لا يشغل فقط طهران والرياض أو القوى والأطراف الإقليمية الأخرى، بل وأيضًا القوى الدولية المتنافسة في الشرق الأوسط: الولايات المتحدة ومعها فرنسا في مواجهة روسيا والصين، ولعل هذا ما جعل مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية تكتب أن إدارة أوباما “تبدو عالقة بين حليفين” (السعودية والعراق والمقصود بالطبع إيران ومعها العراق) بسبب الحرب المتصاعدة في اليمن خصوصًا بعد الاتهام الذي وجّهه حيدر العبادي رئيس الحكومة العراقية عقب لقائه في واشنطن مع الرئيس الأمريكي باراك أوباما للسعودية “بالشروع في انتزاع سلطة إقليمية بضرباتها العسكرية ضد متمردي الحوثي”. المجلة نقلت عن العبادي قوله أيضًا إن “الرياض تتدخل بشكل غير صحيح في اليمن وأن إدارة أوباما تقر وجهة نظره”. هذا القول أزعج الإدارة الأمريكية وجعلها تسارع بنفي انتقاد أوباما لحرب “عاصفة الحزم”، واختتمت المجلة تعليقها بأن “تصريحات العبادي تعكس إلى حد كبير معارضة إيران للأحداث التي تجري في اليمن، والتي باتت تنظر إليها على أنها حرب بالوكالة في الشرق الأوسط: إيران الشيعية والسعودية السنية”.
أولا- إيران والحرب المكشوفة
تخطئ الفورين بوليسي في تقديرها للحرب الدائرة الآن في اليمن، فهي ليست حربًا بالوكالة بين إيران والسعودية على نحو ما هو حادث في العراق وسوريا ولبنان، فالحرب في اليمن أرادتها السعودية لحساباتها الخاصة أن تكون حربًا مكشوفة لأسباب كثيرة أبرزها، أن موقع اليمن شديد الخطورة بالنسبة للأمن الاستراتيجي السعودي، وأن نجاح التغلغل الإيراني في اليمن وتحويل اليمن إلى عراق آخر يمثل تهديدًا مباشرًا للأمن الوطني السعودي بكل مفاهيمه السياسية والاجتماعية والعسكرية خصوصًا في ظل الوجه الطائفي الفاقع لجماعة “أنصار اللـه” وتزامن الانقلاب الحوثي على السلطة الشرعية في اليمن مع نجاحات إيران النووية من ناحية وغرور القوة الذي أصاب إيران في العراق عقب نجاح معركة تحرير تكريت، ومنها أيضًا إدراك السعودية أن نجاح سيطرة الحوثيين على الحكم في اليمن بدعم ورعاية إيرانية يعني فرض معادلة توازن قوى إقليمية جديدة تسعى إيران إلى أن تكون الوجه الثاني لنجاحاتها على الصعيد النووي بدعم من القوى الدولية الست شريكة إيران في اتفاقها النووي وعلى الأخص الولايات المتحدة الأمريكية، وخشية السعودية أن يكون سقوط اليمن في أيدي إيران إيذانًا بقبول أمريكي لواقع جديد في الأزمة السورية يسمح لبشار الأسد أن يكون ضمن معادلة مستقبل سوريا.
لذلك أرادتها السعودية مواجهة مكشوفة هذه المرة مع إيران، على أمل فرض معادلة بديلة تجعل من إفشال المخطط الحوثي- الإيراني المدعوم من الرئيس المعزول علي عبد اللـه صالح وأجنحته العسكرية مدخلًا لحل ترضى عنه الرياض في سوريا حتى ولو كان هذا الحل ليس على هوى الحليف الأمريكي. لكن يبدو أن إيران لم تستطع قراءة الموقف السعودي الجديد ولا الوعي بخلفياته.
لقد أوقعت حرب “عاصفة الحزم” في اليمن القيادة الإيرانية في حرج شديد من منظور “اختبار القوة” بعد أن تم التوقيع على “الاتفاق الإطاري” لأزمة برنامجها النووي. كان السؤال المحوري، ضمن حزمة من عشرات الأسئلة الفرعية هو: هل ستسقط إيران في غواية تفوق القوة وتخطئ في قراءة ما حولها من تطورات واستفزازات، وتتورط في الحرب دفاعًا عن الحوثيين، أم ستنجح في الاختبار وتُخطِّئ كل توقعات أعدائها ومنافسيها وتثبت للأعداء والأصدقاء أنها داعية سلام وليست داعية حرب، وأنها صاحبة مشروع محاربة الاستكبار وليست دولة استكبار؟
اختبار القوة الذي تعرضت، وتتعرض له إيران الآن جاء ضمن تطورات وتداعيات الأزمة اليمنية كان له ما يبرره لكن كانت له أيضًا نتائجه السيئة التي حتمت وفرضت ردود فعل لم تتوقعها إيران من الأطراف الأخرى. فقبل أسابيع قلائل من تفجر الأزمة اليمنية على النحو الذي هي عليه الآن وضمن نشوة إيران بمشاركتها في حرب تحرير مدينة “تكريت” بمحافظة صلاح الدين العراقية جاءت تصريحات علي يونسي مستشار الرئيس الإيراني، عن عودة “الإمبراطورية الإيرانية” وعن أن العراق كان وسيظل عاصمة لهذه الإمبراطورية، وأن ما يربط إيران بالعراق خياران: إما الوحدة وإما الحرب. وبعدها كانت تصريحات قيادي إيراني آخر عن أن إيران باتت صاحبة القرار في أربع عواصم عربية: بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء، وجاءت تعليقات وكالة أنباء “مهر” الإيرانية شبه الرسمية وعلى لسان رئيس تحريرها حسن هاني زادة لتحسم حقيقة الإدراك الإيراني للعراق، وكونه أضحى “محمية إيرانية” أو “ولاية إيرانية” ضمن ولايات “إمبراطورية إيران” على أرض العرب.
فقد دعا حسن هاني زاده العراق للوحدة مع إيران على أسس طائفية، وحض العراقيين على “ترك العروبة المزيفة الجاهلية وتراب الذل العربي”. ولفت زاده الأنظار إلى أن الأغلبية من سكان العراق “معروفة بانتمائها العقائدي إلى مذهب أهل البيت”، واعتبر أن هذا الانتماء هو سبب عداء الأنظمة العربية للعراق، وهو أيضًا سبب الإرهاب المتفشي في العراق “الأمر الذي يظهر الحقد العربي الدفين ضد مذهب أهل البيت”.
هذه الأفكار كشفت أو بالأحرى نجحت في تعرية حقيقة الدور الإيراني ورسالة الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ليس فقط في العراق بل في كل بلد عربي يدخل الشيعة كأحد مكوناته، حيث يتضح أن المكون الشيعي العربي هو، من منظور الفكر الإستراتيجي الإيراني، أهم مرتكزات توسع وتمدد النفوذ الإيراني. والعواصم العربية الأربع التي جرى اعتبارها عواصم خاضعة للنفوذ الإيراني، وأن إيران هي صاحبة الكلمة العليا بها جاء ضمن أولوية البُعد الطائفي أو “السلاح الطائفي” وليس للمقاومة ولا محاربة الاستكبار أي صلة ضمن هذا المشروع.
الاستعلاء الإيراني في العراق الذي كشف عن نفسه في التضخيم من دور فيلق القدس الإيراني بزعامة الجنرال قاسم سليماني في حرب تحرير تكريت عبر الإعلام وعبر تلك التصريحات المشار إليها وجد ما يفنده داخل العراق على لسان المرجع الشيعي الأعلى في العراق السيد علي السيستاني وعلى لسان حيدر العبادي رئيس الحكومة العراقية، وعلى لسان كبار المسئولين العراقيين وزعماء العشائر في محافظة الأنبار الذين رفضوا بشدة مشاركة “الحشد الشعبي” في حرب تحرير الموصل حتى لا تتعرض الموصل بعد تحريرها من عصابات “داعش” إلى حرب تنكيل طائفي على أيدي عصابات الحشد الشعبي الموالية لإيران والخاضعة لإمرة ضباط قاسم سليماني على نحو ما حدث لأهالي تكريت على أيدي متطرفين شيعة موالين لإيران ضمن الحشد الشعبي.
فقد اهتم السيد السيستاني، وعلى لسان ممثله في خطبة الجمعة في كربلاء أحمد الصافي أن يؤكد ما نصه: “إننا نعتز بوطننا وبهويتنا وباستقلالنا وبسيادتنا. وإذا كنا نرحب بأي مساعدة تقدم لنا اليوم من إخواننا وأصدقائنا لمحاربة الإرهاب، ونحن نشكرهم عليها، فإن ذلك لا يعني، في أي حال من الأحوال، أن نغض الطرف عن هويتنا واستقلالنا، كما ذهب إليه بعض المسئولين في تصوراتهم”. كما أكد السيستاني على أن “العراق سيكون كما كان دائمًا، منيعًا إزاء أي محاولة لتغيير هويته، وتبديل تراثه، وتزييف تاريخه”.
رد حاسم جاء متسقًا ومتوافقًا مع اعتراض رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي على ظهور قاسم سليماني في الرمادي. رفض العبادي هذا الظهور، وحذر منه، لأنه يدرك أن أهل الرمادي يرفضون أي دور لإيران أو للحشد الشعبي في جهود تحرير الرمادي ومحافظة الأنبار بعد الجرائم التي ارتكبت ضد أهالي تكريت وممتلكاتهم من جانب متطرفين شيعة موالين لإيران ضمن قوات هذا الحشد، لكن أهم وأقوى الرسائل التي وصلت إلى إيران كانت من أهالي “النجف الأشرف” حيث قام مجهولون بتمزيق صورة كبيرة كانت قد وضعت للإمام الخميني على طريق مطار النجف الدولي خلال زيارة إسحاق جهنجيري نائب الرئيس الإيراني للمدينة” وقد حظيت هذه الحادثة بتفاعلات شعبية مثيرة على شبكات التواصل الاجتماعي التي تكاد تكون قد أجمعت على مقولات من نوع أن “صور المراجع الإيرانية التي تنشرها الميليشيات الحليفة لطهران في الشوارع العراقية تسيء إلى سيادة العراق”.
يبدو أن إيران لم تقرأ هذا كله، أو بالأحرى لم تكترث بهذا كله ولذلك جاءت ردود فعلها عصبية وغاضبة ضد “عاصفة الحزم”، التي اعتبرتها “عدوانًا سعوديًا على سيادة اليمن”، وهي ردود فعل كشفت سقوط إيران في مستنقع “اختبار القوة”. ففي الوقت الذي كانت تتفاقم فيه المخاوف الإقليمية خاصة السعودية والخليجية، ناهيك عن الدعايات الإسرائيلية، من خطورة “البُعد الثاني” للاتفاق النووي الإيراني الخاص بالدور الإقليمي والمطامع الإقليمية لإيران، لم تستطع إيران أن تتكتم أطماعها في اليمن ومشروعها نحو تمكين الحلفاء الطائفيين (أنصار اللـه – الحوثيين) مقاليد السلطة والحكم في اليمن، بعد أن تم ضم صنعاء ضمن العواصم الأربع المسيطر عليها إيرانيًا أو الخاضعة للنفوذ الإيراني.
في البداية حرصت إيران على أن تفيق سريعًا من هول المفاجأة والصدمة التي أحدثتها حرب “عاصفة الحزم” والتحالف العربي في هذه الحرب الذي أعقبه دعم رسمي من القمة العربية الدورية السادسة والعشرين التي عقد في شرم الشيخ (28-29 مارس 2015) بعد يومين فقط من اندلاع هذه الحرب. حاولت إيران ترويع وإخافة السعودية وحلفائها، لكنها وبعد أن تأكدت من قوة وجدية التحالف واتساع رقعة دعمه إقليميًا ودوليًا بدأت تركز على أولوية الحل السياسي، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه بالسياسة الذي لم تعد ضمانته بالحرب ممكنة.
أقوى وأعنف رد فعل عصبي إيراني جاء على لسان المرشد الأعلى السيد على خامنئي في حديث تليفزيوني الذي رأى أن “السعودية ستتلقى الضربة فيما يحدث في اليمن، ويمرّغ أنفها بالتراب” مضيفًا أن “أمريكا ستتلقى هي الأخرى ضربة وتهزم في اليمن”. ورأى خامنئي أن السعودية “أخطأت باعتدائها على اليمن” وأن المملكة أسست لما أسماه بـ “بدعة سيئة في المنطقة” وشبَّه حرب عاصفة الحزم (الحملة العسكرية السعودية) بما قام به الكيان الصهيوني ضد قطاع غزة، واصفًا تلك العاصفة بـ “الجريمة” و”الإبادة الجماعية”.
وبعد أن نجحت بحرية عاصفة الحزم (خاصة البحرية المصرية) في فرض حصار بحري محكم على السواحل اليمنية لمنع تمرير أي مساعدات عسكرية أو اختراقات إيرانية لليمن أرسلت إيران عددا من القطع البحرية الإيرانية لترابط بالقرب من باب المندب في إشارة رمزية إلى “الوجود العسكري الإيراني” لكن الجهود الإيرانية الأبرز كانت في اتجاهين:
الاتجاه الأول مع الشركاء الإقليميين خاصة كل من تركيا وباكستان باستخدام كل وسائل الإغراء لمنع أي منهما من المشاركة في الحرب إلى جانب السعودية، والاكتفاء بدور الوسيط في الحل السياسي المنتظر. وقد نجحت إيران بتفوق في ذلك حيث صوت البرلمان الباكستاني ضد أي تورط في الحر بالبرية في اليمن مكتفيًا بتأكيد نوابه الدفاع عن السعودية ضد أي اعتداء. حدث ذلك ضمن حملة دبلوماسية موسعة شملت لقاء وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف بقائد الجيش الباكستاني رحيل ظريف في إسلام أباد، واتصال علي لاريجاني رئيس مجلس الشورى الإيراني (البرلمان) بنظيره الباكستاني، فقد اعتبر لاريجاني أن السعودية “تحتل اليمن” ودعا “الدول المحتلة” (المشاركة في عاصفة الحزم) إلى “استخلاص العبر من ورطة الاتحاد السوفيتي (السابق) ومن بعده الولايات المتحدة وحلف الناتو في أفغانستان. وشد لاريجاني خلال تواصله الهاتفي مع نظيره الباكستاني سردار عياض صادق على ضرورة دعم بلاده “للحل السياسي” بين جميع الأطراف في اليمن، مشيرًا إلى أن عملية عاصفة الحزم السعودية :تتسبب في قتل المسلمين، وتؤدي إلى هدم البنية التحتية للبلاد”.
ولم يكن نجاح إيران مع تركيا أقل من نجاحها مع باكستان فالرئيس التركي الذي كان قد أدان رد الفعل الإيراني من “عاصفة الحزم”، واتهم إيران بالسعي إلى الهيمنة على المنطقة، مطالبًا إياها بالانسحاب من اليمن مع الجماعات الإرهابية الأخرى (يقصد الحوثيين)، واصفًا إيران في سياق الحملة نفسها، بمعنى أنها أيضًا إرهابية، تراجع وقبل أن يفي بزيارته إلى طهران، وهناك كان حريصًا على إرضاء إيران بالنسبة للقضايا الخلافية سواء بالنسبة لليمن أو سوريا.
فإردوغان لم يتطرق في مؤتمره الصحفي مع نظيره الإيراني حسن روحاني إلى الموضوع اليمني، واهتم بالدعوة إلى تصحيح الخلل في الميزان التجاري بين البلدين الذي يعمل لصالح إيران، وإلى النهوض بالتبادل التجاري بين البلدين إلى مستوى الـ 30 مليار دولار بعد أن تراجع في العام الأخير إلى 15 مليار دولار، كما اهتم بالدعوة إلى أن تتم المبادلات التجارية بين البلدين بعملتيهما وليس بالدولار الأمريكي أو اليورو الأوروبي، في حين كان الرئيس الإيراني أكثر حرصًا على إظهار توافق إيراني – تركي بخصوص الأزمة اليمنية يقوم على ضرورة إنهاء الحرب بأسرع ما يمكن والتوصل إلى وقف شامل لإطلاق النار، ووقف الهجمات. وقال أن البلدين، بمساعدة دول أخرى بالمنطقة، “يعملان لإقرار السلام والاستقرار وإقامة حكومة موسعة في اليمن”.
أما الاتجاه الثاني فكان عبر مجلس الأمن من خلال دور الحليف الروسي الذي قام بدور المعرقل لصدور قرار من مجلس الأمن أعدته دول مجلس التعاون. فقد أصرت روسيا على أن يتضمن مشروع القرار الخليجي مطالب تراها موسكو ضرورية أبرزها أن يكون حظر توريد السلاح للطرفين المتقاتلين في اليمن ما يعني وضع الحوثيين وحليفهم علي عبد الله صالح بموازاة السلطة الشرعية ممثلة في الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، وتحويل أزمة اليمن إلى أزمة مشابهة للأزمة الليبية التي تتميز بغياب السلطة الشرعية المعترف بها دوليًا.
لكن التراجع الروسي عن أبرز هذه المطالب لأسباب مازالت غير مفهومة، أو ربما لصفقات أيضًاغير مفهومة أدت إلى صدور قرار قوى من مجلس الأمن تدعم الشرعية في اليمن هو القرار رقم 2216 الذي صدر بشبه إجماع حيث أيدته 14 دولة (من أصل 15 دولة) في حين اكتفت روسيا بالامتناع عن التصويت. فقد طالب هذا القرار الحوثيين بوقف استخدام العنف وسحب قواتهم من صنعاء وبقية المناطق، وفرض حظر على توريد السلاح للحوثيين وقوات علي عبد اللـه صالح، ودعا الأطراف اليمنية إلى الاستجابة لدعوة الرئيس عبد ربه منصور هادي للحوار في الرياض، وإلى تسهيل إيصال المساعدات الإنسانية إلى اليمن. وطالب جميع الأطراف بالتفاوض في أسرع وقت ممكن للتوصل إلى وقف سريع لإطلاق النار، وطالب القرار جماعة أنصار اللـه (الحوثية) بتنفيذ سبعة مطالب رئيسية تتمثل في الكف عن استخدام العنف، وسحب قواتهم من جميع المناطق لتي استولوا عليها بما في ذلك العاصمة صنعاء، والتخلي عن جميع الأسلحة الإضافية التي استولوا عليها من المؤسسات العسكرية والأمنية، والتوقف عن جميع الأعمال التي تندرج ضمن نطاق سلطة الحكومة الشرعية، والإفراج عن جميع السجناء السياسيين وجميع الأشخاص الموضوعين رهن الإقامة الجبرية أو المحتجزين تعسفيًا، وإنهاء تجنيد الأطفال واستخدامهم، وتسريح جميع الأطفال المجندين في صفوفهم.
ثانيا- إعادة الأمل من خلال إعادة التوازنات
كان قرار مجلس الأمن 2216 الدافع الأساسي لإعلان السعودية وقف “عاصفة الحزم” وبداية مرحلة “إعادة الأمل”. ربما يكون المسمى متفائلًا أكثر مما يجب، وربما يكون من المبكر الحديث عن تغيير واسع وسريع للمشهد الإستراتيجي في المنطقة. لكن الدينامية التي أطلقها «التحالف العربي» في اليمن لن تتوقف. وهي كفيلة في النهاية بإحداث تغييرات في هذا المشهد تضمن إرساء ميزان قوى جديد. وترسخ دور الدول العربية عمومًا، ودول مجلس التعاون خصوصًا، في تولي أمر أمنها وحماية مصالحها الحيوية. وربما تكون القوة العربية المشتركة التي أقرتها قمة شرم الشيخ ترجمة لقرار «التحالف»، سواء انخرطت فيها كل دول الجامعة، أو اقتصرت على عدد بعينه. المهم أن دول «عاصفة الحزم» قادرة بجيوشها وأجهزتها العسكرية على توفير القوة اللازمة.
«عاصفة الحزم» حققت الأهداف الأولى من الحرب. قضت على معظم الآلة العسكرية للحوثيين وحليفهم الرئيس السابق علي عبداللـه صالح. لم يعد بإمكانهم تهديد مدن الجنوب والشرق والوسط، واستكمال سيطرتهم على كامل البلاد، وإسقاط ما بقي من رموز الشرعية تاليًا. كما لم يعد بمقدور ترسانتهم الصاروخية والجوية أن تشكل تهديدًا جديًا للمملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى، أو تهديد الملاحة الدولية في مياه البحر الأحمر أو التلويح بإقفال باب المندب. لكن «إعادة الأمل» في المقابل لم تساهم حتى الآن في دفع جميع الأطراف إلى تنفيذ كامل لمنطوق القرار 2216، خصوصًا استئناف الحوار السياسي. ليس بسبب عقدة في تحديد المكان، ولكن بسبب الخلافات حول الشروط التي يتداولها الطرفان. الشرعية الممثلة بالرئيس عبد ربه منصور هادي وحكومته تصر على تنفيذ الحوثيين وأنصار صالح ما نص عليه القرار، أي الانسحاب من كل المواقع التي احتلوها وإعادة كل السلاح الذي نهب من الثكنات والمواقع العسكرية. بينما يشترط الرئيس السابق وعبدالملك الحوثي وقف الغارات الجوية. وترفض الحركة الاعتراف بشرعية الرئيس هادي.
لا يراهن أحد بالطبع على دعوات الرئيس صالح من أجل وقف القتال والعودة إلى مائدة الحوار. فهو لا يبدي حرصًا على استتباب الأمن أو الحوار السياسي، بمقدار ما تهمه إعادة إنتاج مراكز القوى السابقة على الأزمة، وعلى رأسها إعادة الاعتبار إليه وإلى مجموعته. فرض عليه مجلس الأمن عقوبات قبل الحرب الأخيرة، منذ أكثر من سنة. وعندما اقترب مؤتمر الحوار الوطني من نهاياته أوائل 2013، استعجل إرسال الوفود إلى طهران طالبًا تدخلها لإقناع حليفها الحوثي بالتنسيق معه من أجل نسف المؤتمر. لو لم تتملكه الرغبة الجامحة في الانتقام ودحر خصومه وإلغائهم سياسيًا لما وقف موقف الداعم لاندفاع الحوثيين. كان باعتقاده أنه يمكن إعادة تسويق نفسه القادر الوحيد على ضبط الحركة ووقف تقدمها نحو العاصمة، ثم باقي المدن الأخرى، على أمل رفع العقوبات عنه، ودفع نجله أحمد في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
أما إيران فهي ترغب في أن يتحول اليمن إلى ساحة استنزاف للسعودية وشركائها مخافة أن يشجع نجاح “عاصفة الحزم” في اليمن على نقل التجربة بعاصفة أخرى في سوريا وبالذات في ظل الانتكاسات التي تواجه القوات الحكومية السورية في أكثر من موقع للحرب شمالًا وجنوبًا وحول العاصمة دمشق.
وبعد أن فشلت إيران في كسر الحصار المفروض على اليمن جوًا وبحرًا فإنها تركز على فرض حل سياسي بشروط حوثية حرصًا على عدم تمكين السعودية من تحقيق انتصار في اليمن.
فقد دعت إيران، وبعد يوم واحد من تعلق حرب “عاصفة الحزم” وعلى لسان رئيسها حسن روحاني على هامش مشاركته في الاحتفال بذكرى مؤتمر الدول الأفريقية والآسيوية بإندونيسيا (مؤتمر باندونج) إلى بدء مفاوضات بين كل الأطراف المتصارعة في اليمن، لكنه كان حريصًا على أن ينال من حرب “عاصفة الحزم” معنويًا بالقول أن “التاريخ أظهر أن التدخل العسكري ليس ردًا ملائمًا على الأزمات ولكنه سيؤدي إلى تفاقم الوضع” وأضاف “نؤمن أن السلام المستدام يمكن أن يسود إذا توقف التدخل العسكري وتمت تهيئة الظروف الملائمة للمحادثات والحوار بين كل الجماعات السياسية”.
والآن يبدو أن تجرؤ الحوثيين على قصف المدن السعودية الحدودية خاصة جيزان ونجران انطلاقًا من مواقعهم الرئيسية في صعدة وما ترتب عليه من إعلان قيادة التحالف “صعدة” هدفًا عسكريًا وتعرض المدينة بعد مطالبة سكانها بإخلائها إلى قصف مركز من قوات التحالف، وإعلان قيادة التحالف أيضًا عن خطة للتدخل البري في اليمن قد أدى إلى فرض معادلة توازن قوى جديدة داخل اليمن أخذت تنعكس تدريجيًا على جهود التسوية السياسية للأزمة اليمنية، لكن يبقى السؤال الأهم وهو إلى أي مدى يمكن أن تفرض تلك التطورات اليمنية مؤشرات جديدة لتوازن قوى إقليمي؟
الأمر يتوقف بالطبع على متغيرين أساسيين؛ أولهما، فرص الرياض في التوصل إلى مشروع تسوية سياسية للأزمة اليمنية، وثانيهما، موقف واشنطن الحائر بين الرياض وطهران والنتائج المحتملة لقمة كامب ديفيد الأمريكية – الخليجية يومي 13 و14 مايو 2015.
ثالثا- من توازن القوى إلى وفاق القوى
الحوارات الأولية الدائرة في الرياض مازالت معقدة خاصة مع إعلان قيادات في حزب المؤتمر الشعبي الموالي للرئيس المعزول علي عبد الله صالح تأييدها لشرعية الرئيس عبدربه منصور هادي ورفضها للانقلاب الحوثي على تلك الشرعية، لكن هذه القيادات أبدت ميولًا على أن يكون الحوار اليمني حول الحل السياسي في القاهرة وليس الرياض عكس ما نصت عليه القمة الخليجية التشاورية التي شارك فيها الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند.
كانت مشاركة الرئيس الفرنسي في هذه القمة مفاجئة ومفعمة بالمعاني والدلالات سواء من الجانب الفرنسي أم الجانب الخليجي، فقد استبق هولاند انعقاد هذه القمة (5/5/2015) ببيان مشترك صدر عن لقائه بالملك السعودي، (4/5/2015)، حمل لهجة تعكس السعي الفرنسي إلى إراحة «جيران إيران»، علمًا أن مصادر فرنسية كانت أكدت لوكالة الصحافة الفرنسية قبل أيام، أن زيارة الرئيس الفرنسي ستتضمن التوقيع على إعلان مشترك سعودي – فرنسي سيكون بمثابة «خريطة طريق» سياسية واقتصادية واستراتيجية وعسكرية، في ظل تقدم المفاوضات حول الملف النووي بين ايران والدول الغربية، لكن البيان المشترك تضمن مواقف من مجمل أزمات المنطقة، متناولا الشأن اليمني والسوري والمصري والعراقي واللبناني والليبي، كما حمل موقفا قطريا جاء على لسان وزير الخارجية القطري خالد العطية دعا فيه إلى علاقات «حسن الجوار» مع إيران، وإلى كفالة حق الحصول على الطاقة النووية لدول المنطقة «دون استثناء»، وهو ما تضمنه أيضا سلسلة عقود وقعتها الرياض وباريس بمليارات الدولارات شملت دراسة لمشروع في مجال الطاقة النووية.
وحملت القمة الخليجية- الفرنسية خطوات عملية بدت وكأن الخليجيين حاولوا الاستناد فيها إلى زخم الحضور الفرنسي في القمة، خصوصا في الملفين السوري واليمني، حيث تضمنت الاعلان على لسان الملك السعودي عن ضرورة العودة إلى مقررات مؤتمر «جنيف 1» في ما يخص الأزمة السورية، تبعه إعلان وزير الخارجية القطري خالد العطية عن «مؤتمر مرتقب للمعارضة السورية في الرياض، من أجل وضع خطة لإدارة المرحلة الانتقالية لما بعد نظام بشار الأسد». كما أعلن الملك سلمان عن خطوة موازية في الملف اليمني لاقت تأييدا من هولاند، حيث أكد على ترحيب دول مجلس التعاون «بانعقاد مؤتمر الرياض لكل الأطراف اليمنية الراغبة في المحافظة على أمن اليمن واستقراره ، وذلك تحت مظلة مجلس التعاون، قريبًا».
لكن ما هو أهم في الموقف الفرنسي تلك الرسالة الضمنية التي يمكن التعرف عليها من ثنايا تصريحات هولاند والتي تشف عن ميل فرنسي وربما أمريكي لتخفيف حدة الصدام بين إيران وجيرانها في الخليج ولكن مع حرص موازٍ يتضمن طمأنة الدول الخليجية من أنه “لا يمكن أن يكون الاتفاق النووي مع إيران سببًا أو يؤدي إلى زعزعة أمن واستقرار دول المنطقة” الأمر الذي رجح قناعة مفادها أن الرئيس الفرنسي يحتمل أن يكون قد حمل معه رسالة معنية حول أحداث المنطقة من الجانب الإيراني أو الغربي، أو رسالة مشتركة من الجانبين لدول مجلس التعاون الخليجي لم تتأكد معالمها بعد، لكن ما ورد في البيان الختامي للقمة الخليجية التشاورية بمشاركة الرئيس الفرنسي كشف بعض هذه المعالم حيث أعرب قادة دول المجلس عن “تطلعهم إلى تأسيس علاقات طبيعية مع إيران قوامها احترام أسس ومبادئ حسن الجوار، واحترام سيادة الدول، واتخاذ خطوات جادة من شأنها إعادة بناء الثقة، والتمسك بمبادئ القانون الدولي والأمم المتحدة التي تقوم على حسن الجوار وتمنع التدخل في الشئون الداخلية لدول المنطقة، والامتناع عن استخدام القوة أو التهديد بها”.
وجاءت زيارة وزير الخارجية الأمريكي جون كيري للرياض عقب هذه القمة لتكشف المزيد من المعالم. فقد تباحث كيري مع كبار المسئولين في الرياض حول الخطة الشاملة لوقف إطلاق النار في اليمن والإسراع بالحل السياسي. تلك الأولويات ذاتها هي الأولويات الإيرانية، ولذلك لم يكن مستغربًا أن تعلن إيران عن إفراجها عن السفينة المحتجزة التابعة لجزر مارشال في تزامن مع إعلان أمريكي بوقف عمليات مرافقة القطع البحرية العسكرية الأمريكية للسفن التجارية الأمريكية عند عبورها مضيق هرمز.
مقدمات مهمة يجب أخذها في الاعتبار عند البحث في النتائج المحتملة للقمة الأمريكية- الخليجية وانعكاساتها على تطورات الأحداث في المنطقة ليس في اليمن فقط ولكن في سوريا وفي العراق ومستقبل الحرب على الإرهاب.
هذه القمة تعقد في ظل تخوفات خليجية من أن يتعمد الرئيس الأمريكي باراك أوباما أن يبيع اتفاقه النووي المتوقع مع إيران لدول الخليج عبر سلسلة من التطمينات العسكرية والأمنية، بمعنى أن تحصل الدول الخليجية على الأمن من أمريكا مقابل ألا تدخل في مواجهة مع إيران تحت مزاعم المخاوف من الخطر الإيراني، خصوصًا وأن الرئيس الأمريكي كان قد سبق له في لقائه مع الكاتب الأمريكي توماس فريدمان، أن حذر الدول الخليجية من التمادي في التعامل مع إيران كمصدر للتهديد معتبرًا أن مصادر التهديد الحقيقية كامنة داخل التكوينات السياسية والاجتماعية والثقافية لهذه الدول.
مسودة البيان الختامي للقمة الأمريكية- الخليجية التي كان قد جرى تسريبها وتسويقها عمدًا قبل أسبوع من انعقادها نصت على إنشاء ترسانة دفاعية للخليج ورفض زعزعة إيران للاستقرار الإقليمي، مع قبول دول الخليج للاتفاق النووي الإيراني شرط أن يضمن منع إيران من تطوير أسلحة نووية.
مظلة دفاعية أمريكية للخليج مقابل الاتفاق النووي الإيراني مع مجموعة “دول 5+1” وتوابعه من توافقات غربية على أدوار إقليمية إيرانية وتفاهمات مع إيران حول أبرز القضايا الإقليمية وفي مقدمتها بالطبع اليمن وسوريا.
واشنطن بهذا المعنى تسعى إلى تأسيس معادلة إقليمية جديدة تكون هي الممسكة بأوراقها على أمل أن ترتكز على شراكة إستراتيجية بين حلفاء واشنطن وخاصة السعودية وإيران. فهل ستنجح واشنطن في حل اللغز الذي كشفته مجلة فورين بوليسي عن حيرة واشنطن بين حليفتيها الرياض وطهران؟
إذا حدث ذلك فإن نتائج الحرب في اليمن تكون قد تواجهت مع مقدماتها. فهي قد بدأت بالصراع بين السعودية وإيران وحولت الحرب بالوكالة إلى الحرب المكشوفة، بهدف فرض معادلة توازن جديدة في غير صالح سياسة التمدد الإيرانية، وهذا يتعارض مع ما تريده وتسعى إليه واشنطن من جعل هذه الحرب مدخلًا لتوافقات إقليمية جديدة بين الرياض وطهران تحت الرعاية الأمريكية. بحيث يصبح التوافق برعاية أمريكية بديلًا لمساعي تبديل توازنات القوى في المنطقة.
د. محمد السعيد إدريس
المركز العربي للبحوث والدراسات