“دولة الهروج” في الصحراء الليبية يديرها متطرفون من جنسيات مختلفة

“دولة الهروج” في الصحراء الليبية يديرها متطرفون من جنسيات مختلفة

حوّل تنظيم داعش وجهته في ليبيا إلى الجنوب، منذ هزيمته في معركة سرت (شمال) نهاية 2016، على يد قوات البنيان المرصوص، التابعة لحكومة الوفاق الوطني، وفقدانه لجميع معاقله، واتخذ من الصحراء الليبية مساحة جديدة لتكتيكه القتالي، حيث يدير التنظيم منطقة الهروج التي تقع وسط الصحراء إلى الجنوب الشرقي لطرابلس، والجنوب الغربي لبنغازي، وقد نفذ داعش ومسلحون أفارقة هجمات دامية على معظم هذه البلدات، ورغم جهود الجيش الليبي لتطويق المنطقة وردع الخطر الإرهابي إلا أن هناك مخاوف من هجمات مستقبلية على الواحات والبلدات النائية في الصحراء الليبية، بهدف إثبات التنظيم وجوده، وجمع المؤن والأسلحة والرجال.

الجفرة (ليبيا) – نزلت أمطار غزيرة، وبللت أشجار الطلح في أرض الهروج وعرة التضاريس في الجنوب الليبي. أشجارٌ قصيرةٌ داكنة تنتشر على مساحات من الأرض. تشبه، من بعيد، سيارات الدفع الرباعي التي يتنقل بها متطرفون ومتمردون ولصوص ومسلحون من جنسيات مختلفة وجدوا ملاذا آمنا هنا.

كان ينبغي التوغل أكثر، لكن خيالات بعيدة ظلت لغزا طوال النهار. لم يعرف الدَّليلُ إن كانت أشجارا بريّة أو كمينا نصبه تنظيم داعش للموكب الذي يضم رعاةَ إبل، وصيادي صقور، وفضوليين.

يقول محمد الورفلي، القيادي في مؤتمر القبائل الليبية، وابن مدينة بني وليد لـ“العرب”، “تنظيم داعش، ومن معه من جماعات مسلحة مختلفة، يخرج للدروب والبلدات على حواف الهروج لاصطياد المؤن لنفسه، واصطياد رجال الجيش لقتلهم، وكذلك لاصطياد شخصيات قبلية مُعتبرة يمكن له مقايضتها بملايين الدولارات”.

تقع الهروج وسط الصحراء إلى الجنوب الشرقي لطرابلس، والجنوب الغربي لبنغازي. أما في الجنوب منها فتمتدُّ كثبان رملية قاحلة، إلى أن تصل إلى سلسة جبال تيبستي على الحدود الجنوبية مع تشاد. ويعتقد الورفلي أن عدد المسلحين هنا بالآلاف من مختلف المشارب، سواء ممّن فروا من مدن الشمال الليبي، أو ممّن جاؤوا عبر الحدود. ويقول “كثير منهم تونسيون”.

تظهر الهروج على الخارطة كبقعة حبر سوداء. تتقاطع على حدودها من الشرق والغرب، دروب صحراوية طويلة تصل بين أقصى الحدود الغربية، حيث الجزائر، وأقصى الحدود الشرقية، حيث مصر. في عهد معمر القذافي كان النشاط عبر هذه الدروب يقتصر على تجار المخدرات الدوليين، لكن ما بعد 2011 انقلب الحال.

ويشير مصدر أمني لـ“العرب” إلى أن “الأبواب التي يصل عبرها المئات من المتطرفين إلى الهروج، كل بضعة أسابيع، ما زالت مفتوحة من خلال التسلل من الحدود التونسية، ومن حدود ليبيا مع تشاد والسودان. ويمكن من الهروج أيضا الوصول إلى الجزائر عبر مسارب قرب بلدة غدامس، وأخرى في المثلث الحدودي الجنوبي الغربي.

أما الوصول إلى مصر فيكون، عادة، عبر دروب جبل عبدالمالك الرملية الواقعة جنوب واحة الجغبوب، ومن منطقة العوينات في أقصى الجنوب الشرقي. وتنفق كلّ من الجزائر ومصر أموالا ضخمة من أجل تأمين الحدود مع ليبيا.

ويلفت اللواء أركان حرب، عادل العمدة، المستشار في أكاديمية ناصر العسكرية العليا بالقاهرة إلى أن “الهروج والجنوب الليبي، تحوّلا لمنطقة تهديد عابر للحدود. وهذا تهديد لدول الجوار. مصر ودول الساحل والصحراء الأفريقي، تضع ذلك في الاعتبار، خاصة أن الرئيس المصري، عبدالفتاح السيسي، سوف يتسلم الشهر المقبل رئاسة بلاده للاتحاد الأفريقي، من الرئيس الرواندي، بول كاجامي”.

لكن كيف أمكن لكل هؤلاء المسلحين أن يتعايشوا سويا في الهروج، من داعش، أو القاعدة، أو غيرهما؟ يفسر ولاء خطاب، المتخصص الليبي في شؤون الجماعات الإسلامية، الأمر بقوله “يبدو أنه يوجد تعاون مرحلي بينهم. كانوا يبحثون على ملاذ آمن، ووجدوه”.

ويعرب خطاب عن مخاوفه من أن يعتاد سكان البلدات المجاورة للهروج على التعامل مع قيادات المتطرفين. ويضيف لـ“العرب”، “يجب أن توضع حلول قبل أن تتحول (الهروج) إلى مشكلة خطيرة.. أي قبل أن تعتاد القيادات الاجتماعية لهذه المناطق، على وجود (هؤلاء المسلحين)، وتقوم بالتحالف مع من يرون أنهم أقرب لمصالحهم، دون الخوف من العقاب والردع”.

هنا، حول الهروج، تنتشر واحات صغيرة تعتمد على المياه الجوفية، والزراعة، ورعي الإبل. وقد نفّذ داعش ومسلحون أفارقة هجمات دامية على معظم هذه البلدات. ومنها بلدة الفقهاء التي تقع في منطقة نائية جنوبي الجفرة وشمال غربي الهروج.

يفصل بين كل بلدة وأخرى المئات من الكيلومترات الجرداء. على مسافات متباعدة تجد نباتات قصب الخيزران وبعض الأشجار الداكنة والغزلان والطيور.

يعتقد خطاب أن قيادات من التيار الإسلامي ممن شاركت في حكم ليبيا عقب سقوط نظام القذافي، فتحت الباب لنشاط جماعات متطرفة في عموم البلاد، مضيفا “بعد خسارة التيار الإسلامي للانتخابات النيابية في 2014، وما تبع ذلك من هزائم عسكرية للجماعات المتطرفة في سرت وبنغازي ودرنة، منذ 2016 حتى اليوم، انتقل نشاط هذه الجماعات إلى الهروج بشكل تدريجي، إلى أن تكاثرت. كما أنها دخلت في تحالف تكتيكي مع متمرّدين تشاديين وقطاع طرق”.

وفقا لمعلومات محققين عسكريين، يدير كل قائد في الهروج المجموعة الخاصة به، وتجري التدريبات والغزوات المشتركة بالتنسيق بين قادة المجموعات. وعقب كل عملية يتم توزيع الغنائم بحسب مقدار المشاركة فيها. ويوجد قسم خاص للأموال يشبه المصرف المركزي للمقيمين في الهروج. تعتمد الموارد على النهب من المصارف الحكومية، ومن الأثرياء، بالإضافة إلى الفِدَى، وكذلك مصادرة قوافل الإبل التي يشتريها التجار من تشاد والسودان، لبيعها في ليبيا.

يقول الورفلي “في الهروج يختطفون بين وقت وآخر أحد رجال القبائل ويطلبون فِدية مقدارها من مليون إلى ثلاثة ملايين دينار. أنت تعرف أيضا أن قوافل الإبل يستوردها تجار من دول الجوار الجنوبي، وتأتي سيرا على الأقدام. يصل عدد القافلة أحيانا إلى ألف رأس من الإبل. هذا أصبح مطمعا للمسلحين. الآن لديهم إمكانيات كبيرة”.

ويوضح الورفلي أن غالبية المسلحين هنا أصبحوا يتحركون بملابس وسيارات مماثلة لتلك التي يستخدمها الجيش. بهذه الطريقة أوقعوا بالكثير من منتسبي المؤسسة العسكرية، من سيئي الحظ، على الدروب المجاورة للهروج. ولهذا أصدر الجيش في الأسابيع الأخيرة بطاقات خاصة لكي تميّز رجال القوات المسلحة الحقيقيين من المزيفين.

الأبواب التي يصل عبرها المئات من المتطرفين إلى الهروج ما زالت مفتوحة من الحدود التونسية، ومن حدود ليبيا مع تشاد والسودان. ويمكن من الهروج أيضا الوصول إلى الجزائر عبر مسارب قرب بلدة غدامس، وأخرى في المثلث الحدودي الجنوبي الغربي

ويبين عادل العمدة قائلا “إن الموجودين في الهروج يحصلون كذلك على دعم في صورة أموال ومقاتلين من دول إقليمية معروفة، للتوسع في تحركاتهم العابرة للحدود.. فهذه الدول، الداعمة للإرهاب، تقوم بفتح مسارات للهاربين من العراق وسوريا، للوصول إلى ليبيا، ومن ثم مدّ هؤلاء المسلحين بالإمكانيات لاستخدامهم في إثارة القلاقل في دور الجوار، ومنها مصر”.

نزل المطر على الصحراء مبكرا، بداية من شهر أكتوبر الماضي، تشكلت غدران المياه العذبة. هذا يعني ظهور نشاط لسكان البلدات المجاورة للهروج، فقد نما فِطر الترفاس المعروف في الخليج باسم الفقع، وهو بروتين أشهى من اللحم، ويباع الكيلوغرام منه بأكثر من مئة دولار. ظهر كذلك نشاط رعاة الإبل، كما ظهر صيادو الصقور والغزلان. اصطدمت حركة معظم هؤلاء بالمسلحين في الهروج، حيث بدا أن شهية هؤلاء المسلحين مفتوحة لالتهام كل شيء.

يقول صياد صقور من بلدة زلة شمال الهروج “توجهنا في الصباح الباكر إلى وادي ‘قبو الهيفوف’.. كنا نطارد صقرا، وفجأة ظهر رتل من سبع سيارات يرفع علم داعش، فهربنا”. كان الصياد، قبل 2011 يتباهى بصقوره، ويصطحب السائحين الأجانب لزيارة جبال الهروج البركانية، في سيارات الدفع الرباعي، لكن هذا لم يعد ممكنا “لقد أصبح المسلحون يستوطنون هنا”.

لا توجد في الهروج تغطية لشبكة الاتصالات الليبية. وتقول المصادر الأمنية وشهود عيان إن لدى مسلحي الهروج شبكات هاتفية خاصة للتواصل، لكن يبدو أنها تعمل في مساحات محدودة، مقارنة بمساحة الهروج الشاسعة.

تعرف الهروج لدى الليبيين باسم “الجبال السود”. يصعب الدخول إليها بواسطة السيارات إلا عن طريق أدلاء. أسس المسلحون فيها مقارّ إقامة عبارة عن خيام. لديهم سيارات دفع رباعي وكميات ضخمة من الأسلحة الخفيفة والمتوسطة، والذخيرة، ومخازن لمواد الإعاشة والوقود. يستخدمون الإبل والخيول وجذوع النخيل ومدافع عيار 14.5 مليمتر في التدريبات العسكرية. ويعلق خطاب “يمكن أن تقول إن وضع المتطرفين هنا يشبه إلى حد ما معسكرات المجاهدين عند نشأتها في أفغانستان”.

من مشارف الهروج، وعن طريق المناظير المقربة، يمكن أن ترى رتلا لمسلحين يبحثون عن فريسة. وفي الجانب الآخر يمكن أن ترى، ترويض آخرين لخيول، ضمن تدريبات المساء.

بين وقت وآخر يأتي زوّار جدد قادمين في سيارات مجهزة من خلف الحدود، ويختفي آخرون وراء الدروب في الطريق إلى دولة من دول الجوار، أو إلى بلدة ليبية للتفجير والقتل والتخريب.

خلال الأسابيع الماضية خرجت أرتال مسلحين غاضبين من الهروج لتنفيذ عمليات انتقامية في بلدات الفقهاء وتازربو وتراغن. يقول ضابط في الاستخبارات العسكرية “كان المتطرفون يريدون الانتقام، بعد أن ألقينا القبض على اثنين منهم قرب الفقهاء في أكتوبر، أحدهما مغربي الجنسية يدعى القرقعي، والثاني ليبي يعرف بلقب الفيتوري”.

يعتقد الضابط أن المسلحين في الهروج، في الوقت الراهن، يعانون من نقص في الطعام والوقود، مشيرا إلى أن الجيش الوطني، الذي يقوده المشير خليفة حفتر، تمكّن، رغم ضعف الإمكانيات، من تطويق المنطقة إلى حد ما في الفترة الأخيرة، وتحرير رهائن. ويرى أن هذا من أسباب زيادة نشاط داعش، المسعور، في عموم ليبيا، وليس في الجنوب فقط.

ويوضح “مسلحو الهروج يخشون من أي توحيد للدولة ومؤسساتها، لأن هذه الخطوة تمثّل خطرا على وجودهم على الأراضي الليبية. يشعرون بالذعر من التقدّم الحثيث لقوات الجيش في اتجاه الجنوب”.

لقد جرى توقيف القرقعي والفيتوري، بمحض الصُّدفة، فقد تعطلت سيارتهما، في بداية أكتوبر الماضي، حين كانا في طريقهما إلى داخل الهروج، قادمين من درب صحراوي من جهة الغرب، أي قرب الفقهاء. مرَّ عليهما سائق سيارة دفع رباعي كان يحمل المؤن لرعاة إبل في تلك الناحية. وطلبا منه أن يوصلهما إلى أقرب نقطة لجماعتهم داخل الهروج، وكانت تبعد نحو ستين كيلومترا.

تقول الرواية إن السائق أدرك أنه أمام اثنين من داعش المقيمين في الهروج. ولم يكن معهما غير الماء. فشاغلهما إلى أن اتصل بواسطة هاتفه من نوع “الثريا” المربوط بالأقمار الصناعية، بالجيش.

جرى نقل القرقعي والفيتوري إلى مقر احتجاز في الفقهاء، ثم إلى بنغازي، للتحقيق معهما. وسبق للقرقعي أن شن هجمات على مدينة سرت عدة مرات. وأدلى الاثنان بمعلومات تفصيلية عن عالم الهروج، وعن الدروب التي يستخدمونها للوصول إلى سبها، وإلى مدن الشمال وإلى دول مجاورة.

يقول مصدر على علاقة بالتحقيقات إن “هذا الأمر سهَّل القبض على آخرين”، مشيرا إلى أن المعلومات أكدت أن الهروج يوجد فيها قيادات خطرة مثل المصريين خالد سعيد وحسان، والليبيين أحمد الحسناوي وسالم الورفلي، والجزائريين مختار بلمختار وأبومعاوية، والتونسي أبوحيدرة، وغيرهم من دول أخرى منها مالي وتشاد والنيجر ونيجيريا والسودان والصومال.

ويضيف “عند القبض على القرقعي والفيتوري، كانت معظم هذه القيادات تقيم في منطقة تسمى المنهل داخل الهروج، وتبعد أقل قليلا من مئة كيلومتر عن نقطة للمياه العذبة تعرف بأم الغرانيق”.

اكتشف الجيش من التحقيقات مع عدة موقوفين آخرين، علاقات اقتصادية كبيرة بين مجموعات المسلحين في الهروج وسماسرة في شمال البلاد. يقول مصدر التحقيقات إن السمسار كان يشتري صهريج الوقود بستة آلاف دينار ليبي (نحو 1500 دولار) من شمال ليبيا، ويبيعه للمتطرفين في الهروج بخمسين ألف دينار.

خلال الأسبوعين الماضيين نفذ الجيش تحركات للتصدي لخطر مسلحي الهروج، وجرى توقيف قوافل وقود، وأخرى لسيارات جديدة كانت في طريقها إلى هناك. تبيَّنَ من التحقيقات أن سعر سيارة الدفع الرباعي الجديدة يبلغ ما بين مئتي ألف إلى ثلاثمئة ألف دينار. وتصل أجرة السائق الذي يقود السيارة من الشمال لإيصالها إلى المتطرفين في الهروج إلى 15 ألف دينار. ويبلغ زمن الرحلة ثماني ساعات في المتوسط. ويتحرك السائقون في قوافل عبر الطرق البرية، ويعودون جماعة في واحدة من هذه السيارات.

وعقب توقيف القرقعي والفيتوري، رد داعش ومسلحون من الهروج بعمليات انتقامية استهدفت بلدات الفقهاء وتازربو وتراغن، ما أدى إلى مقتل العشرات من العسكريين واختطاف عشرات آخرين من المدنيين، إضافة إلى سلب ونهب للسلع الغذائية والوقود.

كان من بين من قتلهم داعش في معسكر اللواء العاشر في بلدة تراغن، المقدم خالد رحومة، من أصدقاء الورفلي، الذي يوضح لـ“العرب”، “هاجموا، وأخذوا سيارات وبنزين، واستولوا على التموين الذي كان في مقر اللواء العاشر، ورجعوا إلى مكانهم في الهروج. هذه منطقة رخوة جدا”. ويؤكد عادل العمدة أن الجيش الليبي يحتاج لتعضيد كبير للتغلب على المتطرفين.

وأثناء عودة الصيادين والفضوليين من مشارف الهروج سالمين، كانت أرتال من الجيش في طريقها لمواصلة حصار المسلحين هناك، رغم البرد والريح واستمرار هطول المطر.

العرب