تبدو واشنطن حائرةً بصدد معركتها مع طهران، وما عليها فعله لنقلها من الأقوال إلى الأفعال، على الرغم من مرور نيف وعام على إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أن إدارته لن تكتفي من معاركها بالكلمات، وقررت إرغام إيران على مراجعة برامجها العسكرية، وأولوياتها الإقليمية، إذا أرادت إنقاذ نظامها.
وقد تساءل كثيرون عن المكان الذي ستبدأ واشنطن معركتها منه: أهو اليمن، حيث يمكنها إنزال هزيمة سريعة بالحوثيين، من دون أن تتمكن طهران من تحاشي ارتدادات هزيمتهم عليها، ويرجّح أن تسارع إلى إعادة تموضعها في اختراقاتها العربية الأخرى، لكن وزير الدفاع الأميركي، جيمس ماتيس، أعلن أن واشنطن تريد حلا سياسيا في صنعاء، للحوثيين وبالتالي لايران حصة فيه؟ أم أنها ستبدأ من العراق، حيث لأميركا حضور لا يستهان به، أزاح قبل ثلاثة أعوام نوري المالكي عن الحكم، على الرغم من تمسك المرشد به؟ أم أن بدايتها ستكون من سورية، حيث يرجّح أن تطلب واشنطن مساعدة موسكو، بينما بدأت إسرائيل حربا متقطعة، لكنها مؤثرة ضد الوجود الإيراني وملحقاته؟ أم سيكون لبنان، مستعمرة إيران التي يحرسها قطاع من الحرس الثوري، يسمى حزب الله، منطلقها؟
لم تبدأ واشنطن المعركة بعد، وإن كان صحيحا أن بدايتها قد تنطلق من حدثٍ مباغت، يقع من دون مقدمات، فتتصاعد المعارك بعده إلى حربٍ يستخدم الطرفان فيها ما لديهما من سلاح.
في مقابل سلبية واشنطن، بدأت إيران أعمالا استباقية نشطة، تخفض رغبة أميركا في الإقدام على حربٍ واسعة معها، عبرت عن نفسها في جملة تدابير، تستهدف توسعة ميدان أي معركة قد تبدأ من الساحة السورية، حيث تريدها واشنطن، إلى الساحة العربية وما وراءها، لإضفاء طابع على الصراع، تبدو طهران معه كأنها غير منخرطة فيه، بينما تجد أميركا نفسها مجبرة على إعادة النظر في حساباتها، بسبب كلفة المعركة البشرية والمالية، وما ستتطلبه من زمنٍ لن يكون محدودا. تهدف هذه الخطوة إلى إقناع واشنطن بأن معركتها لن تكون محدودة وقابلة للحسم بسرعة. هذه التوسعة إلى البلدان المجاورة تعني أن على العرب تحمل تكلفتها، والانخراط فيها إلى جانب جماعاتها المحلية التي صعدت مواقفها الداخلية في العراق وسورية ولبنان، وأعلنت، بلسان قادة بناها العسكرية والسياسية الموازية، تصميمها على التصدّي لواشنطن بنقل الحرب ضدها إلى بلدانها، وتنفي وجود طهران قوة خارجية فيها، ليحقّ لأميركا مطالبها بالانسحاب منها. توسع إيران ساحة المواجهة لاعتقادها أن واشنطن ستقلع عن خوضها، إذا ما غطت العراق وسورية ولبنان، وأيقن ترامب أن نهايتها لن تكون سريعة.
تتوضع إيران في مجتمعات الدول المجاورة، ويصل انتشارها إلى بناها التحتية، ومؤسساتها الخدمية المتنوعة والمذهبية، ولا يقتصر على حضورها العسكري الأمني الذي تغطيه في أيامنا من خلال انغراسها العميق في الهياكل المجتمعية المتنوعة لسورية والعراق الذي يجعله حضورا محليا، إن استهدفته أميركا أخطأت هدفها، وتورّطت في حربٍ تفتقر إلى استراتيجية خروج منها، وبقيت خارجية وبعيدة بالنسبة للمجتمع الإيراني الذي سيكون أكثر استعدادا لخوضها من المجتمع الأميركي، بما ستتركه عليه من ارتداداتٍ سلبية.
بدأت إيران هجوما استباقيا متشعبا يستهدف تغيير طبيعة وساحة المعركة الأميركية ضدها، بينما تنتظر واشنطن نتائج العقوبات، لاعتقادها أنها ستمكنها، في حال خاضت صراعا عسكريا معها، من بدئه وخصمها منهار لا يقوى على خوض حربٍ ذات نتائج حاسمة بالنسبة له. لذلك، يكفي أن تلوّح أميركا بالحرب، حتى تتخلى طهران عن سياساتها تجاه جيرانها، وتبدأ مفاوضات جديدة حول برنامجها النووي وصواريخها، بينما تقول لنا تدابير طهران الاستباقية إنها لن تنصاع لواشنطن، ما دامت تمارس ضغوطا عن بعد عليها!