تقوية المحور الشيعي ستوفر فرصة متناقضة لإحلال السلام بين سوريا وإسرائيل

تقوية المحور الشيعي ستوفر فرصة متناقضة لإحلال السلام بين سوريا وإسرائيل

فيما يستعد محور الأسد-إيران-روسيا لـ”المعركة الأخيرة في إدلب”، يطرح السؤال التالي نفسه: كيف ستكون فترة ما بعد الحرب بالنسبة إلى المنطقة عند انتهاء الأحداث في سوريا؟

من الواضح أن القوات الوكيلة لإيران تفضل تأسيس سوريا جديدة وفقًا لمصالحها الاستراتيجية، ولكن هناك نقطة خلاف واضحة بين سياسات إيران التوسعية ومصالح القوى الإقليمية والدولية الأخرى في البلاد. فروسيا تفضل رؤية تدبير سياسي بين كافة الأطراف المعنية. وينوي الأسد من جهته التركيز على إعادة بناء سوريا بحيث تصبح خاضعةً لسيطرته بالكامل، فيما تتمثل المصالح السعودية والإسرائيلية بمنع تنفيذ النوايا الإيرانية في المنطقة.

وبما أن نوايا إيران تتعارض تمامًا مع الأطراف الإقليمية الأخرى، لم يتقرر حتى الآن أي رؤية ستنتصر في المنطقة. وبالتالي، إن نفوذ القوات الدولية، وخصوصًا روسيا والولايات المتحدة، هو الذي يحدد مستقبل سوريا وحجم دور إيران فيها.

ومن الواضح أن روسيا قد التزمت بتأدية دور مباشر في إرساء الاستقرار في سوريا، إلا أن دور الولايات المتحدة المستقبلي أقل وضوحًا. ولكن أحد الجوانب غير المعترف بها لهذا النزاع البارز هو أن الإدارة الأمريكية تقف اليوم أمام فرصة مهمة للعمل باتجاه أهدافها الأوسع في الشرق الأوسط، أي المصلحتين المتلازمتين المتمثلتين بالاستقرار الإقليمي واحتواء إيران، وذلك من خلال تدبير سياسي متعدد الأطراف في التوقيت المناسب بين سوريا وإسرائيل، وهما دولتان مجاورتان أدت العداوة الجيوسياسية بينهما إلى زعزعة الأمن الإقليمي طوال عقود.

وعلى وجه التحديد، إن التوصل إلى اتفاق بين الحكومتين السورية والإسرائيلية في ما يتعلق بهضبة الجولان سيقدم حلًا جديدًا لمشكلة قديمة ويمنع بروز تعقيدات جديدة في الوقت نفسه. فإيران ومن خلال الميليشيات الوكيلة لها كـ”فيلق القدس” و”حزب الله” هي في صدد تحويل أجزاء من جنوب سوريا إلى جبهة جديدة ضد إسرائيل من خلال تكييف قوات برية مع حشد صواريخ موجهة وإطلاقها بطريقة استراتيجية هناك.

وقد سعت إسرائيل إلى رسم خط أحمر أمام التدخل الإيراني في سوريا “مهما كان الثمن”، الأمر الذي أظهرته بوضوح من خلال تدابيرها الحاسمة ضد معظم البنى التحتية الإيرانية المعروفة في سوريا خلال عام 2018. وبما أن أيًا من الطرفين يبدو مستعدًا للتراجع، وفيما يتم نشر صواريخ “إس-300” الروسية في المنطقة، وصل خطر التصعيد بين إيران وإسرائيل إلى ذروته. ومن خلال لفت الأنظار الروسية والسورية إلى الجنوب عن طريق تسوية حول هضبة الجولان، يمكن التخفيف من حدة أي تصعيد إضافي مع إيران والقوات الوكيلة لها.

تحقيق السلام من خلال الأطراف الفاعلة الدولية

للمفارقة، قد تجعل التوترات الإسرائيلية-الإيرانية عدد كبير من الأطراف المنخرطة في النزاع الإسرائيلي-السوري أكثر استعدادًا للتفاوض عن طريق أطراف ثالثة. فنجاح ترامب في دعم محادثات السلام في شبه الجزيرة الكورية وصدّه القوي لإيران ينبئان كلاهما بمبادرة رئاسية معنية بخطة سلام إسرائيلية-سورية ستتضمن أيضًا مفاوضات مع حكام متسلطين لتحقيق هدف جيوستراتيجي أوسع.

وتكتسي مرونة المفاوضين الآخرين في ما يتعلق بالتصدي لإيران أهميةً أكبر مما تبدو عليه للوهلة الأولى. فقد انخرطت روسيا في النزاع السوري بهدف حماية أصولها الاستراتيجية وإعادة فرض مكانتها المفقودة منذ وقت طويل في المنطقة من خلال تحدي الولايات المتحدة وحشد شعبها حول بوتين بعد ضم شبه جزيرة القرم. وفي المرحلة القادمة، يرجَح أن تبدي روسيا اهتمامًا بتدبير سياسي من شأنه التخفيف من اندفاع السنّة لمواصلة القتال وتوفير شرعية دولية لوجودها العسكري الطويل الأمد في سوريا والتخفيف من العبء الاقتصادي لمشاركتها في الحرب السورية، وربما التخفيف من العقوبات الغربية المفروضة على روسيا.

وفي حين أنه من غير المرجح أن يسمح الكونغرس الأمريكي بتطبيع كامل العلاقات مع روسيا نظرًا للتوترات الأخرى البارزة بين الدولتين، قد يتوصل الرئيسان ترامب وبوتين إلى نقطة اتفاق في إطار مصلحتهما المتبادلة المتمثلة بإرساء الاستقرار في سوريا عن طريق المفاوضات. فإذا عملت روسيا والولايات المتحدة معًا على خطة تفاوض بين إسرائيل وسوريا، قد يكون لقناة التواصل هذه قيمة مضافة، وهي تعزيز التعاون البنّاء في أماكن أخرى، ما يعني أن هذه الخطة ستكون بنّاءةً على الصعيدين الإقليمي والدولي.

ومن أجل تأطير تدبير سوري-إسرائيلي، يمكن أن تتبنى روسيا والولايات المتحدة صيغة “الأرض مقابل المال”، بالإضافة إلى انسحاب إسرائيل من عدة مناطق أساسية في هضبة الجولان. فسيتم التعويض لسوريا عن المناطق المتبقية التي تم ضمها رسميًا من قبل إسرائيل من خلال مبلغ كبير يتم الاتفاق عليه مسبقًا. أما الأموال، التي يتوقع أن تصل قيمتها إلى عشرات المليارات، فستنبثق عن إسرائيل وشركائها في الاتفاق، ويجب استخدامها لإعادة بناء سوريا. ويمكن استخدام جزء كبير من الأرباح الناتجة عن شراء هضبة الجولان أيضًا لتمويل جهود إعادة البناء المفترض إدارتها من قِبل شركات أمريكية وروسية وأوروبية.

وبموجب هذا النموذج، ستقبل إسرائيل بقرار لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة يقضي بإنهاء النزاع بشكل رسمي. ولا بد لسوريا وداعميها أن يقبلوا باتفاق شامل لنزع السلاح، وذلك لضمان الأمن على طول الحدود الجديدة.

أما بالنسبة إلى روسيا، فستحصل على تفويض دولي للبقاء في سوريا، مع تواجد إما أمريكي وإما لقوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) لضمان التنفيذ الصحيح للاتفاق بين الأطراف والمحافظة على الأمن بعد انتهاء الحرب. وقد توافق روسيا على حصر وجودها العسكري في سوريا بمرفأ طرطوس وقاعدة حميميم الجوية.

بالمقابل، ستلتزم كل الأطراف المتفاوضة بخطة متفق عليها تقضي بتفكيك الوجود العسكري الإيراني ووجود “حزب الله” في سوريا، ما يحوّل الوضع المعقد في سوريا إلى تلاقٍ مباشر للمصالح المتوائمة ضد التوسع الإيراني المستمر.

منافع التسوية

في حين أن الطرفين سيقومان بتنازلات كبيرة، سيحصل كل منهما أيضًا بالمقابل على عدة منافع خاصة بالبيئة الجيوسياسية الحالية. فالاتفاق الدولي المتعلق بهضبة الجولان سيؤمن المزيد من الاستقرار للحدود السورية-الإسرائيلية، فيما ستسمح المبالغ المدفوعة من قبل إسرائيل كتعويض عن بقية الأراضي المحتلة لسوريا بالوصول إلى الأموال الجد ضرورية لإعادة بناء سوريا.

ففي الواقع، في ظل التهديدات المجتمعة المتمثلة بالضغوطات الروسية والأمريكية والإسرائيلية، ستغادر إيران و”حزب الله” على الأرجح سوريا بناءً على طلب الحكومة السورية الجديدة.

ولا بد من الإشارة إلى أنه في ظل دور بوتين في مساعدة القوات السورية خلال حربها الأهلية، بالرغم من أن أسد هو حاليًا في الجانب الفائز، من الواضح أن روسيا قد تستبدل الأسد إذا ما اقتضت مصالحها ذلك. ويبدو الأسد مدركًا لهذا الواقع، وقد يقبل باتفاقات سياسية جديدة تقدَم كوسيلة لضمان سيطرته على أراضيه.

وقد تكون المؤسسة السياسية الإسرائيلية متقبلةً على غير عادة للتسوية، خصوصًا إن كانت هذه التسوية مدعومةً من الولايات المتحدة وروسيا على السواء. فرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي يستمر في مواجهة تحديات سياسية في الساحة المحلية مرتبطة بتحقيقات الفساد التي خضع لها، سيُسرّ بدعم نجاح حل سياسي يتضمن إنهاء الوجود الإيراني في سوريا، لاسيما على ضوء الانتخابات التشريعية الإسرائيلية القادمة عام 2019. كما يُعتبر دعم صيغة “الأرض مقابل المال” متناغمًا بوضوح مع الرواية السياسية الخاصة باليمين الإسرائيلي.

وبالإضافة إلى تنفيذ صيغة الأراضي مقابل المال، إن انسحاب إسرائيل المحدود من أجزاء من أراضٍ معينة، وخصوصًا منطقة مزارع شبعا، قد يخلق شروخات إضافية في رواية المحور الشيعي. فاليوم، يستخدم “حزب الله” المزارع، التي يعتبرها كل من لبنان وسوريا أراضٍ تابعة له ولكنها محتلة من قبل إسرائيل منذ عام 1967، كذريعة أساسية لصراعه مع إسرائيل. وسيخسر “حزب الله”، الذي يصف هجومه على إسرائيل كمشاركة في نزاع على الأراضي بين إسرائيل ولبنان، نقطة حوار مهمة عند انسحاب إسرائيل من مناطق النزاع هذه.

وفي حين أن التطبيع مع إسرائيل لطالما كان نقطة خلاف للدول العربية الأخرى، من غير المرجح أن تقوم هذه الأخيرة بالاعتراض جديًا على اتفاق في الوقت الراهن. فمصر تعمل على تعزيز روابطها مع روسيا، فيما تقدّم المملكة العربية السعودية وشركاؤها الخليجيون إسرائيل بشكل متزايد كحليف استراتيجي في وجه تهديد إيراني أوسع.

وإنّ رسم حدود آمنة ومطبّعة على طول منطقة الجولان في إطار تسوية سلمية للحرب الأهلية السورية قد يحد بشكل ملحوظ من التوترات العسكرية بين إسرائيل وسوريا، وبين القوى الإقليمية والعالمية في الشرق الأوسط.

ففي الواقع، قد لا تتيح صيغة “الأراضي مقابل المال” المقترحة تسويةً رسميةً بين إسرائيل وسوريا فحسب، بل قد تكون مفيدةً أيضًا لحل النزاعات الإقليمية الأخرى، على غرار النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني. فإنهاء النزاع بين إسرائيل وسوريا قد يشكّل خطوةً أولى باتجاه مصالحة أشمل بين العالم العربي وإسرائيل، ما يوفر بنيةً إقليميةً أهم لحل الدولتين السلمي بين إسرائيل والفلسطينيين.

ويُعتبر تأسيس بنية أكثر استقرارًا في سوريا وتأمين الأموال الكافية لإعادة بنائها هدفًا يفيد الأسرة الدولية الأوسع أيضًا. فإرساء السلام في سوريا وإعادة إعمارها يجب أن يوفرا فرصةً لإعادة توطين اللاجئين إلى حد كبير، ما يخفف من الآثار المالية والمجتمعية السلبية على أوروبا والأردن وتركيا ولبنان. وعلى ضوء هذه الفرصة، يتعين على الولايات المتحدة وروسيا على حد سواء أن تفكرا جديًا بهذه المقاربة كأحد عناصر حل المعضلة السورية.

معهد واشنطن