لماذا “يطهر” ملايين الهنود أنفسهم بالاستحمام في نهر “قذر”؟

لماذا “يطهر” ملايين الهنود أنفسهم بالاستحمام في نهر “قذر”؟

يشهد نهر الغانج في الهند هذه الأيام طقوس استحمام يمارسها الملايين عبر شبه القارة الهندية، رغم تلوث النهر بالفضلات الصناعية والنفايات العضوية؛ مما طرح تساؤلات عن قداسة هذه المياه وطهارتها.

القدرة على الوصول إلى منابع النهر البعيدة حيث تتجمع المياه، تضع المزيد من القيمة على خصائص التطهير، فالرحلات الشاقة التي تقوم بها القوميات والأرامل والمسنون تضفي مزيدا من “الحرمة” على المرتفعات الثلجية التي ينبع منها الغانج، والمناظر الطبيعية التي يتدفق من خلالها.

يرغب معظم الهندوس المتدينين في رؤية منبع نهر الغانج ومساره مرة واحدة في حياتهم، هذه الرغبة هي جزئيا اعتراف تاريخي بالسلطة الهائلة للنهر وتضاريسه المختلفة، فهو أكثر بكثير من مجرد نهر ذي قيمة رمزية وأهمية عملية.

المعتقدات الهندوسية
ولا يعتقد الهندوس في شمال الهند بشكل عام أن ماء الغانج هو ببساطة مورد طبيعي، بل هو عندهم جزء من نظام كوني خارق، وهنا لا يمكن فصل علم البيئة والجوانب المتعلقة بالثقافة المادية عن التكوين المقدس للنهر.

ومن المنطلق نفسه، فهذه الجوانب أيضا أساسية للأفكار عن الكون في أنظمة المعتقدات الهندوسية في شبه القارة الهندية، وقد تكون هذه الأفكار القديمة للنهر المقدس ومناظره الطبيعية عناصر مشتركة مع الدورة الحياتية والمخاوف البيئية اليوم.

كيف يمكن تفسير القناعة بنقاوة مياه نهر الغانج والإيمان الدائم بخصائص التطهير والفرح والشفاء لمثل هذه المادة، في مواجهة المؤشرات المشؤومة للتدهور البيئي مثل الهجمة المسببة لتآكل السدود والنباتات الكيميائية ورواسب الطمي الخانقة على طول الدلتا الدنيا للنهر والكميات الهائلة من النفايات العضوية؟

الأساطير الهندية مليئة بالقصص عن خصائص الشفاء المعجزة لمياه الغانج، والتي أعطت المرضى والمصابين الأمل، إن لم يكن في هذه الحياة ففي الحياة التالية بحسب معتقداتهم.

وأشار تقرير لجمعية علم الأوبئة في لندن أن أواخر القرن التاسع عشر شهدت إلقاء مصابين بالبرص في النهر، على أمل أن تشفى أجسامهم من العدوى، حتى لو ماتوا.

وفي واحدة من الأساطير العديدة المحيطة بكاتب الأغاني الشهير الصوفي الكبير الذي سجل في النص المقدس للسيخ والمسمى “عدي غرانث”، يذكر أن كمال بن كبير التقى رجلا مصابا بالجذام على وشك إغراق نفسه في نهر الغانج، فطلب منه كمال أن يكف عن هذا، ثم أخذ بعضا من ماء الغانج ورشه عليه فشفي!

وبذلك يرجع إلى كمال هذا ما وصل إليه الإيمان اليوم بمثل هذه القوى المعجزة لمياه الغانج، والذي بات منتشرا عبر العديد من المناطق النائية في الهند.

طقوس التطهير والقبول
سمعة طهارة ماء الغانج جعلته مادة مطلوبة في كل طقوس المعابد للتطهير والقبول. فقد كانت مياهه تشتهر بمذاقها وخصائصها الدائمة كما يقول المؤمنون بها، فقد كان الإمبراطور المغولي أكبر -الذي لم يعجبه طعم مياه الآبار- يشرب فقط من نهر الغانج، ويصف مياهه بأنها مصدر الحياة، وكان يرسل فقط أكثر خدمه جدارة بالثقة لشراء مياه الغانج من ضفافه.

وعندما قرر الزعيم الهندي محمد بن تغلق نقل عاصمته من دلهي إلى ديوكير لفترة وجيزة، كانت مياه الغانج تأتيه من وادي الشمال في رحلة تستغرق أربعين يوما.

في أواخر القرن التاسع عشر، أصبح علماء وخبراء الهيدرولوجيا البريطانيون مفتونين بحقيقة أن مياه نهر الغانج لم تكن سيئة، حتى بعد فترات طويلة من التخزين، على عكس مياه الأنهار الأخرى التي سرعان ما يتعزز فيها نقص الأكسجين وتنمو البكتيريا غير الهوائية.

وفي عام 1896، كتب الطبيب البريطاني إي. هانبري هانكين في مجلة فرنسية أن ميكروبات الكوليرا التي بقيت 48 ساعة في الماء المقطر ماتت في غضون ثلاث ساعات في ماء الغانج.

لقد أصبح الدكتور هانكين -وهو محلل حكومي إبان فترة الاستعمار البريطاني- مهتما بالعرف الهندوسي بغمس الموتى في مياه النهر، حيث اكتشف أنه بعد ست ساعات من تلك العملية اختفت الميكروبات تماما.

هل الهنود على حق؟
وخشية من الانتقام من الهندوس المتدينين، وجدت الحكومة البريطانية أن من غير العملي التدخل في مثل هذه الممارسة غير الرسمية، حتى خلال الأوبئة المتكررة للكوليرا والطاعون والأمراض الأخرى.

وخلص الدكتور هانكين إلى أن مياه نهري الغانج ويامونا في الهند قاتلة للجراثيم بشكل عام ومدمرة بشكل خاص للكوليرا، وأرجع هذا إلى الأحماض المتطايرة الموجودة في الماء، لكن الفرنسي فيليكس دي هرئيل يفترض أن التطهير ربما يرجع إلى وجود “عاثية البكتريا”.

ولاحظ الطبيب البريطاني سي نيلسون أن مياه نهر الغانج المأخوذة من قبل السفن التي سافرت إلى إنجلترا، بقيت نقية في الرحلة الطويلة.

وقد دهش دي هريئل عندما وجد أن أقدام موتى الكوليرا والزحار الطافية في نهر الغانج كانت خالية من أي شكل من أشكال العدوى.

ولا يزال محللو المياه، وكيمياء التربة وعلماء البيئة يناقشون ما إذا كان بإمكان ماء الغانج أن يدمر الإشريكية القولونية (جرثومة الأمعاء الغليظة) والبكتيريا الضارة الأخرى.

تُقدّم أسباب كثيرة لهذه الإمكانات، فقد أشار بعض العلماء إلى تأثير تعرض سطح الماء طويلا للأشعة فوق البنفسجية.

ومن التفسيرات الممكنة التي درسها كبير علماء المياه الهندية ديفيندرا بهارجافا، هو أن الغانج لديه خصائص كيميائية وبيولوجية تساعد على امتصاص كميات هائلة من النفايات العضوية.

أما المؤلف جوليان هوليك، الذي تابع هذا السؤال مع العديد من العلماء الهنود، فهو مقتنع بأن الصفات التطهيرية للغانج ترجع إلى التركيز الكبير لفيروس البكتيريا الموجود بالطين في ضفاف النهر والبرك الضحلة، وينشط الفيروس حالما يصل تركيز البكتيريا إلى عتبة معينة.

ومع ذلك، فإن كيفية ارتباط الفيروس بالضبط بإزالة الملوثات في مياه الغانج هي مسألة لم تتم تسويتها بين الباحثين، ولا يوجد تفسير واضح لحقيقة أن المهرجانات -مثل كومبه وكارتيك بورنيما- التي ينغمس فيها أكثر من 16 مليون شخص في الاستحمام الجماعي في نهر الغانج، نادرا ما تؤدي إلى تفشي وباء أو انتشاره.

المصدر : مواقع التواصل الاجتماعي