على مدى أشهر سيطر الحديث حول معركة إدلب الدموية والمصيرية، بالنسبة للنظام السوري وأيضا للجماعات الجهادية التي تحصّنت بهذه المنطقة، بعد أن استعاد النظام السوري السيطرة على كامل دمشق ومحيطها ثم الجنوب السوري. كما تعالت الأصوات محذرة من وقوع كارثة إنسانية في حالة شن هجوم ضد المعارضة المسلحة التي تسيطر على المنطقة، وسارعت القوى الدولية إلى التهديد بشن ضربة عسكرية على النظام في حال استعمل الأسلحة الكيميائية. لكن، فجأة تراجع كل هذا الحديث بعد إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب سحب قواته من سوريا، في خطوة، ولئن لن تتم سريعا، إلا أنها أعادت توزيع الأوراق والأدوار. وتلعب تركيا دورا رئيسا في التوزيع الجديد؛ وهي ولئن رحبت بالقرار الأميركي الذي يعني تراجع دعم الأكراد، فإنها تجد نفسها مكلفة بمهمة صعبة، قد تأتي على حساب حربها مع الأكراد، وهي أمر تصفية الجهاديين.
بيروت – تشهد محافظة إدلب، منذ أربعة أشهر، وقفا هشا لإطلاق النار، ما سمح لآخر معاقل الفصائل المعارضة والجهادية في شمال غرب سوريا بتجنب هجوم واسع كان النظام السوري ينوي القيام به. لكن، هل يمكن لسيطرة الجهاديين مؤخرا على مناطق جديدة ولانسحاب القوات الأميركية، الذي أعلنته واشنطن، أن يقوض الاتفاق الذي توصلت إليه روسيا، حليفة دمشق، وتركيا، التي تدعم مقاتلي المعارضة.
ما مصير اتفاق التهدئة
توصلت موسكو وأنقرة في 17 سبتمبر إلى اتفاق نصّ على إقامة منطقة منزوعة السلاح في إدلب ومحيطها. وتشمل المنطقة المنزوعة السلاح، والتي يتراوح عرضها بين 15 و20 كيلومترا، أطراف محافظة إدلب ومناطق سيطرة الفصائل المعارضة والجهادية في ريف حلب الغربي وريف حماة الشمالي وريف اللاذقية الشمالي.
ولئن جنّب الاتفاق الروسي التركي مناطق سيطرة الفصائل المعارضة والجهادية في إدلب ومحيطها هجوما عسكريا لوحت دمشق بشنه على مدى أسابيع، إلا أن مواجهات متقطعة جرت بين مقاتلي المعارضة والجهاديين من جهة والقوات الحكومية من جهة أخرى.
ويقول الخبير في مؤسسة القرن أرون لاند “إن الاتفاق الروسي التركي ناجح إلى حد ما. إن الوضع هادئ في إدلب الآن، بالمقارنة مع المشهد المرعب الذي كان من الممكن أن يحدث على أقل تقدير”.
ورصد مسؤول من المعارضة السورية والمرصد السوري لحقوق الإنسان تقدما لعدد من المتشددين (الثلاثاء) في هجومهم على مقاتلي المعارضة الذين تدعمهم تركيا في شمال غرب سوريا ليقتربوا من جبهات القتال مع قوات الحكومة، الأمر الذي يثير تساؤلات بشأن مصير اتفاق نزع السلاح الذي أبرم في سبتمبر بين تركيا وروسيا، والذي حال دون أن يشن الجيش السوري هجوما على إدلب. وأعلنت الفصائل المقاتلة أنها أنجزت سحب عتادها الثقيل من “المنطقة المنزوعة السلاح” تطبيقا للاتفاق. إلا إن الجهاديين، وبخاصة الذين ينتمون لهيئة تحرير الشام، لم ينسحبوا من المنطقة العازلة، حسبما نص عليه الاتفاق. كما لم يتم فتح الطريقين السريعين اللذين يمران عبر إدلب ويصلان المناطق التي يسيطر عليها النظام بالحدود التركية.
متشددو هيئة تحرير الشام، الذين بدأوا هجومهم الأسبوع الماضي، يستعدون للتقدم صوب بلدتي أريحا ومعرة النعمان في إدلب
وتوسع هيئة تحرير الشام، بقيادة جبهة النصرة سابقا، سيطرتها على المنطقة الخاضعة للمعارضة والتي تضم محافظة إدلب ومناطق مجاورة في محافظات حلب وحماة واللاذقية. وتقع إدلب في أقصى شمال غرب سوريا، وهي آخر معقل للمعارضة حيث تتمركز القوات التركية. وهي متاخمة لأراض تسيطر عليها المعارضة التي تدعمها أنقرة قرب الحدود التركية.
وانتشر الجيش السوري على طول الجبهات القريبة من المتشددين ليصد أي هجوم لهم. وقال المتحدث باسم الجيش الرائد يوسف حمود إن المتشددين انتزعوا السيطرة على أربع قرى في سهل الغاب من مقاتلي معارضة منافسين (الثلاثاء).
وذكر أن متشددي هيئة تحرير الشام، الذين بدأوا هجومهم الأسبوع الماضي، يستعدون للتقدم صوب بلدتي أريحا ومعرة النعمان في إدلب، بينما قال المرصد السوري لحقوق الإنسان إن معارك شرسة دارت في سهل الغاب. وأضاف أنه إذا سيطرت هيئة تحرير الشام على أريحا ومعرة النعمان وبعض القرى بينهما، فستكون قد سيطرت فعليا على كل إدلب.
وذكر المرصد وأحد السكان أن القتال يقع داخل منطقة عازلة أقيمت بموجب الاتفاق بين روسيا وتركيا على طول جبهات القتال. وقال أحد سكان سهل الغاب إن الفصائل التي تدعمها تركيا “لم يعد أمامها خيار سوى القتال حتى الموت”، مضيفا أن “الفصائل محاصرة في منطقة صغيرة للغاية” وأن مكاسب هيئة تحرير الشام تسببت في نزوح بعض المدنيين صوب أراض تسيطر عليها الحكومة.
ما هي استراتيجية الجهاديين
تسيطر هيئة تحرير الشام على 60 بالمئة من مساحة محافظة إدلب، فيما تسيطر الجبهة الوطنية للتحرير وهي تحالف لفصائل مقاتلة تدعمها تركيا، على المناطق المتبقية من المحافظة.
وشنت هيئة تحرير الشام، خلال الأيام الماضية، هجوما داميا ضد مواقع الجبهة الوطنية للتحرير وتمكّن الجهاديون من السيطرة على كامل الأراضي التي كانت خاضعة للفصائل المقاتلة في ريف حلب الغربي، حسبما ذكر المرصد السوري لحقوق الإنسان.
ولفت الباحث توماس بيرييه إلى “إن استراتيجية هيئة تحرير الشام هو الظهور كأمر واقع لا يمكن إنكاره، أي أنها القوة المسيطرة، أي أنها القوة المهيمنة”.
وأضاف أنها تهدف لأن تبين “للجهات الفاعلة الدولية المعادية للمجموعة” بأنه لا يمكنها “القيام بأي شي من أجل طرد” الهيئة من إدلب.
ولدى الاتفاق بينهما في سبتمبر، تعهدت موسكو وأنقرة بـ”محاربة الإرهاب في سوريا”. ويرى خبراء أن على تركيا إخضاع هيئة تحرير الشام. ولفت بيرييه إلى وجود “استراتيجية التضييق التدريجي”.
ما هو مصير معقل الفصائل المقاتلة
تشهد سوريا منذ العام 2011 نزاعا مدمرا تسبب بمقتل أكثر من 360 ألف شخص وبدمار هائل في البنى التحتية ونزوح وتشريد أكثر من نصف السكان داخل البلاد وخارجها. وزاد من تعقيد النزاع السوري دخول عدة أطراف أجنبية في الصراع.
وأعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب قبيل عيد الميلاد بشكل مفاجئ نيته سحب القوات الأميركية المنتشرة في سوريا والتي يقدر عددها بنحو ألفي جندي. وأثار هذا القرار مخاوف حلفاء واشنطن، لكن سرعان ما عدّل ترامب موقفه نسبيا وتحدث عن انسحاب “بطيء” يتمّ “على مدى فترة من الزمن”.
باحثون: من المؤكد أن الانسحاب العسكري الأميركي سيكون له تأثير سلبي على الوضع في إدلب
وقال ترامب في تغريدة “سنغادر بوتيرة مناسبة بينما نواصل محاربة داعش والقيام بكل ما هو ضروري في الوقت نفسه. وهذا لا يختلف عن تصريحاتي الأصلية”.
وفوجئت قوات سوريا الديمقراطية التي تهيمن عليها وحدات حماية الشعب الكردية، وشريكة واشنطن في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا، بالقرار فأعادت حساباتها وباشرت تقاربا مع دمشق، خوفا من تهديدات تركيا المجاورة.
ويقول الباحث في مركز تشاتام هاوس للأبحاث، حايد حايد، الذي أثار عدة سيناريوهات محتملة “من المؤكد أن الانسحاب العسكري الأميركي سيكون له تأثير سلبي على الوضع في إدلب”.
واعتبر أن “إدلب ستكون تلقائيا الوجهة المقبلة” للنظام في حال تمكن من استعادة السيطرة على الأراضي الخاضعة للأكراد. كما ستضطر تركيا للقبول بـ”تسوية” مع روسيا حول إدلب إذا سمحت موسكو لأنقرة بطرد القوات الكردية من حدودها.
العرب