متى يتعلم العرب كيف يتعاملون مع السياسة الأمريكية بطريقة صحيحة، بدلا من الأوهام التى لا تستند إلى أساس؟!
مناسبة هذا السؤال هى اندهاش بعض الاخوة الخليجيين من الطريقة التى تتصرف بها دوائر صنع القرار فى الولايات المتحدة الأمريكية، فى قضية مقتل الكاتب السعودى جمال خاشقجى داخل قنصلية بلاده باسطنبول.
الكاتب الصحفى عماد الدين أديب كتب يوم الأحد الماضى فى «الوطن» مقالا عنوانه «فى واشنطن: لا أصدقاء يوثق بهم»، وهو استخلاص صحيح. وسأحاول استكمال هذه الفكرة من زاوية مختلفة.
آلية صنع السياسة الأمريكية ثابتة تقريبا منذ عقود، والمحزن أن طريقة التفكير العربية الرسمية ثابتة أيضا منذ عقود.
صنع القرار فى أمريكا يشبه عمارة ضخمة، من عدة ادوار متكاملة كل دور فيها تشغله إدارة، هناك دور للبيت الأبيض وآخر للخارجية وثالث لأجهزة المخابرات ورابع للكونجرس وخامس لمركز البحث والفكر وسادس للمجمع العسكرى، وسابع لوسائل الإعلام والمجتمع المدنى. القرار النهائى هو حاصل جمع كل هؤلاء.
قد تكون هناك جهة لها دور أكبر فى قرار ما، لكن فى النهاية هناك توازنات دقيقة، تمنع أن تتفرد جهة واحدة باتخاذ القرار على طول الخط، وإذا حاولت ذلك أو أصرت كما يريد ترامب مثلا هذه الأيام، تتنمر له بقية الجهات لتعيد التوازن مرة أخرى. الخبراء يقولون إنه لهذا السبب فإن اتخاذ القرار أو العدول عنه شديد البطء ويشبه حركة الفيل.
العكس تماما فى صناعة القرار فى غالبية العواصم العربية. القرار فى الغالب يتخذه بضعة أشخاص، وأحيانا شخص واحد، وحسب الحالة المزاجية المسيطرة عليه لحظة اتخاذ القرار. صناعة القرار فى امريكا تقوم فى النهاية على مصلحة بلدهم أو مصلحة المسئول المهنية، وبالتالى فمن المنطقى أنها لا تقوم على أساس الصداقة أو المعرفة أو الاستلطاف.
العكس أيضا موجود فى عواصم كثيرة بمنطقتنا. المسئول يجلس بجوار نظيره الأمريكى فى جلسات المباحثات أو حتى الدردشة، ويسمع منه كلمات دبلوماسية بروتوكولية منمقة، هو يخرج بانطباع زائف بأن المسئول الأمريكى أو حتى الأوروبى قد وقع فى غرام وحكمة وعظمة فخامته، والأخطر أنه يبدأ فى عمل حساباته على أساس أن له صديقا وحليفا كبيرا فى هذه الإدارة. يزيد الأمر سوءا حينما يصدر الدبلوماسيون الأمريكيون انطباعات معينة لبعض الحكام العرب فى اتخاذ قرارات معينة، مثلما حدث حينما التقت السفيرة الأمريكية فى العراق أبريل جلاسبى مع صدام حسين عام ١٩٩٠ وأوحت إليه بأن بلادها لا تعارض غزوه للكويت. وكلنا يعلم أن هذه النصيحة المفخخة كانت البداية لكل المصائب التى حلت بالعراق الشقيق ثم سائر عموم المنطقة.
لكن العامل الأهم والفارق الكبير بين اتخاذ القرار الأمريكى ونظيره العربى، هو الديمقراطية والتعددية. المسئول الأمريكى يعرف تماما أنه سيحاسب حسابا عسيرا، إذا اتخذ قرارا خاطئا، والمسئول العربى يعرف أنه حر التصرف فى اتخاذ ما يشاء من قرارات، حتى لو كان بعضها مأساويا.
السؤال هل نلوم المسئولين الأمريكيين لأنهم يتخذون القرارات على أساس مصالح بلادهم العليا، ومصالح مناصبهم أيضا أم نلوم أولئك الذين يتصرفون على أساس مزاجى بحت فى قراراتهم؟!
الأمر المحزن هو أن غالبية المسئولين العرب لا يريدون أن يتوقفوا عن ارتكاب نفس الخطأ للمرة المليون، ويكررون مأساة سيزيف الإغريقى، وهو يحمل الصخرة صاعدا إلى أعلى التل، فتقع منه، وتتكرر لعنته الأبدية!
حينما تقع المأساة، فإن الذى يدفع الثمن هو الشعوب العربية، فما يهم الولايات المتحدة فى المقام الأول هو مصالحها. هى توقع الصفقات مع أى مسئول لكى تؤيد استمراره، باعتباره ليس منتخبا شعبيا.وحينما يتعثر أو يتخذ قرارا كارثيا، فإنه مضطر لدفع أثمان باهظة اقتصادية وسياسية وعسكرية وربما استراتيجية من أجل كسب رضاء القوة العظمى، لتؤيد استمراره.
السؤال: كيف نخرج من هذا المأزق؟
الحل الوحيد أن يعتمد أى حاكم على شعبه أولا، وأن يوسع دائرة مستشاريه، ويضمن أكبر نسبة توافق داخل بلده. إذا حدث ذلك فلن يكون سنده فى هذه الحالة واشنطن أو لندن أو موسكو أو أى عاصمة كبرى أو صغرى. وقتها سيندر أن يتم اتخاذ قرار خاطئ، ناهيك عن قرار كارثى. وإلى أن يحدث ذلك، فسوف نظل ندور كعرب فى الحلقة المفرغة.