ينطلق «أسطول الحرية الثالث» لكسر الحصار عن قطاع غزة مع نهاية الأسبوع الحالي وسيحمل على متنه عددا من الشخصيات المعروفة عالميا المتعاطفة مع الفلسطينيين منهم أعضاء في البرلمان الأوروبي ورجال إعلام ورياضة وثقافة وفن بحيث يصل، إذا لم تعترضه إسرائيل، إلى غزة في العشرين من الشهر الجاري.
رئيس الحملة الأوروبية لكسر الحصار عن غزة أعلن أن الرئيس التونسي السابق المنصف المرزوقي سيكون ضمن الشخصيات المشاركة في الأسطول الذي يحمل مساعدات رمزية للفلسطينيين تشمل أجهزة استقبال وأدوية للأطفال ومعدات طبية.
معروف أن إسرائيل قامت في المرة الأولى بالهجوم على سفينة «مافي مرمرة» المشاركة في أسطول الحرية الأول وقتلت تسعة متضامنين أتراكا على أيدي وحدات الكوماندوس البحري الإسرائيلي وهو ما جعل كل الحملات اللاحقة محفوفة بالمخاطر فإسرائيل تعتبر نفسها فوق القوانين الدولية والشرع الإنسانية.
مشاركة المنصف المرزوقي محمّلة بالدلالات التاريخية والسياسية.
لقد أعطى المرزوقي الذي وصل إلى منصب الرئاسة عبر النضال من أجل حقوق الإنسان، وخرج منه بشكل مشرّف وحضاريّ رغم معرفته عن مساهمة قوى إقليمية عربية في تمويل خصومه (آخرها ما نشرته صحف نرويجية عن تورّط أشخاص بعينهم في هذه القضية) وإسقاطه ضمن معركتهم ضد حلفائه من حركة «النهضة» التونسية المحسوبة على تيارات الإسلام السياسي.
كان وصول المرزوقي إلى الرئاسة التونسية بانتخابات ديمقراطية، عقبت ثورة على دكتاتور، سابقة فريدة في السياسة العربية، وهذه الفرادة طبعت أقوال الرجل (وأفعاله) حول شؤون العالم العربي وشجونه ومنها مطالبته في الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2013 بإطلاق سراح الرئيس المصري السابق محمد مرسي (وهو ما أدى لاستدعاء القاهرة سفيرها في تونس احتجاجا) وفتح معبر رفح مع غزة، ووقوفه مع الشعب السوري ضد نظامه المستبد، ومواقفه الحقيقية من الشعب الفلسطيني، وكلها أقوال وأفعال ذات كلفة باهظة لا تشبه في حال تصريحات «التعبير عن القلق» و»الإدانة» والتهديد بالرد على إسرائيل «في الوقت المناسب»، التي لا تني تزيد من مرارات الشعب الفلسطيني وسخريته من الزعماء العرب والعالميين.
تعيد مشاركة المرزوقي التأكيد على العلاقات العميقة بين ضفتي المتوسط الشرقية والجنوبية، بدءاً من قرطاج التي كانت إحدى تجليات الرابطة العظيمة بين الكنعانيين القادمين من شواطئ بحر المتوسط (الذين أصبحوا بفضل الاستعمارين الفرنسي والبريطاني بعد الحرب العالمية الثانية ثلاثة بلدان وشعوب: سوريا ولبنان وفلسطين) مع التونسيين من سكان شمال إفريقيا الأوائل.
وحروب الفلسطينيين والعرب مع إسرائيل قد تكون مناسبة أيضاً لاستذكار تاريخ العلاقة الأسطورية التي أسست لشرخ الشرق/الغرب (أو الشمال /الجنوب بالنسبة لبلدان شمال إفريقيا مع أوروبا) وخصوصاً حين قامت بها روما بدحر قرطاج بعد عدة حروب سجّلها التاريخ العسكري العالمي، وانتهت بقتل وسبي أهلها وتدمير بيوتها وقلاعها ورشّ أراضيها بالملح كي لا تنبت زرعاً.
غير أن هذه المقدمات التاريخية وصولاً إلى عواقبها الحالية التي نرى مشاهدها دماً وخراباً وإبادة بين طرفين يحاول كل منهما إفناء الآخر لا تستدعي، بحسب قراءتنا لمواقف المرزوقي المنسجمة، القناعة بفقه الإفناء المتبادل هذا، بل تصل بنا إلى مساق متّصل من النضال المدنيّ غير العنيف، تحضر فيه تجربته في الطب الشعبي الجماعي (فهو طبيب)، وفوزه، خلال شبابه، بمسابقة حول فكر المهاتما غاندي، وسجنه عام 1994، وإطلاق سراحه على خلفية حملة دولية ساهم فيها نلسون مانديلا، وتأسيسه مع رفاق له المجلس الوطني للحريات، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية، وكلها نقاط علام تدلّ على احترام الشرائع الإنسانية والعدالة والبشر أولاً وأخيراً.
مشاركة المرزوقي في أسطول الحرية 3 أمر يعيد النضارة لفكرة العدالة ويوجّه البوصلة من جديد نحو فلسطين.
القدس العربي