استنزاف حضاري: كيف تحول التراث الأثري إلى مصدر لتغذية الصراعات العربية؟

استنزاف حضاري: كيف تحول التراث الأثري إلى مصدر لتغذية الصراعات العربية؟

تصاعدت حدة التهديدات الموجهة لـ”التراث الحضاري” في بعض الدول العربية، في ظل اتجاه التنظيمات الإرهابية والميليشيات المسلحة وعصابات التهريب إلى تخريب وبيع الآثار والتنقيب في المناطق الأثرية خاصة في بؤر الصراعات المسلحة، في إطار اقتصادات الصراع، وسعي كافة الأطراف للاستحواذ على الموارد والأصول لتمويل الاستمرار في الصراع. وعلى الرغم من اتباع الدول العربية والمنظمات الدولية إجراءات مشددة للتعامل مع عمليات تهريب الآثار العابرة للحدود، فإن تلك العمليات لا تزال تمثل تهديدًا جوهريًّا للأمن في المنطقة العربية.

تحولات متصاعدة:

لا يُمكن اعتبار تهديدات التراث الأثري للدول العربية أحد مستجدات الأوضاع الإقليمية التي صاحبت الثوراتالعربية، حيث إن تهديدات التراث الحضاري بالإقليم ارتبطت بالمتغيرات التالية:

1-    تزايد التدخلات الخارجية، وهو ما برز مع تصاعد النشاط العابر للحدود لشبكات تهريب الآثار العالمية في الإقليم عقب الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، حيث أشار رئيس المجلس اﻷعلى للآثار المصرية الدكتور مصطفى أمين إلى أن أكثر من 170 ألف قطعة أثرية عراقية تعرضت للنهب والسرقة والتهريب خلال الحرب الأمريكية على العراق عام 2003.

2-    اندلاع الثورات العربية، إذ تصاعدت حدة التهديدات للتراث الحضاري للدول العربية على إثر الثورات العربية نتيجة حالة الضعف التي أصابت مؤسسات الدول، وفقدانها القدرة على ممارسة وظائفها الأساسية، ومن بينها حفظ التراث الحضاري، فخلال الثورات تعرضت المناطق الأثرية والمتاحف لعمليات سطو عشوائي استغلالا لحالة الفراغ الأمني، وتردي الأوضاع الأمنية، بينما تصاعد نشاط بعض المجموعات في  التنقيب عن الآثار في محيط المناطق الأثرية، على غرار عمليات التنقيب عن الآثار

في محاجر الهرم وبعض المناطق الأثرية في الأقصر وأسوان في مصر، والتنقيب عن الآثار في مأرب باليمن، وفيعدد من المناطق الأثرية في ليبيا.

3-    تفجر الصراعات الداخلية، حيث تَمَثَّلَ التطور الأهم في تهديدات التراث الأثري للدول العربية في تفجرالصراعات الداخلية، وصعود دور الميليشيات المسلحة والتنظيمات الإرهابية التي أضحت تعتمد على تهريب الآثاركأحد مصادر تمويل أنشطتها وتوسعاتها الإقليمية، فضلا عن اتجاه بعض تلك التنظيمات لتدمير المعالم الأثريةبدعوى مخالفتها للشريعة، اتّباعًا لنموذج تنظيم “القاعدة” وحركة “طالبان” في التعامل مع المواقع الأثرية فيأفغانستان، حيث قامت الأخيرة بتدمير المعابد الأثرية البوذية في عام 2001، وهو ما لا ينفصل عن عملياتالاستهداف الطائفي للمساجد الشيعية والسنية في مناطق الصراعات الأهلية، واستهداف تنظيم “داعش” للمراقدالشيعية والمقامات المقدسة في سوريا وبعض المساجد الأثرية، فضلا عن تضرر بعض المنشآت والمواقع الأثرية منعمليات القصف الكثيف في سوريا والعراق واليمن وليبيا.

أنماط التهديدات:

تتنوع تهديدات التراث الأثري للدول العربية ما بين عمليات تهريب الآثار لدول الجوار، والتنقيب العشوائي، ونهبالمتاحف والمناطق الأثرية، والتخريب المتعمد للمواقع المصنفة عالميًّا كمواقع تراثية، والقصف العشوائي لبعضالمنشآت التاريخية في خضم الصراعات، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:

1-    نهب المناطق الأثرية: تعرضت بعض المناطق الأثرية والمتاحف لعمليات نهب متعمدة من جانب بعض التنظيمات المسلحة الإجرامية والإرهابية، فعقب سيطرة تنظيم “داعش” على مدينة تدمر الأثرية في سوريا في 21 مايو 2015 تم إنشاء صفحة على موقع التواصل الاجتماعي باسم “آثار سوريا للبيع”، وتضمنت الصفحة عرضًا لبعض القطع الأثرية من التي تم نهبها من المتاحف والمواقع الأثرية في مدينة حلب وفي دير الزور السورية والقلمون، وشملت القطع الأثرية التي تم نهبها، تماثيل أثرية، ومجوهرات، وأحجارًا كريمة، وعملات تاريخية من عصور مختلفة. الأمر ذاته ينطبق على المناطق الأثرية في مدينة الموصل العراقية التي تعرضت لعمليات نهب واسعة النطاق من تنظيم “داعش” والميليشيات المسلحة. وفي السياق ذاته، شهدت بعض المواقع الأثرية الليبية عمليات نهب واسعة النطاق منذ الإطاحة بنظام القذافي وصعود الميليشيات المسلحة، مثل جبال أكاكوس الصخرية، ومدينة قورينا الأثرية، ومدينة شحات القريبة من مدينة البيضاء، ومدينة لبدة الكبرى التي توجد بها آثار رومانية تصنفها اليونسكو كأحد مواقع التراث العالمي. ولم يقتصر الأمر على القطع الأثرية الصغيرة، وإنما تضمنت عمليات النهب الاستيلاء على تمثال أثري لعمر المختار، وتمثال الحورية والغزالة في العاصمة طرابلس.

2-    التنقيب العشوائي: لم تنقطع عمليات التنقيب العشوائي عن الآثار في دول عديدة بالمنطقة العربية، حيث شهدت سوريا تصاعد نشاط التنقيب في محيط المناطق الأثرية في الرقة ودير الزور وإدلب وحلب، واتجهت عصابات التنقيب عن الآثار للاستعانة بخبراء في البحث والتنقيب من بعض دول الجوار مثل تركيا، واقترنت عمليات تهريب الأسلحة للفصائل السورية والميليشيات المسلحة بتوريد مجسات البحث عن المعادن ومعدات التنقيب عن الآثار، خاصةً في ظل تشكيل الفصائل والعشائر السورية مجموعات تنقيب منظمة تعمل في محيط المناطق الأثرية.

وفي السياق ذاته، قام تنظيم “داعش” بتأسيس وزارة للآثار عقب سيطرته على مدينة تدمر الأثرية في مايو 2015،حيث يفرض التنظيم ضرائب على عمليات التنقيب عن الآثار تتراوح بين 20% على الآثار المستخرجة من مدينةحلب، و50% على الآثار المستخرجة من مدينة الرقة السورية، خاصةً الآثار التي تعود للعصر الإسلامي والمصنوعةمن الذهب، بينما رصدت مجلة “نيوزويك” الأمريكية في مارس 2015 قيام تنظيم “داعش” في ليبيا بالتنقيببمحاذاة ساحل البحر المتوسط في محيط درنة وسرت بالقرب من المناطق التاريخية مثل منطقة “لبتس ماجنا”،على بعد 130 كيلو متر من العاصمة طرابلس.

3-    عمليات التهريب: لم تنقطع عمليات التهريب العابر للحدود للآثار من بؤر الصراعات الإقليمية، حيث قام تنظيم “داعش” بالتعاون مع بعض عصابات تهريب الآثار ببيع بعض القطع الأثرية التي تم نهبها من متحف حلب ومنطقة جبال القلمون، والجداريات المنحوتة في مدينة النمرود الأثرية في محافظة نينوى العراقية، وتنتشر عمليات بيع الآثار المنهوبة من سوريا والعراق في الأردن؛ حيث تتراوح أسعارها بين 50 دولارًا للأوعية الحجرية الأثرية و3000 دولار للتماثيل والألواح الحجرية، و50 ألف دولار لبعض القطع الأثرية النادرة مثل الأسلحة المرصعة بالذهب، وفي فبراير 2013 كشفت السلطات الأمنية الأردنية عن شبكة لتهريب الآثار السورية في مدينة الرمثا المتاخمة لمدينة درعا السورية.

وفي السياق ذاته، اعتقلت قوات الأمن الجزائرية شبكة تهريب تضم جزائريين ومغاربة في منتصف أبريل 2015تقوم بالاتجار في الآثار الليبية وتهريبها عبر الحدود، وشملت القطع المضبوطة آثارًا يونانية نادرة، مثل قناع وتمثال”إله الشمس”، كما أشار السفير العراقي في واشنطن في 4 يونيو 2015 إلى أن السلطات الأمريكية تُلاحق تاجرًا لبنانيًّايقوم ببيع آثار عراقية في الولايات المتحدة لمصلحة تنظيم “داعش”، كما أخطرت السلطات العراقية صالات عرضالتحف الأثرية بقوائم الآثار التي استولى عليها تنظيم “داعش” لمنع عمليات الاتجار بها.

4-    التخريب المتعمد: قام تنظيم “داعش” في العراق وسوريا بهدم وتخريب بعض المواقع الأثرية، على غرار تفجير قلعة أشور التاريخية في شمال مدينة تكريت قبيل نهاية مايو 2015، وهو ما يرتبط بقيام التنظيم بتدمير آثار مدينة نمرود التاريخية في العراق، وتفجير الكنيسة الخضراء، ومتحف الموصل، ومرقد النبي يونس، فضلا عن 90 قطعة وتمثالا أثريًّا تم تدميرها في العراق. وعقب سيطرة التنظيم على مدينة تدمر التاريخية في سوريا في مايو 2015، تصاعدت دعوات منظمة اليونسكو لحماية المدينة الأثرية من عمليات التدمير التي يقوم بها تنظيم “داعش”، وينطبق الأمر نفسه على المواقع الأثرية في بعض المدن الليبية، حيث قامت الجماعات الجهادية بتدمير لوحات وصور فنية أثرية في منطقة أكاكوس الأثرية جنوب ليبيا في مطلع العام الجاري، فضلا عن تعرض مدينة شحات الأثرية الليبية لعمليات تخريب للآثار اليونانية بها، مثل قلعة الأكرابوليس، ومعبد زيوس، ورواق هرقل، وغيرها من المواقع الأثرية اليونانية بالمدينة.

وفي السياق ذاته، جددت منظمة اليونسكو في 4 يونيو 2015 دعوتها للأطراف المتصارعة في اليمن لتجنب تدميرالآثار اليمنية مثل سد مأرب الذي تعرض لأضرار بالغة نتيجة القصف المتبادل بين الأطراف المتصارعة، فضلا عندعوة المنظمة لتجنب إصابة بعض المواقع المدرجة ضمن قائمة التراث العالمي، مثل مدينة صعدة القديمة، ومدينةبراقش المحصنة، لا سيما في ظل تعرض الثروات الأثرية اليمنية لعمليات تخريب من جانب بعض التنظيماتالإرهابية.

آليات المواجهة:

أدى تصاعد عمليات تبديد التراث الحضاري في بؤر الصراعات الأهلية بالمنطقة العربية لقيام بعض المؤسساتالمعنية بالحفاظ على الآثار بإجراءات متعددة للتصدي لعمليات تهريب الآثار، على غرار قيام مجلس الأمن الدوليفي 12 فبراير 2015 بإصدار القرار رقم 2199 الذي يستند إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بتجفيفموارد الإرهاب، ومنع تعديات الجماعات المتطرفة على التراث الثقافي للشعوب، خاصة تدمير المواقع الدينية فيسوريا والعراق.

وفي السياق ذاته، اعتبرت منظمة الأمم المتحدة في 29 مايو 2015 تدمير مسلحي تنظيم “داعش” للمواقع الأثريةالعراقية بمثابة “جريمة حرب”، ودعت المجتمع الدولي للتصدي لتدمير الإرث الثقافي للعراق، وتضمن القرار الصادرعن الجمعية العامة للأمم المتحدة تأكيدًا على الجهود الدولية لمنع تخريب المواقع الأثرية في بؤر الصراعات فيسوريا والعراق، والتصدي لعمليات تهريب الآثار العابرة للحدود.

وعلى الصعيد ذاته، أقر مجلس النواب الأمريكي تشريعًا في مطلع يونيو 2015 ينص على منع عصابات “داعش” منجني أرباح بيع الآثار من المواقع التراثية في سوريا والعراق، وألزم القرار وزارة الخارجية الأمريكية بتعيين منسقدولي لحماية الملكية الثقافية لتنسيق الجهود بين الإدارة الأمريكية والوكالات المعنية بحماية الآثار، فضلا عن إعدادقوائم بالقطع الأثرية المهربة من سوريا والعراق، ومنع الاتجار فيها. وأشارت منظمة استعادة الآثار العالمية فيمارس 2015 إلى التصدي لعمليات الاتجار بالآثار العراقية في قاعات بيع التحف في لندن، وشملت الآثار التي تمالتحفظ عليها قطعًا أثرية من الفخار والزجاج تعود للعصر البيزنطي، وتقدر قيمتها بمئات الآلاف من الدولارات.

وفي سوريا تولت بعض الجهات عمليات حماية الآثار مثل مديرية المتاحف والآثار السورية التي قامت بجمع القطعالأثرية في مناطق آمنة، وإبلاغ الإنتربول بالقطع الأثرية المفقودة، مما أسفر عن التحفظ على 4 آلاف قطعة أثرية، كماأعدت المؤسسة قائمة حمراء بالمواقع الأثرية السورية المهددة بالمخاطر والقطع الأثرية الموجودة بها، كما تمتكثيف التعاون مع لبنان لمكافحة تهريب الآثار عبر الحدود، مما أثمر عن ضبط 18 لوحة أثرية سورية، و73 قطعةأثرية مهربة كانت معروضة للبيع لدى تجار الآثار في لبنان.

المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية