المطلوب على المستويين، الثنائي والإقليمي، لتخدم مصالح بعضهم وحساباتهم في المنطقة؟ وكان أفضل للبلدين ربما لو دخلا في مواجهةٍ مباشرة، بدلا من “حالة الما بين”، القائمة اليوم على أسس المواجهات غير المعلنة، وضرب مصالح كل طرف الآخر، في ملفات إقليمية استراتيجية، بينها التجارة والطاقة والتمدد الأمني، ومحاولات الالتفاف والحصار الاستراتيجي في دوائر شرق المتوسط وأفريقيا والبحر الأحمر وتحريك الرماد تحت ملفاتٍ مضى عليها الزمن، مثل العلاقات العربية التركية إبّان الحرب العالمية الأولى، والموضوع الأرمني ومواجهات كوت العمارة بين البريطانيين والجيش العثماني في 1916، ومن ساهم في التآمر على السلطان عبد الحميد مصريا. وتاليا، أبرز النقاط في موضوعة التجاذب الحادث بين القاهرة وأنقرة.
أولا، أعلنت تركيا حدادًا وطنيا تضامنا مع ضحايا الهجوم الإرهابي الذي استهدف مسجد الروضة في سيناء، في أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني من 2017، وتراجع التلاسن السياسي والإعلامي بين القاهرة وأنقرة، لكنه فتح الطريق أمام حالة احتراب إقليمي غير معلنة على أكثر من جبهة سياسية وأمنية واقتصادية.
ثانيا، تركيا تنتهز الفرصة لتعزيز وجودها في حوض البحر الأحمر، وما حوله في السودان والصومال وشمال أفريقيا، لأنها باتت ترى أن هذه المنطقة حلقة امتداد لمجالها الاستراتيجي، من دون إهمال حقيقة أن بين أهداف أنقرة الضغط على مصر، لإضعاف تقاربها على بعض دول الخليج، ولإبعادها عن تحالفها مع إسرائيل وقبرص واليونان.
ثالثا، مصر متمسكة بالتهم التي وجهتها لتركيا في الأعوام الأخيرة بشأن استغلال الأوضاع الإقليمية، وخصوصا الثورات في عدد من الدول العربية، من أجل تسويق مشروع “الإسلام السياسي” التركي، عبر لعب ورقة جماعة الإخوان المسلمين.
رابعا، أنقرة تلوح بفاجعة التسلم والتسليم لرئاسة منظمة العالم الإسلامي في إسطنبول قبل عامين، وحماسة بعض المصريين لعملية محاربة المسلسلات التركية في العالم العربي، واستنفارات شرق المتوسط والبحر الأسود استعداداً لمواجهات الطاقة والاستثمار والمشاريع الاقتصادية والتجارية العملاقة.
خامسا، هناك تراجع رهان بعضهم في إسرائيل على الربط بين تحسّن العلاقات التركية المصرية بالتركية الإسرائيلية، بعدما خيبت أنقرة آمال تل أبيب برفضها أخيرا إعادة إحياء العلاقات الدبلوماسية المتراجعة مع إسرائيل منذ شهر مايو/ أيار المنصرم، بسبب الهجمات الإسرائيلية على قطاع غزة.
سادسا، قد تكون تركيا استطاعت، بفضل قوتها الاقتصادية، الوقوف على قدميها، وسط كل الهبات والضربات السياسية والأمنية التي تعرّضت لها، وبناء شبكة تحالفات عربية وإقليمية متباعدة الأهداف والخطط، لكن القاهرة ترد في باليرمو والقمة الدولية حول ليبيا التي انسحبت منها تركيا، ومن خلال تعزيز التحالف المصري الخليجي الذي بدا أنه يحمل أبعادا استراتيجية واسعة ومتعدّدة الأهداف، والتقارب المصري الأميركي، والتطبيع المصري الروسي، والدور المصري لتسهيل المصالحة الإريترية الإثيوبية، والإصرار المصري على عدم توتير العلاقات مع السودان، بهدف حماية التموضع المصري الجديد في أفريقيا.
سابعا، أنقرة متمسكة بمشاريع وخطط التمدّد والانتشار التركي، اللغوي والثقافي، إلى جانب التمركز الاقتصادي و”الاختراق الإنساني”، عبر مؤسسات الخدمات الاجتماعية والدعم والإغاثة التي ترفدها ملايين الدولارات. وهي تعلن لكثيرين أن حزب العدالة والتنمية هو الذي سيقود المرحلة، في السنوات الخمس المقبلة على أقل تقدير، خصوصا بعد تحالفه مع حزب الحركة القومية اليميني الذي سيرفده، عند الحاجة، بما يحتاج إليه من دعم شعبي وسياسي. وتدرك القاهرة جيدا أن معادلة بناء تحالف تركي إسرائيلي عربي للتصدّي للمشروع الإيراني الإقليمي أرجئت إلى مكان وزمان آخرين، فتركيا اليوم شريك استراتيجي لإيران في سورية، وهي ترفض خطط الحصار الأميركي واتفاق التصدّي لإحياء المشروع الكردي الإقليمي الذي لا يزعج مصر، ولا يقلقها أبدا.
ثامنا، تنطوي عملية سيناء 2018 التي أطلقتها مصر، وتلعب فيها البحرية العسكرية دورا أساسيا، على بعض الأهداف الإقليمية، كما يقول الإعلام المصري وتركيا، وتحركها العسكري في شرق المتوسط هي بين المعنيين، شئنا أم أبينا.
تاسعا، بات التطبيع مع إسرائيل يتقدم على المصالحة مع أنقرة، لا بل إن فرص المصالحة التركية المصرية التي كان صاحب هذه السطور يقول، قبل عامين، إن وقتها لم يحن بعد تراجعت تماما لمصلحة “جيش الفلاحين” الذي تقدّم من مصر لمحاصرة إسطنبول نفسها عام 1840، وكانت باريس ولندن من أنقذ الأتراك من الكارثة يومها، كما يقول الأرشيف المصري الذي بدأ نشر مثل هذه الوثائق أخيرا.
وهل ترضى أنقرة أن تمرّر للقاهرة ذلك؟ معلومة بدأت تناقش أخيرا في تركيا، وكانت مغيبة تماما في تاريخ العلاقات التركية المصرية، والدور الذي لعبته أنقرة لصالح مصر في حرب 6 أكتوبر/ تشرين الأول 1973، فحسب محللين أتراك، كانت أنقرة في طليعة الداعمين لمصر في هذه الحرب، عبر فتح مجالها الجوي للطائرات العسكرية السوفييتية المحملة بالأسلحة والمهمات العسكرية المتجهة إلى مصر. وفي الأرشيف التركي أن 935 طائرة نقلت، على مدار عشرة أيام، نحو 15 ألف طن من الأسلحة والمعدات العسكرية لدعم القوات المصرية والعربية. ثم هناك تمسّك تركيا بدعمها مصر، في رفضها السماح للولايات المتحدة ودول أوروبية باستخدام قاعدة إنجرليك الجوية، التابعة لحلف شمال الأطلسي لدعم القوات الإسرائيلية في حربها ضد مصر.
عاشرا، بالنسبة لمصر، ليست قضية الغاز في شرق المتوسط مسألة أيديولوجية أو تنافس إقليمي، بل قضية حياة أو موت. ومع ذلك، يبرز هذا السؤال: هل يؤدي التنافس الإقليمي بين مصر وتركيا إلى مواجهة عسكرية مباشرة في مكان ما، في شرق المتوسط مثلا؟ من المستحيلات، لأن هذا الاصطدام لن يكون في صالحهما. سؤال آخر: هل يقود التوتر التركي المصري إلى إشعال أزمات إقليمية وتأجيجها باستمرار في ليبيا والسودان والصومال مثلا؟ نعم، هذا هو الاحتمال الأقرب، وهو بدأ يظهر إلى العلن في التعامل مع ملف القضية الفلسطينية والحرب الإسرائيلية على غزة.
بقي القول إن أميركا، وكما يبدو، اختارت الاصطفاف إلى جانب الرباعي الإسرائيلي المصري القبرصي اليوناني، في موضوع التنقيب عن الغاز، واستخراجه من شرق المتوسط، وهي ستدعم حتما هذا التكتل، لإنشاء خط بديل ينافس “السيل التركي”، وكلها تطوراتٌ ستزيد من حماوة تنّور التوتر التركي المصري.
كان الرهان على الرياض، لتساعد على تخفيف التوتر التركي المصري، لكن المشكلة اليوم وبعد انفجار ملف مقتل الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، في قنصلية بلاده في إسطنبول، هي عمّن سيساعد على تخفيف التوتر التركي السعودي.