عندما يتطرق الأمر للحرب الأهلية الليبية التي ظلت مستعرة لمدة عام وحتى الآن فإن المجتمع الدولي أسلم الأمر برمته واعترف بنفاد حيله في مواجهة تلك الأزمة،والمفاوضات التي تجريها الأمم المتحدة والتي كان من المفترض أن تصل لاتفاقية سلام بحلول منتصف يونيو/ حزيران لم تسفر عن أية تطورات إيجابية أو وقف لإطلاق النار يعتد به،وهي الآن على شفا الانهيار تماما. في يوم الثلاثاء نجا رئيس الوزراء الليبي عبد الله الثني بأعجوبة من محاولة اغتيال بينما اقتحم مسلحون جلسة للبرلمان. ورغم ما وصل إليه الوضع من صعوبة إلا أن العديد من المسؤولين الغربيين يرفضون اتباع خطة بديلة فهم يرون أن المحادثات الحالية هي الأمل الوحيد للخروج من الأزمة وأن اتباع سبل أخرى سيؤدي إلى التأثير سلبا على رغبة الأطراف بالتفاوض.
وهذه الرؤية معيبة إلى حد خطير.فواقع الأمر يشهد أنه لا بد من حل يشمل وساطة بين الطرفين – حيث إنه لا يوجد تفوق عسكري لطرف على الآخر- إلا أن المحادثات التي ترعاها الأمم المتحدة حاليا قد قامت على أسس خاطئة،خاصة أن المجتمع الدولي لم يقم بمنح أي من الحكومتين المتصارعتين ما يدفعها للسعي من أجل الوصول لتسوية طويلة الأمد،ويرجع هذا إلى وجود مستفيدين دوليين بارزين منحازين لأحد أطراف النزاع، وتعترف الأمم المتحدة بمجلس النواب المنفي الذي يسانده كذلك الجنرال خليفة حفتر القائد العام المعادي للإسلاميين والذي يسيطرعلى مدينة طبرق شرق ليبيا.ويسيطر الكيان المنافس الذي يحكم من طرابلس على الكثير من المناطق والأتباع المتصلبين ذوي النفوذ داخل ليبيا إلا أن هذا المعسكر لا يملك نفس الثقل الدولي على طاولة المفاوضات لميوله الإسلامية وغياب الشرعية الانتخابية لديه.
ويتماشى منهج الغرب في التعامل مع قضية ليبيا مع الاستراتيجية الكبرى التي يوظفها الغرب في مواجهة الاضطراب الحاصل في الشرق الأوسط ألا وهي دعم المعادين للإسلاميين في مواجهة الجماعات المنافسة لهم بأي كلفة كانت،وخير مثال هو مدى الدعم الذي يتلقاه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي من قوى عالمية محورية من ضمنها فرنسا وإيطاليا مقابل إعلانه عن تأييده للحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية أو ما يعرف بداعش،ولكن منهج الغرب أثبتت التجربة أنه يؤدي إلى صنع جهاديين أكثر من كونه يردعهم،وأفغانستان والعراق وباكستان واليمن خير دليل على ذلك، واستعمال نفس المنهج في ليبيا هو خطأ فادح.
الانقسام الحاصل بين طبرق وطرابلس بدأ منذ عام مضى بعد هجوم المليشيات الموالية للإسلاميين على مطار العاصمة،بعدها بفترة قصيرة سقطت مناطق عديدة من البلاد تحت سيطرة “فجر ليبيا” وهي مجموعة مليشيات من طرابلس والبربر غرب ليبيا ومدينة مصراتة الساحلية،وبعد أن سيطرت على العاصمة قامت الحركة بإعادة تنصيب المؤتمر الوطني العام وهو البرلمان الليبي الذي انتهت صلاحياته من قبل واستخدمته كممثل سياسي عنها،وعلى الرغم من افتقار فجر ليبيا لأى اعتراف دولي بسلطاتها، إلا أنها على اتصال بالعديد من مراكز السكان المترامية ولديها الشرعية الداخلية مثلها مثل أي إدارة موالية لميليشيات أخرى.
يذكر أن المفاوضات التي ترعاها الأمم المتحدة لم تحد عن نمط بعينه،فالمفاوضون يقومون بكتابة مسودة مقترحات يقوم مجلس النواب في طبرق بالترحيب بها بينما تلاقي رفضا تاما من جانب المؤتمر الوطني.كما يمارس حفتر من جانبه عادة مزعجة قبيل أي موعد لبدء دورة مفاوضات جديدة، حيث يقوم بشن هجمات إما لتعزيز موقفه في التفاوض أو لإفشاله من الأساس.وهذه الدائرة المفرغة هي تحديدا السبب في أن فجر ليبيا على وشك أن تترك المحادثات تماما قبل أن تنقسم إلى شقين مختلفين:فشق من رجال الأعمال من مصراتة يؤيدون استكمال المحادثات وشق من الميليشيات الإسلامية المتشددة لا يعترف بأي مساومات.
مسار الشقاق
السبب في الانقسام المتزايد داخل صفوف الليبيين هو أن بعثة الأمم المتحدة في ليبيا التي تشرف على المحادثات تصر على حقيقة أن هناك جانبا واحدا يتمتع بالشرعية الدولية ألا وهو برلمان طبرق،ومن وجهة نظر فجر ليبيا فإن هذا الموقف لا يمثل إلا انحيازا محوريا. المسودة الثالثة لاتفاقية السلام التي سربت للصحافة أواخر أبريل/ نيسان جاء فيها ما كانت تخشاه فجر ليبيا،حيث تتضمن التسوية المقترحة “نزع المكاسب السياسية التي حازتها فجر ليبيا عن طريق تهميش التيار الإسلامي الذي خسر انتخابات يونيو/ حزيران 2014 حسب ما قال جيفري هاورد رئيس محللي الشأن الليبي في “كونترول ريسك” إحدى مؤسسات الاستشارة الدولية في إدارة المخاطر.
وتسعى الاتفاقية كذلك إلى مد فترة ولاية مجلس النواب المنتظر نهايتها في أكتوبر/ تشرين القادم لتصل إلى عامين ويكون هذا أساسا تشريعيا موحدا لليبيا كلها.وبشكل أساسي، ستمنح الاتفاقية ولاية لمجلس النواب عن طريق معاهدة دولية في حين لن تعطي للإسلاميين دورا رسميا أو طريقة يستطيعون بها الحصول على منصب رسمي اللهم إلا فوهة البندقية.
يمتلك مجلس النواب مميزات عدة تضمنها له حقيقة الاعتراف به دوليا،على رأس تلك المميزات هي الحرية المطلقة في استكمال هجماته العسكرية، التي تستهدف بالأساس منافسيه السياسيين والتي يصنفها هو في إطار حملته المعلنة لتخليص البلاد من الميليشيات الإسلامية،وهو ما يفسر تضخيم قادة طبرق المستمر لخطر داعش في ليبيا وتحذيرهم من احتمال استخدامها لقوارب الهجرة غير الشرعية لتهريب جهاديين إلى أوروبا.والمفارقة هي أن فجر ليبيا تكاد تكون هي من يتولى القتال ضد داعش وحدها في بلدة “سرت” مسقط رأس القذافي التي سقطت في أيدي داعش هذا الربيع،وفي الوقت ذاته لم تستطع قوات طبرق الخروج من بني غازي لأكثر من عام حتى الآن.
والحملة العسكرية والسياسية التي تشنها حكومة طبرق ضد جميع الإسلاميين لا تسفر سوى عن المزيد من الصراع وتأجيج نار التطرف،ومع هذا تقوم مسودة مقترحات الأمم المتحدة بتمديد ولاية مجلس النواب وحقه في استكمال محاربة الجهاديين إلى جانب إعطائه سلطة أكبر ألا وهي تحديد من هم الجهاديون،وهذا النصر المظفر لمجلس النواب هو السبب في تنديد فجر ليبيا والمؤتمر الوطني العام بالمسودة ومطالبتهم برنارد ليون مبعوث الأمم المتحدة في ليبيا بالاستقالة وتهديدهم بالانسحاب من المفاوضات تماما.تهميش فصائل أساسية ووصمها بأنها جهادية لن ينتج عنه الوصول لاتفاق سياسي، وفي حالة الوصول إلى اتفاق فإنه لن يدوم؛ لأن النفوذ السياسي موزع بين القبائل وبين من يحمل السلاح وليس في كيانات إدارية.
وفي مجمل الأمر فإن انحياز الأمم المتحدة غير المبرر قد نحى أي دافع لدى الجانبين لتقديم أية تنازلات،فسلطة طبرق ترفض التنازل عن أي رقعة أرض بسبب اعتمادها على دعم مصر وروسيا والإمارات وعواصم أوروبية التي تقدم لها الدعم المطلق مهما بلغت مواقفها من عناد.وعلى الجانب الآخر لا يرى المؤتمر الوطني طائلا من التخلي عن مطالب الإسلاميين في مصراتة وغيرهم من الميليشيات التي تدعمه مقابل مكاسب ضئيلة.الطريق المسدود الذي وصلنا إليه في ليبيا لا يؤدي إلا إلى فراغ في السلطة ترتع فيه المليشيات والجريمة المنظمة ويوفر مناخا لانتشار الجهاديين،وإذا ما فشلت محادثات السلام تلك سيضطر الغرب إلى الضغط على طبرق وتغيير سياسته الضالة أو قد ينخرط ليصبح طرفا مباشرا في النزاع.
قتل الرسول:
لحل المعضلة يجب أن نبدأ أولا ببعثة الأمم المتحدة بدءا من تغيير قادتها. ولا يمكننا إنكار الثناء الذي يمنحه الجميع لـ “ليون” بدءا من بروكسل وحتى واشنطن لشخصيته وإخلاصه وذكائه الإعلامي.وهو من جانب ليس الملوم على تجمد التطورات في القضية، فالدول العظمى التي أيدت البعثة قد قيدت يديه بإصرارهم على الانحياز لمعسكر طبرق،إلا أن الكثيرين يرون ليون تجسيدا لهذا الانحياز وإذا ما أتى يونيو/ حزيران ولم يصل لاتفاق، يجب الاستغناء عنه حينها.وكما شرح كريم ميزران من مؤسسة “أتلانتك كاونسل” البحثية فإنه “بعد رفض المسودة الثالثة التي قدمها ليون في أبريل/ نيسان انخفضت الآمال المتعلقة بمصير تلك المفاوضات.وعندما يقدم ليون المسودة النهائية غير القابلة للتعديل بحلول الأول من يونيو/ حزيران سيكون على كلا الطرفين الرد بالرفض أو الإيجاب بحلول 17 يونيو/ حزيران”.لا يلوح في الأفق ما الذي يمكن أن يعرضه أو يهدد به المجتمع الدولي أياً من الطرفين لدفعهم إلى القيام بتسوية ما، قبل هذا الموعد.
لكن طريقة الكل أو لا شيء هي طريقة معيبة،وهذه الاستراتيجية لا تزكي ثقة الفصائل أو تشجعها على التفكير بالمدى البعيد ومن المرجح أن تأتي بنتائج سلبية،والمجتمع الدولي في أمس الحاجة لطرق باب آخر للتعامل مع هذا النزاع، ووضع خطة بديلة في حال إذا ما وصلت المفاوضات إلى طريق مسدود.
ويجب حينها اتباع خطوات ليست باليسيرة:يجب نزع عنصر عدم الاتزان بين طرفي المحادثات، وطرح مساحة أوسع للتفاوض بينهما، وإقناع أعضاء مجلس النواب لتقديم بعض التنازلات،بالإضافة إلى تحتم قيام مجلس الأمن بإصدار قرار صريح ينص على أنه لا يؤيد رفع الحظر على تجارة السلاح- والذي طالب به مجلس النواب مرارا- وبأنه سيعارض أي نوع من المساعدات العسكرية السرية لحكومة طبرق،وعلى المجتمع الدولي أن يكون على استعداد لفرض عقوبات رادعة على أي فصيل يعكر الصفوسواء كانوا قادة عسكريين أو جهاديين أو مسؤولين سابقين في حكومة القذافي وعلى حفتر نفسه، إن تطلب الأمر ذلك.
والخطوة الضرورية ـ على صعوبتهاـ هي نزع أي صفة سيادة لكلا الحكومتين حتى تُقِرّا بواقع الأمر وهو أنه ليس لأي كيان سيادة حقيقية على الأرض ولا تحكم الميليشيات إلا في نطاق قواعدها دون أي سلطة حقيقية لأي من الحكومتين،فهذه الخطوة من شأنها أن تمنع أياً من الأطراف أن يتصرف على أساس أنه ممثل شرعي عن ليبيا. في الوضع الحالي تستفيد الفصائل الموالية لطبرق من دوائر الأعمال الدولية على خلفية ادعاء كونهم جزءا من الحكومة الليبية، بينما تتمتع المؤسسات الوطنية- مثل البنك المركزي وشركة النفط الوطنية – بالوصاية على مستقبل ليبيا وتتعامل تجاريا على هذا الأساس مع الشركات الأجنبية بعقود موقعة مسبقا.
وفي حال فشل المفاوضات فإن خطوة نزع السيادة ستقطع كل الأطراف عن النظام العالمي والمدفوعات والعقود الموقعة معه، مما يؤدي بدوره لمنع مروجي الحرب من شراء ولاء المزيد من الحلفاء وتمويل الصراع. يمرالاقتصاد الليبي بأضعف مراحله الآن وقد يصل الأمر لقطع ما تبقى من منظومة الدعم الحكومي،وقطعه الآن دون تأخير سيصب في مصلحة ليبيا.
والخطوة الأخرى الهامة هي الحد من الدور المزعزع للاستقرار الذي تلعبه أطراف إقليمية بعينها في الأزمة،فعلى الرغم من انحسار الدعم المباشر الذي تقدمه تركيا وقطر لفجر ليبيا خلال الأشهر الماضية فإن مصر لا تزال تلعب دورا عسكريا ودبلوماسيا مؤيدا لحفتر وسلطات طبرق،ويجب على المجتمع الدولي حث مصر وقطر وتركيا والإمارات على دفع وكلائهم وحلفائهم إلى طاولة المحادثات.حقيقة أن القيادة السعودية تود أن تستكمل دورها في المنطقة كقوة محافظة على توازن القوى هي حقيقة مطمئنة.فإذا ضمت آلية العقوبات إلى جهود الدبلوماسية السعودية بالإضافة إلى استخدام الجانب الاقتصادي فقد يفتح ذلك طريقا نحو تحقيق تقدم لحل الازمة الليبية.
فورين أفيرز (جاسون باك)
المركز الدبلوماسي للدراسات وفض النزاعات